إن عدم تقنين القانون الإداري لا يرجع إلى انعدام المحاولات التي بذلت في هذا الشأن، ذلك أن العديد من المحاولات أجريت في فرنسا وفي مصر.. ولكن فشلت جميع المحاولات في تقنين أحكام القانون الإداري وكان السبب في فشل التقنين الأمور التالية:  -

أولاً : حداثة نشأة القانون الإداري:
يرجع القانون المدني بجذوره إلى تاريخ بعيد، حيث أنه الوريث الطبيعي لأفكار ومبادئ القانون الروماني، في حين أن القانون الإداري حديث النشأة، ويرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب أساسية هي:

(1): حداثة ظاهرة تأسيس السلطة التي تعني انفصال شخص الدولة عن أشخاص الحكام، فلقد كانت السلطة في العصور القديمة ذات طابع شخصي، بمعنى أن الحاكم كان يمارسها باعتبارها حقاً خالصاً له، معتمداً في ذلك على قوته المادية، أو على صفاته الذاتية، ولذلك كانت السلطة مطبوعة بعدم الاستقرار.

ولم يكن الأمر مختلفاً في عصور الإقطاع، حيث كان الأفراد يدينون بالولاء الشخصي للإقطاعي. ولم يكن متصوراً في ظل خضوع الدولة للقانون ومسئوليتها عن أفعالها الضارة بالأفراد، فاختلاطها بأشخاص الحكام كان يعني حصانتها ضد كل أنواع الرقابة.

أما ظاهرة تأسيس السلطة وما تعنيه من انفصال لأشخاص الحكام عن أشخاص القانون العام التي يمثلونها، فهي ظاهرة حديثة بدأت مع الاعتراف للدولة والأشخاص الإدارية العامة الأخرى بالشخصية القانونية

وأمكن في ظل ذلك قيام مبدأ احترام الإدارة وخضوعها للقانون من الناحيتين الإيجابية والسلبية.

فمن الناحية الإيجابية : يفرض المبدأ على الإدارة أن تستند في كل ما تأتيه من أعمال مادية وقانونية على أساس من القانون.

ومن الناحية السلبية: يقصد بخضوع الإدارة للقانون أن أي عمل يصدر عن الإدارة، أياً كانت طبيعته وشكله، يجب ألا يأتي بالمخالفة لقاعدة قانونية ملزمة

(2) حداثة ظهور الوحدات الإدارية المستقلة:
ذلك أن الهم الأكبر للملوك في العصور الوسطى كان تحقيق الوحدة السياسية لبلادهم، ولذلك حرص الملوك الفرنسيون على تبني نظام مركزي يسمح لهم بمواجهة أمراء الإقطاع والأباطرة والباباوات.
ويلاحظ في هذا الشأن أن الدول الكبرى الموجودة حالياً لم تكن كذلك في عصور الإقطاع، بل كان كل منها مكوناً من عدة مقاطعات يحكم كل منها أمير واحد، واندمجت هذه المقاطعات فيما بينها، تدريجياً، لتتكون، في النهاية، الدولة الحديثة.

(3) حداثة نشأة مجلس الدولة:
تبين لنا من دراسة نشأة القانون الإداري بمعناه الضيق، في كل من مصر وفرنسا ولبنان، أنه لم ير النور إلا بعد نشأة قضاء إداري متميز ومستقل.
ففي فرنسا، الموطن الأصلي ومكان نشأته لهذا القانون، لم يبدأ القانون الإداري في الظهور بوصفه قانوناً متميزاً ومستقلاً عن القانون المدني – له مبادئه وأصوله المختلفة عن قواعد وأحكام القانون الخاص – إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي عبارة أكثر دقة، إن النظريات الرئيسية في هذا القانون كنظرية المرفق العام، والعقد الإداري ، والقرار الإداري، .. الخ لم تتضح معالمها وترتسم حدودها إلا في خلال القرن العشرين، وذلك بعد أن طور مجلس الدولة الفرنسي أحكامه واستقرت هذه الأحكام وأمكن استخلاص النظريات الرئيسية في القانون الإداري منها.

وفي مصر لم ينشأ القانون الإداري، إلا بعد إنشاء مجلس الدولة عام 1940، ولقد لوحظ أن الرأي القائل بوجود قانون إداري قبل ذلك كان مستنداً إلى أسباب لا تبرر هذه النتيجة التي يرغب في تأكيدها.

ثانياً: مرونة القانون الإداري وتطوره السريع
يتميز القانون الإداري بتطوره ومرونته، حيث أن قواعده وأحكامه جاءت وليدة ظروف واقعية متغيرة، ذلك أن القانون الإداري شديد الحساسية لما يجري- في المجتمع – من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية، ولما كانت هذه التطورات مستمرة، كان من اللازم أن تظل أحكام ومبادئ القانون الإداري قابلة للتطور السريع، لكي تكون متجاوبة مع الظروف المتغيرة.

كما إن العديد من العوامل ساعدت على تطور نشاط الإدارة وأتساع مجالاتها ومنها:-
الأزمات التي يمر بها المجتمع ، كالحروب مثلاً ، أدت إلى تطور ملموس في نشاط الإدارة، من حيث أتساع سلطاتها، وتقليص لحقوق الأفراد، وممارستها لبعض الأنشطة التي لم تكن تقوم بها في الظروف العادية.
ومن العوامل التي أدت إلى أتساع النشاط الإداري أيضاً شيوع الأفكار المطالبة باتخاذ الدولة موقفاً إيجابياً من النشاط الاجتماعي يتعدى موقفها السلبي المتمثل في الضبط الإداري.
ومن أسباب تطور النشاط الإداري، أيضاً، تأتي المخترعات العلمية والتكنولوجيا لتحتل مكاناً هاماً في هذا المجال، فظهور هذه الاختراعات يحتم أتساع النشاط الإداري لتنظيمها، ومنع إساءة استخدامها من قبل الأفراد.
أحدث أقدم