مقياس الصحة والقبول للأعمال القولية ، و الفعلية ، والعبادات البدنية ، والمالية ، أو ما هو مشترك بينهما مطابقتها لتعاليم الشريعة ، فمن ثم يترتب عليها آثارها الشرعية مادامت موافقة له ، متطابقة مع مبادئه وقواعده فـ " متى كان الوقف على قربة صح، أو معصية بطل ، كالبيع ، وقطع الطريق ؛ لقوله تعالى : }إن الله يأمر بالعدل و الإحسان ، و إيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، { وقاله ( ش ) وأحمد .
فإن عرا عن المعصية ، ولا ظهرت القربة صح ؛ لأن صرف المال في المباح مباح، وكرهه مالك؛ لأن الوقف باب معروف فلا يعمل في غير معروف"([1]).
وفي هذا الصدد يقرر العلامة صديق القنوجي الحقيقة المتحراة شرعاً من الوقوف و الحبوس لتكون معيار الصحة شرعاً :
" والحاصل أن الوقف الذي جاءت به الشريعة ، و رغب فيه رسول الله r ، وفعله أصحابه هو الذي يتقرب به إلى الله عز وجل حتى يكون من الصدقة الجارية التي لا ينقطع عن فاعلها ثوابها ، فلا يصح أن يكون مصرفه غير قربة ؛ لأن ذلك خلاف موضوع الوقف المشروع ، لكن القربة توجد في كل ما أثبت فيه الشرع أجراً لفاعله كائناً ما كان ، فمن وقف مثلاً على إطعام نوع من أنواع الحيوانات المحترمة كان وقفه صحيحاً ؛ لأنه قد ثبت في السنة الصحيحة "في كل كبد رطبة أجر"([2]) ، ومثل هذا : لو وقف على من يخرج القذارة من المسجد ، أو يرفع ما يؤذي المسلمين في طريقهم كان ذلك وقفاً صحيحاً لورود الأدلة على ثبوت الأجر لفاعل ذلك ، فقس على هذا غيره مما هو مساوٍ في ثبوت الأجر لفاعله ، وما هو آكد منه في استحقاقه الثواب "([3])، والمطلوب في الوقف بصورة عامة " انتفاء المعصية عن الجهة "([4]) الموقوف عليها .
هكذا رسم فقهاء الإسلام رحمهم الله الوقف الصحيح شرعاً، وقرروا أن :
"شرائط الوقف معتبرة إذا لم تخالف الشرع ، والواقف مالك ، له أن يجعل ما له حيث شاء ما لم يكن معصية ، وله أن يخص صنفاً من الفقراء دون صنف ، وإن كان الوضع في كلهم قربة …."([5])
تطور مصارف الوقف عبر التاريخ الإسلامي
أدى الوقف للمجتمع الإسلامي في عهد النبوة والخلافة الراشدة وظيفته كاملة بسدّ حاجة المجتمع في تلك الفترة سواء في مجال الصدقة على الفقراء ، والمساكين، وابن السبيل ، والمحتاجين ، وما يتطلبه الجهاد في سبيل الله من العدة والعتاد من السلاح والكراع.
اتسعت دائرة الوقف ومجالاته عندما أخذ المسلمون بأساليب الحضارة على أسس من دينهم ، وقيمهم ، إذ تطور المجتمع ، وتنوعت احتياجاته ،وتعددت مرافقه ومؤسساته ، متحريّن مقاصد الشريعة الغراء .
واكب هذا الانفتاح الحضاري انفتاحاً في الفهم ، وتوسعاً في المضمون في معظم الاتجاهات المعيشية ، لا جرم أن الوقف كان مشمولاً بهذا التوجه الحضاري، بل كان أحد أهم الروافد التي حثَّت هذا التقدم ، وغذَّت سيره .
سأل سحنون الإمام عبد الرحمن بن القاسم :
" أرأيت إذا حبس في سبيل الله فأي سبل الله ؟
قال : قال مالك : سبل الله كثيرة ، ولكن من حبس في سبيل الله شيئاً فإنما هو في الغزو.
قال سحنون : قال ابن وهب قال يونس : قال ربيعة : كل ماجعل صدقة حبس ، أو حبس ولم يسم صدقة فهو كله صدقة تنفذ في مواضع الصدقة ، وعلى وجه ما ينتفع بذلك فيه ، فإن كانت دواب ففي الجهاد ، وإن كانت غلة أموال فعلى منزلة ما يرى الوالي من وجوه الصدقة "([6]) .
هذا المعنى الواعي الشامل لكلمة ( في سبيل الله ) وجَّه الفقهاء إلى سعة المعنى والمدلول تطبيقاً عملياً في جميع الاتجاهات ، والآفاق التي يثبت نفعها وصلاحها للمجتمع الإسلامي وأفراده، وهو الأمر الملموس في الأوقاف الإسلامية في كل مصر وعصر .
من أحد أهم مظاهر هذا الفكر الحضاري المتقدم لهذا لمفهوم الواسع الشامل تحبيس الكتب ، ووقفها في المدارس وعلى طلبة العلم ، والعلماء .
الكتاب العزيز هو بداية هذا التقدم ، ومنطلق النهضة الحقيقية ليس للعرب، وإنما للعالم أجمع ؛إذ سجل نقلة نوعية، وقفزة حضارية للأمة العربية والإسلامية .
لا جرم أن تتسع دائرته وتنمو علومه إلى آفاق وآفاق ، فما هو إلا قرن من الزمان ونصف القرن حتى نمت فروع الحضارة الإسلامية،وتنوعت علومها ،أصبحت لها مؤسساتها ومظاهرها:
وكان من هذه المظاهر " ظهور المكتبات وتعددها ، فمن مكتبات المساجد إلى مكتبات الخلفاء ، إلى مكتبات عامة … تقدم خدمة لعامة الجمهور مثل: بيت الحكمة في بغداد ، ودار العلم في القاهرة …
وبتقدم الحضارة الإسلامية نجد في كل مؤسسة مكتبة تساعد المختصين في مهمتهم ، فوجدت مكتبات المستشفيات ، ومكتبات المدارس بعد إنشائها في شكل مبان مستقلة ، وكذلك المكتبات الخاصة بالأفراد كمكتبات الأمراء والأعيان "([7]) .
نمت المكتبات من خلال الرغبة في وقفية الكتب من كل من له قدرة مادية ؛ إسهاماً في إشاعة العلم والمعرفة ، وأملاً أن يبقى له ذكر في الآخرين ، وطمعاً في الثواب الذي لا ينقطع.
وفي بلاد الحرمين الشريفين أسهم الخلفاء والملوك والأفراد في تشييد المدارس والمكتبات العامة على مدار العصور الإسلامية المختلفة حتى العصر الحاضر فخلدوا بهذا ذكراهم ، لا يزال البعض منها قائماً مثل: مكتبة الحرم المكي الشريف التي أوقفها السلطان عبد المجيد ، ومكتبة مكة المكرمة التي هي مَأْثرَة من مآثر الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى ، فقد كان له الفضل في توظيف مكان المولد النبوي الشريف توظيفاً حضارياً يحسب في موازين حكمته رحمه الله تعالى ؛ ليبقى معلماً تاريخياً يذكر الناس ببداية صاحب الرسالة المحمدية عليه الصلاة والسلام ، وليكون معلماً علمياً حضارياً في البلاد المقدسة يرتاده العلماء والباحثون، بعيداً عن مزاولات الجاهلين .
وفي المدينة المنورة مكتبة الشيخ عارف حكمت ، والمكتبة المحمودية ، وغيرهما من المكتبات الوقفية التي كانت منتشرة في المدينة المنورة ، تابعة للمدارس التي تحيط بالمسجد النبوي الشريف ،ولن تكون مكتبة الملك عبدالعزيز التي جمعت شمل المكتبات تحت سقف واحد آخر هذه المآثر إن شاء الله .
تزود هذه المكتبات وتنمو محتوياتها بما يقدمه لها الأفراد وطلاب العلم والعلماء،والأمراء ،والأثرياء، والسلاطين ، فأصبحت مرتاداً ومنهلاً عذباً صافياً للدارسين والباحثين في الماضي والحاضر.
ضمنت هذه المكتبات بقاءها على مدى أجيال وعصور بسبب ما تمدها به موارد أوقافها لتلبية احتياجاتها ، ومع تزايد المكتبات الوقفية وانتشارها ، وتطورها أصبح لها حضور فقهي فيما يختص بأحكام وقفية الكتب ، وما يتصل بها من مسائل ومشكلات.
([1]) القرافي ، الذخيرة ، ج 8 ،ص312.
([2]) البخاري ، محمد بن اسماعيل ، تحقيق ، محمد النواوي ، محمد أبوالفضل ابراهيم ، محمد خفاجي ، ( مكة المكرمة : مكتبة النهضة الحديثة 1376هـ ) ، ج3 ، ص97 .
([3]) الروضة الندية شرح الدرر البهية ، الطبعة الأولى ، تحقيق عبد الله ابن إبرهيم الأنصاري، ( قطر :الشؤون الدينية ) ، ج2،ص230.
([5]) البابرتي ، أكمل الدين محمد بن محمود ، شرح العناية على الهداية ، الطبعة الأولى ، (مصر : مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ، عام 1389 / 1970 ) ، ج 6 ، ص200.
([6]) المدونة ، ( بيروت : دار الفكر ، عام 1389 / 1978 ) ، ج4 ، ص 341 .
([7]) شرف الدين ، عبد التواب ، تاريخ أوعية المعرفة ، الطبعة الأولى ، ( مصر : الدار الدولية للنشر والتوزيع ، عام 1998 ) ، ص 113 ،115.