التفاضل بين المقاصد والوسائل
لقد شاء الله تعالى أن يجعل الأشياء خاضعة لقانون التفاضل، جارية على سنة التفاوت، فاصطفى بعض الأشخاص على بعض، وفضل بعض الأعمال على بعض، وشرف بعض الأزمنة على الأمكنة على بعض، كما قال تعالى :
(( وربك يخلق ما يشاء ويختار ))1 ، وقال تعالى : (( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ))2 ....
وسنة التفضل هذه شاملة للمقاصد والوسائل، فالمقاصد أشرف من الوسائل، لأن المقاصد مطلوبة لذاتها، والوسائل لم تطلب إلا للوصول بها إلى المقاصد .
قال الغزالي رحمه الله : (( اعلم أن الشئ النفيس المرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره، والى ما يطلب لذاته، والى ما يطلب لذاته ولغيره، وما يطلب لذاته أفضل وأشرف مما يطلب لغيره ... ))3 .
ولهذا (( متى حصل المقصود سقط اعتبار الوسيلة )) و (( متى ثبت أن الوسيلة لا تؤدي إلى مقصودها لمانع لم يكن لمباشرتها )) و (( متى تعارض اعتبار المقصود مع اعتبار الوسيلة، فاعتبار المقصود ومراعاته أولى )) .
وهذه القواعد كلها تدل على شرف المقاصد وتقديمها على الوسائل .
وذكر القرافي _ رحمه الله _ الوسائل، ثم قال : (( غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها ))4 وسلم ذلك ابن الشاط رحمه الله .
وعليه كان الثواب على المقاصد أعظم من الثواب على الوسائل، وكلما كان الشئ أشرف كان ثوابه أعظم 5 .
فالإيمان بالله تعالى والصلاة أشرف من طلب الرزق والسعي إلى المساجد، والثواب على الأول أعظم من الثواب على الثاني، فصاحب التوحيد والإيمان مهما فعل من الذنوب لا يخلد في النار _ وإن دخلها _ ما دام متمسكا بعرى التوحيد .
ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال وأشرفها، قال : (( الإيمان بالله )) ثم قال : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ... ))6 .
قال الإمام العز بن عبد السلام _ رحمه الله _ : (( وجعل الجهاد تلو الإيمان، لأنه ليس بشريف نفسه، وإنما وجب وجوب الوسائل ))7 .
ولأفضلية المقاصد تقدم في الذكر على الوسائل عند اجتماعهما .
قال ابن القيم رحمه الله : (( وتقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة، من باب تقديم الغايات على الوسائل، إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها ... ))8 .
وذكر القرافي هذا المعنى، فقال : معللا الأصوليين بالسبر والتقسيم9 بدل التقسيم والسبر : (( لأنا نقسم أولا، ثم نقول في معرض الاختبار لتلك الأوصاف الحاصلة في التقسيم : (( هذا لا يصلح، وهذا لا يصلح، فتعين هذا )) فالاختبار واقع بعد التقسيم، لكن التقسيم لما كان وسيلة للاختبار، والاختبار هو المقصد، وقاعدة العرب تقديم الأهم والأفضل، قدم السبر لأنه المقصود والاهم، وأخر التقسيم لأنه وسيلة أخفض رتبة من المقصد ... ))10 .
وأقره على ذلك الطوفي الحنبلي11 واستظهره العلوي12 .
ومن لطيف ما يدل على هذا المعنى، قول أبي بكر بن دريد 13 :
العالم العاقل ابن نفســـه أغناه جنس علمه عن جنسه
كن ابن من شئت وكن مؤدبا فإنما المرء بفضل كيســه
وليس من تكرمه لغـــير مثل الذي تكرمه لنفســه14
وشرف المقاصد أيضا يتجلى من جهة قلة الاختلاف فيها بالنسبة للوسائل، فإن دائرة الخلاف فيها أوسع، فالمقاصد أشرف من هذه الحيثية أيضا .
وأما شرف الوسائل فمن جهة توقف حصول المقاصد على الوسائل، بحيث لا يتوصل إليها _ عادة _ إلا بتعاطيها، ومباشرتها .
فارتفاع البلاء والمصائب عن الأمة _ مثلا _ لا يتحقق إلا بمباشرة وسائله، والأخذ بأسبابه، من التوبة الصادقة، وإقامة شريعة الله في المجتمع، قال تعالى : (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ))15 .
وكذلك أداء الصلاة مثلا في المسجد لا يتحقق إلا بوسيلة السعي إلى المسجد، وقطع المسافة .
فالوسائل متقدمة على المقاصد من حيث التحصيل والمباشرة، قال القرافي : (( والوسائل يتقدم فعلها شرعا ))16 .
وبناء على هذا المعنى كان الثناء مقدما على الطلب والدعاء، لأنه وسيلة إليه، كما جرت عادة الناس مع كبرائهم أن يقدموا الثناء قبل الطلب، استعطافا لأنفسهم، وتحقيقا لمطالبهم17 .
ولما سئل بن عيينة18 _ رحمه الله _ عن قوله صلى الله عليه وسلم : (( أفضل الدعاء دعاء عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا اله إلا الله وحده لا شريك له ))19 .
فقيل لسفيان : هذا الثناء فأين الدعاء ؟ فأنشد أبيات أمية بن أبي الصلت20 :
أأطلب حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحيـاء
إذا أثنى عليك المرء يومـا كفاه من تعرضه الثنــاء
كريم لا يغيره صـــباح عن الخلق الجميل ولا مساء
وعلمك بالحقوق وأنت قدما لك الحسب المهذب والوفاء 21
ولاحظ بعض العلماء هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم : (( أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم ))22 .
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الثناء والتمجيد في الركوع، وأخر عنه الدعاء، وجعله في السجود، ليكون الثناء قبل الطلب، والوسيلة قبل المقصود 23 .
والوسائل وإن كانت متقدمة على المقاصد من حيث الفعل والمباشرة، فهي متأخرة عنها من حيث القصد والتعلق الذهني، فالعقلاء يفكرون في المصلحة المقصودة أولا، وتتعلق بها إرادتهم ورغبتهم، ثم يقصدون الوسائل المؤدية إليها، ويباشرونها، فالمقاصد أول ما يتعلق به القصد والفكر، والوسائل أول ما يباشر ويفعل .
وذلك كما قيل : (( أول الفكرة أخر العمل، وأخر الفكرة أول العمل ))24 .
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله : (( العلة الغائية25 مقدمة في التصور والقصد، وإن كانت مؤخرة في الوجود والحصول ))26 .
وينبغي أن يعلم أيضا أن الوسائل وإن تميزت ببعض وجوه الفضل إلا أن هذا التميز لا يستلزم أفضليتها على المقاصد مطلقا، إذ المزية لا تقتضي الأفضلية .
وقد ضرب القرافي لذلك مثلا بالأذان والإقامة، فإنهما وسيلتان إلى جماعة الصلاة، وقد جاء في الحديث أن الشيطان ينفر منهما، بينما الصلاة _ وهي المقصود منهما27 _ لا ينفر منها، ولا يهابها .
فهذه مزية، ولا تقتضي كون الأذان والإقامة أفضل من الصلاة .
وأقره ابن الشاط على ذلك28 ، والله أعلم .
= = = = = = = = = = = =
1 _ سورة القصص 68
2 _ سورة الحج 75
3 _ إتحاف السادة المتقين 1/ 124
4 _ الفروق 2/ 33
5 _ قواعد الأحكام 1/ 31
6 _ رواه مسلم في صحيحه- كتاب الإيمان- 1/ 88 برقم 83
7 _ قواعد الأحكام 1/ 47
8 _ مدارج السالكين 1/ 87، وأصل الكلام لشيخه ا؟لإمام ابن تيمية رحمه الله، انظر : النبوات 113
9 _ هو في الاصطلاح : (( حصر أوصاف المقيس عليه وإبطال ما ليس صالحا للعلية )) . قال في المراقي :
والسبر والتقسيم قسم رابع أن يحصر الأوصاف فيه جامع
ويبطل الذي لها لا يصلح فما بقي تعيينـه متضح
انظر : نشر البنود 2/ 158- البحر المحيط – 5/ 222- شرح الكوكب 4/ 142
10 _ شرح تنقيح الفصول 398
11 _ شرح مختصر الروضة 3/ 410
12 _ نشر البنود 2/ 158- 159
13 _ هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، إمام في علوم العربية، أخذ عن الرياشي وأبي حاتم .. وأخذ عنه السيرافي وأبو علي القالي وابن خالويه، له ( الجمهرة ) و ( الأمالي ) و ( أدب الكاتب ) ولد عام 223، وتوفي عام 321، انظر : نزهة الألباء 191- طبقات الزبيدي 183
14 _ أدب الدنيا والدين للماوردي 107
15 _ سورة الرعد 11
16 _ الذخيرة 1/ 155
17 _ انظر : تهذيب الفروق 2/ 3- 4
18 _ هو الإمام أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي الملكي، محدث ومفسر وفقيه .. أخذ عن عمرو بن دينار وابن شهاب وزيد بن أسلم والسختياني وأخذ عنه حماد بن زيد وابن مبارك والشافعي وابن حنبل، ولد عام 107 هـ، وتوفي عام 198 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 8/ 454- الخلاصة للخزرجي 145
19 _ رواه مالك ي الموطأ مرسلا- كتاب الصلاة – 1/ 214- 215- وفي كتاب الحج 1/ 422- 423، ورواه الترمذي – الدعوات – 9/ 219 برقم 3579 بلفظ ( خير الدعاء .. ) . وقال : ( حديث حسن غريب من هذا الوجه )، ورواه الطبراني في الدعاء 2/ 1206 من حديث علي رضي الله عنه، وقال الحافظ ابن عبد البر : ( لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث كما رأيت ولا أحفظه بهذا الإسناد مسندا من وجه يحتج بمثله .. ) ثم روى له شواهد وقال : ( ومرسل مالك أثبت من تلك المسانيد ... وقد روي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق شتى ) ..التمهيد 6/ 39- 41
20 _ اسمه عبد الله بن ربيعة بن عوف الثقفي وقيل غير ذلك، شاعر جاهلي أدرك الإسلام، ولكنه لم يسلم، وأغلب شعره في الإلهيات والآخرة، مات بالطائف سنة 9 هـ، انظر : خزانة الأدب 1/ 247- 253- الإصابة 1/ 134
21 _ انظر : التمهيد لابن عبد البر 6/ 44- 45
22 _ رواه مسلم- كتاب الصلاة – 1/ 348 برقم 479
23 _ انظر : تهذيب الفروق 2/ 4
24 _ انظر : المفردات للراغب 179- مجموع الفتاوى 10/ 284
25 _ يقسم المناطقة العلة إلى قسمين :
أ_ العلة الغائية : وهي ( ما يوجد الشئ لأجله )، وقيل : ( ما يبعث الفاعل على الفعل ) وقد تسمى ( السبب ) أيضا
ب- العلة الفاعلة : وهي : ( ما يوجد الشئ بسببه ) وقيل ( ما يوجد شيئا )
انظر : التعريفات 155- الكليات 3/ 22
26 _ النبوات 113
27 _ كما في صحيح مسلم- كتاب الصلاة- 1/ 290- 291 برقم 388- 389
28 _ انظر : الفروق 2/ 144
إرسال تعليق