المتخيّل في ((قرط أمي)) للميداني بن صالح ـــ د.محمد نجيب العمامي-
يُردّ اختيارُنا الاشتغالَ بديوانِ الميداني بن صالح الأوّلِ "قرط أمّي" إلى أسباب بعضها ذاتيّ وبعضها الآخر موضوعيّ. ولعلّ السّببَ الذّاتيّ لا يحتاج إلى إيضاح. أمّا الأسباب الموضعيّة فأهمّها على الإطلاق أنّ الدّيوانَ ينتمي إلى نموذج من الشّعر التّونسيّ راج في ستّينيّات القرن الماضي وارتبط بمذهب في القول الأدبيّ كان له إلى وقت غير بعيد سطوةٌ وسلطانٌ هو مذهب الالتزام في الأدب. يقول العروسي المطوي مقدِّماً الدّيوانَ وصاحبَه: "وإنّ إيمانَه المطلقَ بالحرف ورسالته، وتعلّقَه الصّادقَ بشعبه ووطنه، وتمسّكَه القويَّ بمبدإ سعادة الإنسان وإسعاده، جعلته كلُّها يمثّل المفكّرَ الملتزمَ، وأكاد أقول، المتطرّفَ في التزامه، لأنّه لا يفهم معنًى للتّلفّظ بالوطنيّة أو الحديث عن الاشتراكيّة متى حاد "الحرف" عن ذلك عقيدة منه بأنّ الأديب الأصيل مسؤول وصاحب رسالة"(2).
ولعلّ السّؤال الذي يُطرح في هذا الصدّد هو كيف يُمكن الملاءمة بين جنس أدبيّ من مقوّماته الأساسيّة الخيالُ والحرّيّةُ في أوسع معانيها ومذهبٍ في القول يعتبر الأدب رسالةً أي أنّه مذهب قائم على أسس قد تُعتبر قيداً يشلّ عمليّة الإبداع؟ وبعبارة أخرى ما هو حظّ المتخيّل في ديوان ينشدّ فيه الشّعرُ إلى الواقع بأكثرِ من سبب؟ ولا يجد هذا السّؤال مبرّره في استتباعات مفهوم الالتزام الفنّيّة فحسب وإنما يجده في تصوّرنا لمفهوم المتخيّل. فالمتخيّل، في نظرنا، هو ما أنتجته مخيّلةُ فرد أو جماعة منطلقةً ممّا هو كائن لتصل إلى ما هو ابتداع وخلق. فالعلاقة بين المتخيل و"الواقع" في الأدب وتحديداً في الشّعر ليست علاقة تضادّ ولا علاقة تكامل ولا علاقة حضور بغياب وإنّما هي علاقة تفاعل. ولعلّ شعريّةَ نصّ ما تقاس بمدى حضور المتخيّل فيه ونعني بالمتخيّل ذاك الذي لا ينهض على التّكرار والاجترار وإنّما يسعى إلى الإتيان بجديد الصوّر والمعاني. فالمتخيّل في اعتقادنا، صنفان: "متخيّل جاهز مؤسّس ومتخيّلٌ تهفو الكتابة إلى إنتاجه وربما إلى إعادة إنتاجه أي تحويله بهذا القدر أو ذاك"(3). في الأوّل تقليد وتحنيط وتجفيف لينابيع الخيال وفي الثّاني رفض للموجود وسعي إلى الخلق والابتكار. فإلى أيّ الصنّفين ينتمي التخيّل في ديواننا؟
يتكوّن الدّيوان من تسعة وعشرين نصاً شعرياً موزّعة على خمسة أبواب هي: "من مذكّرات تلميذ ريفيّ" (ستّة نصوص) و"أشباح" (خمسة نصوص) و"رؤى" (أربعة نصوص) و"أشواق" (ستّة نصوص) و"بطولة شعب" (ثمانية نصوص). وقد استخدمنا مصطلح نصّ شعريّ عوض مصطلح قصيدة بسبب اندراج الدّيوان من جهة الشّكل على الأقلّ في الشّعر الحديث (العنوان والسّطر الشّعريّ الذي عوّض البيت وغياب الرويّ الواحد الموحِّد...). أمّا الأغراض فيمكن رّدها جميعاً إلى أغراض الشعر العربيّ القديمة. ومنها الفخرُ. وهو يُدرك أوّلَ ما يُدرك في "من مذكّرات تلميذ ريفيّ". فهذه "اللّوحات" من سيرة الشّاعر الذّاتيّة تقول ضِمناً كلاماً من قبيل: "أنا الرّيفيّ الفقير كافحت وتعبت فنجحت. لذلك فمسيرتي في الحياة جديرة بأن تُروى ليعرفها النّاسُ وينسُجوا على منوالها إن استطاعوا". والفخر يتجاوز الذّاتَ والأهلَ ليشمل الأمّةَ، قبيلةَ الأزمنةِ الحديثةِ. يقول الشّاعر في "ذبابة":
"[...]
سائلي "بابلَ" عنّا و"معانْ"
و"مُخا" في "قتبانْ"
سائلي "قرطاج" عنّا
يوم كنّا رسلاً نبني الحضارهْ
فإذا القفر عمارهْ
وتحدّينا البحارْ
وملأناها تجارهْ [...]" (ص44).
هذا الفخر المقترِن بالماضي نحواً ومعنى شبيه بالرّثاء. أمّا الرّثاء، بحصر المعنى، أي بوصفه مدحاً في صيغة الماضي فحاضر في الدّيوان. يقول الشّاعر راثياً بدر شاكر السّيّاب في "رسالة تعزية إلى بغداد":
"كان في عينيه نور أزلي
عبقريّ، عربي.
ملأ الصّحراءَ إنشاداً، وغنّى اللاّجئينْ
وأنار الدّربَ
في ليل مسيرات الرّفاق الكادحينْ.
كان بالأمس على "الخضراء" طائرْ
ينشد السّلمَ أهازيجَ، بشائرْ. [...]" (ص103).
وفي الدّيوان الهجاءُ. يقول في "ذبابة" النّصّ المُهْدى إلى آنسة قال لها ذات يوم صباح الخير فأجابته "بونجوغ" وانطلقت تحدّثه بلغة فرنسيّة مع لهجة باريسيّة فهم منها أنها تعيّره لعدم إجادته الفرنسيّة(4):
"[...]
وبنات "الرّوك" أسرابُ البغايا
يتسكّعن عرايا،
يتصيّدن بقايا رجل في زاويهْ،
في باب حانهْ
عند أوكار الخيانهْ
فوق أرض العُهْر في دنيا المهانهْ
والرّذيلهْ
حيث تُغتال الفضيلهْ
هنّ أنتِ...
أينما كنّا وكنتِ.
أنتِ يا رمزَ المهانهْ
من تكونين؟ ومن أنتِ؟
ذُبابهْ!... [...]" (ص47)
وفي الدّيوان مدح(5) وفيه الحماسة(6) والإخوانيات(7) وشعر المناسبات(8).
تبرز من خلال هذا الوصف مفارقة أولى في هذا الدّيوان تتمثّل في الجمع بين الشّكل الحديث نسبيّاً والأغراض الموغلة في القدم. أمّا الصوّرُ، موطنُ شعريّة النّصّ، فسنحاول رصدَها من خلال الموضوعات التي انبنى عليها الدّيوان ومنها موضوعات الأمّ والمرأة والأب والشّعب والعرب والغرب والزّعيم.
عندما نقرأ غالباً ما نحاول التّخلّصَ من وضع المستهلكِ والدّخولَ في حوار مع النّصّ. فنستنفر معارفنا المكتسبةَ من الكتب والحياة ومن خبرتنا بنصوص الأدب ومدارسها وتيّاراتها بل ومن معرفتنا المسبقة بالأديب وبسائر ما أنتج. فتتولّد لدينا بفعل كلِّ ذلك آفاق انتظار محدّدة قد يتحقّق بعضُها ويخيب بعضُها الآخر. وقد تتحقّق جميعاً وقد تخيب كلُّها. وإذا ما خابت كلُ آفاق انتظارنا أو جلُها يجوز غالباً القولُ إنّ النّصّ فاجأنا. والشّعر لا يفاجئنا إلاّ إذا ما ابتدع ما لم نعتد من الصوّر أي أنّه لا يفاجئنا إلاّ إذا ما كان المتخيّل فيه جامحاً على حدّ عبارة محمّد علي اليوسفي(9). لكلّ ذلك سننطلق من مواضيع الدّيوان كما ننتظر أن تكون لنقارنها بما هي عليه في الدّيوان.
الأمّ، في الأدب كما في وعينا الجمعيّ، نبعُ حنان لا ينضب ورمزُ عطاء لا يجفّ له معين. فيها تتجمّع معاني الأمان والدّفء والحماية والتّضحية. وهي، إلى ذلك، المواطن والوطن والأرض وكلّ ما يرتبط بها من جميل المعاني ونبيل القيم. ويُقابل هذه الصوّرةَ لدى البعض منّا صورةُ المرأة ما لم تكن مُطفلاً، فهي الفتنة والغواية والحِرباء والأفعى والشيّطان. أمّا أمّة العرب فهي لدى الكثيرين منّا أمّةُ المجد والقوّة والعلم والتّسامح وكلّ ما هو مضيء في قيم البشر ماضياً وحاضراً وربّما مستقبلاً. وتقابلها أمّةُ الغرب، أمّةُ الكفر والشّرّ والعدوان والتّفسّخ الأخلاقيّ. أمّا الشّعبُ فهو، في نظر البعض، محرّكُ الحياة والتّاريخ ومبدأُ السّلطة ومنتهاها. فيه تتجمّع جميع القيم وتتجسّد. وللزّعيم بورقيبة صورةٌ رسمها بنفسه فترسخّت لدى أنصاره هي صورةُ مخلّصِ البلاد ومنقذِ العباد وباعثِ الأمّة وحامي الحمى ومحرّرِ المرأة وقائدِ المجاهدين.
نقرأ "قرطُ أمّي" فنفاجأ بأنّ جلَّ ما انتظرناه تحقّق. فالأمّ تطالعنا منذ عنوان الدّيوان وإليها أُهديَ وفيه مُجّدت صورتُها سواءٌ كانت فرداً أو جمعاً(10). وحين يتحدّث صاحب الدّيوان عن المرأة نكاد لا نُصدّق ما المطابقة بين الكلمات والعالَم وبين العالَم والكلمات. ومع ذلك فالحديث عن الواقع في الأدب هو في الحقيقة حديث عن صورة للواقع أي عن واقع. فاللّغةُ أداةُ الأدب، لا تنسخ سوى نفسها أو بعضَ أصوات الطّبيعة. وهي تنضح ذاتيةً يكون الحديث معها عن تصوير موضوعيّ للواقع وهما أو مشروعاً مستحيلَ التّحقّق. ومن وسائل المحاكاة إلى تحقيق مشروعها الوصفُ والحوارُ والتّقريرُ والتّصريحُ والرّمز الشّفّافُ ومألوفُ الاستعارة والمجازات وتماسُكُ البناء واتّساقُ عناصره وانسجامُها في ما بينها. وكلُّ هذه الوسائل، إضافة إلى تغليب وظيفتي اللّغة الإحاليّة والإبلاغيّة، تُكسِبُ الخطابَ شفافيّة ووضوحاً ضرورييّن لتبلُغ الرّسالة. وهنا يلتقي الالتزام والمحاكاة ويتعلقان. فكلاهما يُحيل إلى رسالة وإلى إيديولوجيا يبثّهما شاعر عارف معلّم إلى سامع / قارئ جاهل متعلّم. يقول الميداني بن صالح في "نداء":
"[...]
إيه يا شاعرُ: من غيرُك يشدو للمسيرهْ،
[...]
من يُغنّي الزّحفَ،
من غيرُك بالحرف يُساهمْ؟!
ليَبُثّ الوعيْ في المصنع، في المتجر،
في الحقل النّضير.
في نوادي الحِزب! [...]" (ص126).
يبدو لنا أنّ الالتزامَ والمحاكاةَ ساهما مساهمة كبيرة في تعطيل نشاط المخيّلة واستتباعاً في إضعاف المتخيّل في "قرط أمّي". ففي الخيال كذب مستحَبّ وحُلم وجنون وتحرّر وتحليق وإبداع وخلق وفي المحاكاة والالتزام قيودٌ وقواعدُ وضوابطُ وأعرافٌ ونواميسٌ. ومن هنا يتبيّن أنّ تمثيلَ الواقع وتعريتَه ونقدَه لا تتوافق وابتداعَ الصوّر فالأوّل يُدجّن المتخيّل بل يُفقده هُويّتَه في حين أنّ الثّانيَ لا يكون إلاّ سليلَ متخيّل جامح يرتاد من التّخوم قصيّها ومن الآفاق أوسعَها.
ويبدو لنا أنّ ضَعف المتخيّل المقصودَ بسبب الاختياريْن الفنّيّ والإيديولوجيّ أدّى إلى ضرب من المفارقة بين الشكّل الحديث والمضمون الذي يكاد يكون قديماً لأنّه متداوَل معتاد. بل يبدو لنا أنّ الشّعرَ كاد يكون مجرّد شكل وأنّ الشّاعرَ، وهو يختار التّخلّي عن "التّخيّل المبدِع"(11)، أفقد نفسَه، عن وعي أو عن غير وعي، القدرةَ على الكشف والرّؤيا وعلى التَّأمّل في جواهر الوقائع.
فقد صاغ الخطابَ الرّسميّ شعراً وردّد مقولاتٍ شائعةً في مجالات السيّاسة والاجتماع والأخلاق بل إنّه تغنّى بتجربة لحظةَ احتضارها، تجربةٍ عدّها البعض اشتراكيّةً واعتبرها البعض الآخَرُ رأسماليّة دولة.
ونجمَ عن كلّ هذا غيابُ الغموض الذي به يُعرَف الشّعر ويتميْز. ولا يُفسَّر هذا الغيابُ، في نظرنا، بِعجْز الشّاعر وإنّما يُعلّل، في رأينا، بتصوّر للأدب قائم على مفهوم الالتزام. ومن استتباعات الالتزام الوضوحُ وذلك لتبلُغ الرّسالة دون تحريف أو تشويه. يقول الشّاعر في "شعري ودعاة الفنْ".
شعري: لهاثُ الكادحين على الدّروبْ
شعري أهازيجُ الشّعوبْ
[...] لا وشوشاتٌ ماجنهْ،
تُهدى "لِعُور المومساتْ"
ودعاةِ فنّ زائف يتوسّلون،
لإله فنّ كان ماتْ،
لفَظته أمواج الحياةْ [...]" (ص71، 73).
ويقول في "صوت الحياة" مصرّحاً بموقفه دون مواربَة:
"الشّعر أصبح ثورة بنّاءةً،
أنشودةٌ شعبيّةً
وسط المصانع
والمزارع... والتزام(12)... [...]" (ص77).
لقد ضعُف المتخيّل لا بمفعول الالتزام وحده وإنّما افتقر أيضاً وتحنّط، في نظرنا، بسبب قيامه على المحاكاة، محاكاةِ الواقع سواءٌ عند استرجاع أيّامِ الشبّابِ الأوّلِ أو عند تمثيل (أو تصوير) معركة الشّعب وزعيمه وحزبه أو عند نقد مظاهرَ من حياة المجتمع(13). وتهدف المحاكاة إلى نسخ الواقع وتسعى جهدها إلى
والمنافي والظّنون
عبر صحراء النّضال
في المنافي، بين كثبان الرّمال
ومتاهات اللّيالي...
[...]
ثورةً بيضاء من نبع ضميرك
فمصير الشّعب من صنعك، من روح
مصيرك. [...]" (ص113، 114، 115).
هذه الصوّر مألوفة بل أكاد أقوال ممجوجة. وهي تنهض دليلاً على ما أسماه البعض بالإعاقة في التّخييل(14). فالشّاعر لا يبحث ولا يخلُق وإنّما "يصنع أصناماً ليست للتّأمّل ولكنّها للعبادة"(15) ويعتمد متخيّلاً جاهزاً يجمّد عمل المخيّلة الفرديّة بما هو "قوّة إِبداع تتصرّف في الصوّر الذّهنية بالتّركيب والتّحليل والزّيادة والنّقص"(16).
ولهذا الاختيار انعكاس في المستوى الأسلوبيّ. فنحن قلّما نعثر، في الدّيوان، على صور مركّبة مبتدَعة. بل غالباً ما نجد صوراً تقليديّةً قائمةً على مجاز شفّاف لأنّه متداوَل من قبيل "الظّلام والفجر والصّبح السّعيد والنّور والأغلال والثّورة البيضاء" وصوراً ناهضةً على التّشبيه المستخدَم لتقريب المعنى من الأفهام. كقول الشّاعر مادحاً الزّعيم:
"يدك السّمراء قد شدّت عصاك
كملاك في رؤاك
[...]
كنت كالنّسر على القمّة تبسم
[...]
أنت شمس في سماء العبقريّة
أنت نور من شعاع الأبديّة [...]" (ص114، 116).
أو قوله في الوطن:
"وطني أرضُ بناء ونضالْ
إنّه عُشّ نسورْ
إنّه ربع فخارْ" (ص54).
نقرأ. فكيف يتعايش في كتاب واحد بل في فكر واحد موقفان من المرأة متناقضان؟ بل كيف يمدح بورقيبة وينافح عن الاشتراكيّة ويلعن في الآن ذاته المرأةَ؟ يقول في "ذبابة":
أنتِ "خفّاشٌ" مَهينْ
تكرهين النّورَ، والضّوء، غوايهْ.
أنت لعنهْ
في جبين الدّهر آمادَ السّنين.
أنتِ "حوّاءُ"... وأفعى
أنتِ بلوى
منذ أن كان الزّمانْ. [...]" (ص47 ـ 48).
والعرب لا تختلف صورتهم في الدّيوان عن صورتهم لدى البعض منّا. يقول الشّاعر في "ذبابة":
"عربيّاً كنت فجّرت الحقيقهْ
عندما ضلّ طريقهْ
عالَمُ الأمس البعيدْ.
"عربيّا" كنت حرّرت العبيد
فإذا الأرض تميدْ
للنّداء ، للفجر ، للعهد الجديدْ
للحُدا، للنّور، للصّبح السّعيدْ، [...]" (ص43)
وللشّعب في الدّيوان أبهى الصوّر:
"لشعبنا الحياةُ والخلودْ
يا باعثَ الوجودْ،
يا صانعَ القدَرْ
ومُطلعَ الشّموس والقَمَرْ،
ومُنزِلَ المطرْ.
يا كعبةَ السّلامْ،
وقاهرَ الظّلامْ
لشعبنا الحياةُ والخلودْ
يا قاهرَ الحديدْ
يا بسمةَ الإشعاع من قرآننا المجيدْ
وعِزِّنا التّليدْ [...]" (ص105).
وتُطابق صورةُ الغرب في الدّيوان صورتَه لدى الكثيرين منّا(17). أمّا الزّعيم فنقرأ الدّيوانَ فنكاد نجزِم أنّه المتكلّمُ أو أنّه، بصفة أدقّ، أعار الشّاعرَ صوتَه. يقول صاحب "قرطُ أمّي" في "تحيّة الجماهير":
"[...]
لم تروّعك السّجون
وأيّاً يَكن اسمها ومهما تكنْ أسبابُ فشلها فالثّابت أنّها كانت تجربةً فوقيّةً مسقطةً. يقول الشّاعر في كلام طغى فيه الشّعار على الشّعر:
إيه يا شاعرُ، من غيرُ: بالتّخطيط
يشدو ويُنادي!؟
[...]
فانظر الفلاّحَ في وَحدة إنتاج يجاهدْ
ويغنّي فرِحاً: "عاش التّعاضد"
من أزال الكوخَ عنوانَ المعرّهْ،
والتّقاليدَ المضرّهْ.
حطّم الإقطاعَ، واجتثّ المفاسد.
ثمّ علاّها معاهدْ
ومفازاتٍ بها التّسعيرُ واحدْ [...]"(18)
في "قرط أمّي" رؤية للحياة نيّرةٌ متفائلةٌ وفكرٌ متحرّر من بعض الأوهام(19). ولكنّ الشعرَ ليس فكراً فحسب ولا أوزاناً فقط وإنّما هو خاصّةً رؤيا وبحث ونحت وخلق أي متخيّل جامح. ولعلّ هذا الشّعرَ، رغم أهمّيته في ز مكانه ومكانته في عصره، لا يعود أن يكون شعرَ مرحلة. وهو مهدّد على الدّوام بالموت إن لم يكن بعضه قد وُلد ميّتاً. ولعلّ ما يضمن للشّعر بعضَ الخلود هو جدّة المتخيّل فيه وطرافته خاصّة إذا ما اقترنا بمشاغل الإنسان ومنزلته في المجتمع والوجود.
الهوامش
(1) صدر الدّيوان أوّل مرّة سنة 1969 عن الدّار التّونسيّة للنشر. وسنعتمد الطّبعة الرابعة، منشورات تبر الزّمان، تونس 2001.
(2) قرط أمّي، ص8.
(3) محمد علي اليوسفي، الكتابة وفتنة المتخيّل. انظر المؤلّف الجماعيّ "في المتخيل العربيّ"، منشورات المهرجان الدّولي للزّيتونة بالقلعة الكبرى، تونس، أكتوبر 1995، ص77.
(4) قرط أمّي، الهامش 1، ص43.
(5) تحيّة الجماهير، ص113.
(6) انظر مثلاً "نداء" ص123 و"وسام" ص119. ولكنّ المعارك لم تعد معارك عسكرية وإنّما أصبحت معاركَ بناء وتشييد.
(7) انظر مثلا "من الأعماق" ص89 وأخي الزّائر ص93.
(8) انظر مثلاً عيد ميلاد ابنته الثّاني "قنديلان" ص85 وعيد الأمّهات ص111.
(9) الكتابة وفتنة المتخيّل، مرجع مذكور، الصفّحة نفسها.
(10) يقول في "عيد الأمّهات":
"عيد أمّي...
عيدُ كلّ الأمّهاتْ
وهو نبع أزليّ
ترتوي منه الحياةْ." (ص1112).
صدرَه الخاوي اللّعينْ
من بذور الخير، من كلّ حنين.
وبيُمناه سوارْ
كالشّعارْ للخفافيش الصّغارْ. [...]" (ص49، 53).
(11) مصطلح استخدمه ماجد السّامرَائي وقال إنّه شائع. انظر مقاله المذكور، ص133.
(12) يرى سارتر أنّ الالتزامَ هو موقف الفرد الذي وعى مسؤوليته التّامّة إزاء سياقه التّاريخيّ والاجتماعي فقرّر العمل لتغييره أو التّنديد به. وهو يعتقد أنّ الكاتب حرّ ولكنّ حريّته لا معنى لها ما لم تقترن بالالتزام والمسؤوليّة. فثمّة كفاح اجتماعيّ ونضال سياسيّ تخوضهما قوى التّقدّم في المجتمع وما على الكاتب إلاّ أن ينخرط في هذه المعركة. فالكلمة "فعل" بل هي "رصاصة تنطلق بمجرّد أن يتكلّم الكاتب". وبناء عليه يصبح الالتزام واجباً قائماً على وعي. وهو واجب على المثقّف والكاتب قبل غيرهما. وذلك لما يتمتّعان به من قدرة على تعرية الواقع وكشف خفاياه.
ويبدو أنّ الالتزام في نظر الميداني بن صالح لا يختلف كثيراً عن هذا التّصوّر. انظر مقدمة المطوي، ص9.
(13) انظر "ذبابة" و"الخفافيش الصّغار" التي يقول فيها:
يتهادى، يتمطّى، يتمايل...
ظنّ أمثاله في الدّنيا قلائل
[...]
ولباسُه!
"بنطلون" مسرفُ القبح خليعْ
وحذاؤهْ!
كعبه عال رفيعْ،
وقميصٌ و"فُلارْ"
ويله يقطُر عارْ،
و"قُلَيْبٌ" ليَزينْ
(14) أمين الزاوي، المتخيّل العربيّ من سقف السيّاسة إلى عنف الدّينيّ، مقال صادر في المؤلّف الجماعيّ "في المتخيّل العربيّ" مرجع مذكور، ص45.
(15) نفسه، ص52 ـ 53.
(16) جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللّبناني، بيروت، 1973، مادة "التّخيّل". استشهد به ماجد السّامرّائي في مقاله "الخيال، التّخييل، المتخيّل (قراءة لرؤيا السّيّاب الشّعريّة)". انظر المؤلَّف الجماعي "في المتخيّل العربيّ"، منشورات المهرجان الدّولي للزّيتونة بالقلعة الكبرى، تونس، أكتوبر 1995، ص133.
إرسال تعليق