علم اللسانيات عند اليونانين:
       لم يكن اليونانيون روادا للأوربيين في علم اللسان وحده، فآثارهم في جميع مناحي التفكير الحضاري واضحة المعالم وانعكاسات جهودهم بادية في الفكر الأوربي الوسيط والمعاصر على حد سواء ،ويبدو أن اليونانين وهم ينتبهون للظاهرة اللسانية بوصفها جانبا من جوانب الحياة الإنسانية كانوا يقفون موقف المندهش الذي يلح في طرح الأسئلة بخصوص القضايا التي يراها غيرهم بديهية تأخذ مع التسليم لذا اصطبغ الدرس اللساني عندهم بصبغة جدلية في شكل محاورات فلسفية بين أعلام الفكر الإغريقي القديم، ومن ناحية ثانية استشعر هؤلاء اختلاف الشعوب في التحدث بلغات مختلفة،كما أدركوا الفوارق اللهجية بين أبناء المجتمع الواحد وهو ما ألمع إليه"هيرودوت" من خلال إيراده لكلمات غير قليلة أجنبية ناقشها وعلل لأصلها، بل سلم أفلاطون بالأصل الأجنبي لكلمات يونانية كثيرة ، ولابد أن نذكر في هذا المقام موقفهم العام من لغات المجتمعات الأخرى التي وسموها بالبربر أو الذين يتكلمون بغير افهام والطريف أن يؤكد على دور اللغة في الوحدة القومية والتصدي للأخطار الخارجية وهو ما أشار  إليه هيرودوت بقوله: "...إن المجتمع اليوناني بأكمله تربطه صلة الدم الواحد واللسان الواحد" وإلى جانب الاهتمام باللغة اليونانية حفظت لنا بعض النصوص شواهد  لغوية على اللهجات الاغريقية القديمة مع وعي بمخالفتها للغة القصائد الهوميرية الفصيحة[1]،أما الأبجدية الإغريقية فقد تم استنباطها في الألف الأولى قبل الميلاد لتناسب اللهجة الأتيكية ،وبعد غزوات الدوريين ضاعت المعرفة بالكتابة ليعاد انشاؤها بشكل معدل للكتابة الفينيقية ،وقد سجل الإغريق هذا الحدث الهام في شكل أسطوري فقد زُعِم أن قدموس هو الذي أتى بالكتابة من وراء البحار...وهو اعتراف بالأصل الأجنبي لها[2] .ونلفت الانتباه أن المعرفة اللسانية في تلك الفترة كانت مقتصرة على معرفة الكتابة والخط وليس أدل على ذلك من كلمة غراماتيكوس التي كنت تدل في مبدئها على العارف بالحروف فهما واستعمالا ، بل ظلت هذه الفكرة ممتدة إلى عصر أرسطو ، كما استعملت مصطلحا في فترة لاحقة لتدل على مهارتي القراءة والكتابة [3] .أما النظر في اللغة فقد بد أ مع سقراط والبلاغيين الأوائل ، وإن كانت المعلومات في ذلك قليلة،وغير مباشرة ، ولعل أهم الآثار الباقية محاورات أفلاطون التي خصص جزءا منها -محاورات كراتيلوس- للقضايا اللسانية بوصفها جزءا من الأسئلة الفلسفية الوجودية ، في حين تقابلنا تلك الآراء الجادة والمتنوعة في أعمال أرسطو، والتي يمكن عدها حجر أساس في صرح التفكير اللساني الإنساني من القديم إلى الحديث، وحوالي القرن 3 ق م تطالعنا المدرسة الرواقية كإتجاه فلسفي رائد بآرائه المتميزة في البلاغةو الفلسفة،وكان منهجهم الجدلي مبنيا على اللغة ذاتها فالدراسة الجدلية الفعالة تبدأ من الجزء الذي يبحث في الكلام . كما ميزوا في اللغة بين الصيغة والمعنى وهو تمييز يقارب ما ذهب إليه سوسير حديثا في تفرقته بين الدال والمدلول[4].وقد تركزت الأسئلة حول نشأة اللغة إذ نجد الطبيعة في مقابل العرف من جهة والاطراد والقياس في مقابل الشذوذ وعدم الاطراد من جهة ثانية ، فبخصوص الرأي الذي ذهب إلى النشأة الطبيعية للغة اعتمد على فكرة المحاكاة الصوتية والبحث عن الأصل الطبيعي للكلمات  التي لعبت بها يد الزمن، أما العرفيون فقد ألمعوا إلى كفاءة اللغة وقدرتها على التغيير والتحول في إطار المجتمع بشكل عادي لا يحتاج إلى تأويل ، وقد ذكر أرسطو أن اللغة نتاج العرف ما دامت الأسماء لا تنشأ بشكل طبيعي ،ونجد موقفا وسطيا يجمع بين هذه الثنائية هو موقف أبيقور (341/370 ق م) الذي اعتقد أن صيغ الكلمات قد نشأت بشكل طبيعي ثم تغيرت بالعرف في حين تبنى الموقف الطبيعي الأبيقوريون والرواقيون ، كما عني الإغريق بموضوع الايتملوجيا (الاشتقاق) وتطرف بعضهم في استخراج  جذور وأصول الكلمات الإغريقية إلى درجة تدفع إلى السخرية [5]وفي ذات الإطار عالجوا بشيء يشبه الدقة العلمية الحديثة الوحدات الفنولوجية كالمقطع والفونيم وارتكز وصفهم على أبجديتهم الخاصة في حين اهملوا اللغات الأخرى اهمالهم للشعوب الناطقة بها،والمثير في دراستهم الصرفية تعرفهم على الفروق الصوتية بين أصوات لغتهم أو ما يعرف اليوم بالألفونات ،وأشاروا إلى العلاقات الصوتية المؤلفة لأجزاء الكلام.أما أفلاطون فقد تمثلت مساعيه في تمييز أنواع من الفونيمات هي الصوائت في مقابل الصوامت وهذه الأخيرة –عنده- منها الوقفي ومنها الاستمراري والصوامت الوقفية لا يمكن نطقها دون صوت صائت مجاور، كما كان على وعي بالفروقات الدلالية الناتجة عن اختلاف مواضع النبو في الكلمة الواحدة ومثال ذلك عندهم كلمة di/filocنبر المقطع الثاني يجعل الكلمة دالة على صديق الآلهة، ونبر المقطع  الثاني يجعلها دالة على اسم علم[6]، ويتزايد الاهتمام الصوتي عند الرواقين من خلال معالجتهم الظاهرة المقطعية والنبر في اللغة اليونانية مما يمكن أن يساعد علماء الصوتيات الحديثة في إعادة بناء النظام الفنولوجي لهذه اللغة القديمة ،  وفي مجال القواعد ركز اليونانيون جهودهم النحوية على اللغة المكتوبة التي اعتمدها المؤلفون الكلاسيكيون في العصر الأتيكي ، ويمكن أن نقول أن جهودهم الصرفية كانت تأسيسا للجهود النحوية التي تأخرت زمنيا بالنسبة للأولى بحوالي قرنين من الزمن[7] ذلك أن العناية الأولى كانت بالكلمة بوصفها كيانا مفردا رغم وجود جهود فردية متقطعة عنيت بمعالجة الفئات النحوية كمعالجة بروتاجوراس (75 ق م ) لفئة الاسم كجنس في اللغة اليونانية ، كما تختلف من نوع لآخر بحسب اختلاف أشكالها التركيبية كالاستفهام والتعجب والتقرير والأمر ،وفي مجال الجملة يقابلنا تقسيم أفلاطون لمكوناتها وهي الكون الاسمي والمكون الفعلي ،وأضاف أرسطو نوعا ثالثا هو  السند السموي أو ما عرف لاحقا بالرابط والأداة والضمير ،والحق أن هذا التقسيم المنطقي للعبارة (أو القضية) هو ذاة التقسيم الذي تحلل الجملة عندهم إلى عناصرها الأساسية أي الكلمات،وما يمكن قوله بوجه عام هو أن الرواقيين هم أول من وضح النظام الأرسطي لتصنيف الكلمات والفئات النحوية التي وضعها أرسطو توضيحا أكبر في اتجاهين الأول توسيع الأنواع والثاني تقدير التعريفات الدقيقة للفئات النحوية ، حتى اعتبرهم العلماء المحدثون المؤسسين  الفعلين للقواعد في الفكر الإغريقي القديم والأوربي الحديث ،وقد وصل إبداعهم في حقل القواعد إلى درجة متقدمة فإليهم –مثلا – ينسب مصطلح الحالة النحوية بمدلوله الحديث الذي يمثل الأوضاع الصرفية للكلمات في الجملة أو التغير القواعدي لصيغة الكلمة ،وهم من ناقش العلاقة بين الدلالة الزمنية للفعل وفكرة تمام الحدث أو عدم تمامه أو استمراريته.
الزمن                      مضارع                                  ماض
غير تام                  مضارع مستمر                            ماض مستمر
تام                      مضارع تام                                ماض تام
وإذا أردنا الآن الانتقال إلى جهود اليونان في دراستهم للغة اليونانية في سياق الدراسة الأدبية عامة فإننا سنكون مجبرين على التوقف مع علماء الاسكندرية  الذين ناصروا النظرية القياسية وطبقوها في تنقيح النصوص وتحديد معايير الصحة في ضوء النصوص الهوميرية وقد مثل هذه الجهود "أرستارخوس" معلم ديونيسيوس ثراكس في القرن 1 ق م صاحب ذلك الكتاب الدقيق في وصف القواعد اليونانية (التكني الغراماطيقي وهو مؤلف في خمس عشر صفحةو مقسم إلى خمسة وعشرين قسما ويعد الأصل الذي دارت حوله جميع الدراسات الأغريقية في قرون ما بعد الميلاد وكذا الدراسات اللاتينية وممن عنوا به فارو (54 ق م ) وأبو ليونوس ديسكول (ق2 بعدم )وقد ترجم هذا العمل المهم إلى السريانية والأرمنية في وقت مبكر ،ويمكن أن نذكر أهم ما فيه:
 القواعد:
     المعرفة العملية باستعمالات كتّاب الشعر والنثر للألفاظ ،وتشتمل على ستة أقسام هي: القراءة الصحيحة بصوت مرتفع مع وجوب مراعاة الأوزان العروضية ،و الثاني تفسير التعابير الأدبية ، وتقديم الملاحظات حول أسلوب ومادة الموضوع واكتشاف أصول الكلمات و البحث عن أنواع الأطراد القياسي وتقدير قيمة التأليف الأدبي..
الجملة
   هي أعلى حد للوصف القواعدي في مقابل الكلمة، وتعبر الجملة عن فكرة تامة..
الاسم
   هو قسم من الكلام يتصرف حسب الحالة ،ويدل على كيان محسوس أو مجرد .
الفعل
    قسم من الكلام لا يتصرف حسب الحالة ،وإنما حسب الزمن والشخص والعدد يدل على نشاط أو عملية تنجز أو ينفعل  بها.
البارتيسبل
   قسم يشترك في ملامح الفعل والاسم .
الأداة
    يتصرف حسب الحالة ويسبق الاسم أو يليه.   
الضمير
    يستبدل بالاسم ويتميز بالاشارة للشخص.
حرف الجر
  يقع قبل الاسم وله تأثير معين.
الظرف
    لا يتصرف له وظيفة تقييد الفعل ويضاف إليه.
 الرابطة
  يربط أجزاء الحديث معا ،ويملأ الفجوات في تفسيره.
       ومن اللافت للنظر أن هذه الأقسام عادة ما يتبع ببيان فئاتها في شكل خاصيات مرتبة بشكل تشبه الأعراض في الدرس المنطقي الأرسطي فشكل كل قسم من أقسام الكلم يحدد من حيث:
1-الجنس (مذكر/ مؤنث / محايد) 2- النمط (أصلي / مشتق)
3-الصيغة (بسيطة /مركبة) 4- العدد (مفرد /مثن/ جمع)
5-الحالة (الرفع/ النداء أو المفعولية / الإضافة أو المفعولية غير المباشرة)
   وبالنسبة للفعل عالج ديونيسوس الزمن ودلالته في صيغة ثلاثية هي(الماضي/ المستقبل/ المضارع) ونلاحظ أن الماضي وحدة  مقسم إلى أربعة أنواع (متناقص، تام بعيد، تام قريب، ماضي بسيط) ،ونجد في القرن الموالية شبه تطبيق لهذه الأمر في وصف اللغة اللاتينية من طرف برسيان وأبولونيوس ديسكولس الذي كان صاحب نظرة عقلية في وصف اللغة إذ ميّز بوضوح بين الصيغة والمعنى ،وعد المضمون أمرا مهما في التصنيف القواعدي دون الاكتفاء بالصيغة الصرفية .
      أما ولده هيروديان[8] فقد عرف بتأليفه حول الترقيم والنبر في اليونانية، وبعد هذا العالم نلاحظ انتقال السيادة السياسية والعلمية إلى بيزنطة عاصمة الامبراطورية الرومانية الشرقية ولا يمكن أن نقول أن علماءها قدموا جديدا للدرس اللساني ،والتفكير العقلي عامة في حين كانوا أساتذة ومعلمين وأكفاء للتراث الأغريقي القديم يقول روبنز: "إن المعرفة اللغوية كانت نتاجا فعليا للعصور الماضية ..." لقد كان هذا العصر زمن المعاجم ومسارد المفردات الصعبة والشروح ودراسة ابداعات الماضي وليس عصر ابداع جديد.
ومن الموضوعية أن نصف بعض أعمال الأعلام الذين عاشوا في هذه الفترة، والتي لم تخل آراؤهم من طرافة وجدة بل أصبحت في اللاحق نواة لللسانيات الحديثة، ومثال ذلك نظام الحالة في اليونانية وطرق تحليل الدلالات الحالية الذي أبدع فيه البيزنطي مكسيموس بلاتيوس الذي أشاد به هيلسليف الدانماركي، وقد أفاد مكيسموس في دراسته للحالة من فكرة الموقعية.

[1] - روبنز ، موجز تاريخ علم اللغة في الغرب ، ص32.
-Kristeva ,Julia, le langague cet inconnu ,seuil ,Paris ,p 86-88.[2]
[3] - عبد الرحمن الحاج صالح ، مدخل إلى علم اللسان الحديث ، ص 48.
[4] - كيس فريستيغ ، الفكر اللغوي بين اليونان والعرب ، محي الدين محسب ،دار الهدى للنشر ، ص271 وما بعدها .
[5] - ميلكا إفتش ، اتجاهات البحث اللساني ، ص10.
[6] -روبنز ،موجز تاريخ علم اللغة في الغرب ، ص55
[7] -عبد الرحمن الحاج صالح ، مدخل إلى علم اللسان الحديث ن ص45 وما بعدها .
[8] - مدخل إلى علم اللسان الحديث ، ص50.
Previous Post Next Post