من الفقر إلى الغنى، ومن الجهل إلى نور العلم والحضارة. فان لبنان كان جبالا قفراء ضيقة،
لا يكفي أهله، فألجأهم إلى الأسفار والمغامرات في سبيل التجارة قديما كما يلجئهم في
العصر الحاضر، فهاجروا إلى أطراف الدنيا. فتجدهم في أمريكا، وتراهم في أوروبا، وتجهم
في أنحاء افريقية، يتاجرون، ويزاحمون كل الأجناس في الميادين العلمية الشريفة.
وقد هاجر الفينيقيون كأحفادهم ليوم،وسافروا وغامروا في سبيل التجارة، فأفادتهم
هجرتهم وأسفارهم البعيدة، فاتصلوا بالأمم الراقية في ذلك العصر كالمصريين، والهنود،
والصينيين فتأثروا بحضارتهم، ونقلوها إلى بلادهم فصارت فينيقيا في العالم القديم
أغنى البلاد، وأسعدها، وأكثرها علما وحضارة وتقدما.
فضل الفينيقيين على الإغريق وعلى جنوب أوروبا
وكان الفينيقيون ينقلون حضارة الشرق القيمة إلى كل بلد قصدوه للتجارة، فكانوا
أساتذة الإغريق، وحملي نور لعلم والمدينة إلى جنوب أوروبا، فاطلعوا على مدينة الشرق
التي كانت أول مدينة في العالم فاخذوا بها، فتفتحت عيونهم، وذاقوا نعيم المدينة
وحلاوة الحضارة، فانسلخوا – سيما الإغريق- من جهالتهم التي كانوا عليها،ومن الشقاء
والهمجية التي كانوا يرسفون في أغلالها.
وكان الفينيقيون متخصصين للتجارة، فبرعوا فيها كل البراعة، وحذقوها كل الحذق،
ونجحوا فيها كل النجاح، لا تصافهم بكل الصفات التي تستلزمها التجارة الناجحة،
من علم، ودماثة في الخلق، ومسالمة في الطبع،وحسن في المعاملة، وحرص على اكتساب
قلوب الناس، ونيل الشهرة والسمعة الحسنة في الأقطار.
وكان المثل الأعلى الذي يستولي على قلوب الفينيقيين، ويكون شخصيتهم،
ويوجههم في سلوكهم ماديا، وهو الغنى الوافر؛ والثروة الواسعة بواسطة التجارة
والصناعة. فلذلك برعوا في كل العلوم التي تستلزمها التجارة والصناعة، من حساب
وجغرافية، وعلم بالمعادن والكيمياء، ومعرفة أذواق الأمم، وطباعهم وغير ذلك من الفنون
التي تستلزمها التجارية الواسعة، والصناعة الراقية.
ان الفينيقيين في الأخلاق كانوا على القوة في الصفات التي ذكرنا، ولكنهم ضعفاء
في خلق عظيم، وفي ناحية مهمة في الحياة نجد التاجر في كل العصور ضعيفا فيها،
وهي الشجاعة الحربية التي تستلزم الهجوم والصدام، والعنف والشدة، وهو ما يتنافى
مع مصلحة التاجر حيانا، ويغاير طبعه المسالم، وما يحرص عليه من نيل رضى كل
لناس، وحب الطوائف والأجناس.
ومرافئ للسفن. ثم احتلوا جزر تلك الناحية فاتخذوها قواعدهم فأنشأوا مراكز لهم في
صقلية، وسرادنيا، ومالطة، وفي الجزائر الشرقية في الأندلس وقد بلغوا الأندلس وأنشأوا
فيها مراكز تجارية، وبنوا فيها مدينة )قادس( لق تعرفوا إلى الحوض الغربي كله شماله
وجنوبه، واتصلوا بأهله،واستولوا على أسواقهم ببراعتهم في التجارة، ومعاملتهم
الحسنة،ونواياهم الطيبة نحو الشعوب.
مرافئ الفينيقيين ومراكزهم التجارية في المغرب
وق أسس الفينيقيون لسفنهم وتجارتهم من البربر مرافئ ومراكز تجارية على شاطئ
المغرب من برقة إلى المغرب الأقصى، قيل انها بلغت ثلاثمائة مركز. واهم المراسي البحرية
اليوم في المغرب الكبير من إنشاء الفينيقيين، ودلك لعلمهم بساحل المغرب، وخبرتهم
بالملاحة، ودرايتهم بالمرافئ الآمنة التي تصلح للأسطول الكبير.
ومن مرافئ الفينيقيين في المغرب، ومراسيهم الكبرى: لبدة في شرق طرابلس
وطرابلس، وصبرة وقابس، وحضرموت )سوسة( وعوتيقة، وبنزرت، وطبرقة وهذه الخمسة
الأخيرة في تونس.
أما الجزائر ففيها من مراسيهم الكبرى )هبون( وجيجل، وصلداى، )بجاية( واقسيوم،
)الجزائر( وشرشال، ووهران.
أما في المغرب الأقصى فطنجة، وسلا، والدار البيضاء، وغيرها.
وكان الفينيقيون ينشئون قرب هذه الموانئ أسواقا للتجارة، يعرضون فيها بضائعهم
على البربر، ومخازن للبضاعة، وبيوتا يسكنونها أيام قامتهم في تلك الناحية للتجارة.
أو للاستراحة، فنشأت بهذا على الشاطئ المغربي والأندلسي قرى عديدة ازدهر بعضها
حتى صارت مدنا كبرى كعوتيقة في غرب قرطاجنة على الساحل فإنها كنت عاصمة
شمال افريقية، وعروس تلك النواحي حتى تأسست قرطاجنة فاخملتها، وكقادس في
الأندلس.
Post a Comment