مشروعية الوقف :
الحكمة من مشروعية الوصية
دليل على الوقف من القران
اركان الوقف
شروط الوقف
الوقف في الاسلام
مشروعية الوقف :
ينتمي الوقف أصالة في الشريعة الإسلامية بشكل عام إلى القربات التي يُتَقرَب بها إلى الله عز وجل لنفعه المتنوع والمتعدد، والمتعدي ، فخير خلق الله أكثرهم نفعاً لعباده ، بل إنه "من أحسن القربات ." ([1]) ، فهو "الصدقة الجارية بعد الموت… التي نص عليها في الحديث الشريف الذي رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة tأن رسول الله قال :إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء :
إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له.) ([2]) .
اتفق العلماء على أن المقصود من "الصدقة الجارية" هو الوقف، وهو ما أيده العلامة الملا علي القاري وغيره بأن معنى "جارية : يجري نفعها فيدوم أجرها كالوقف في وجوه الخير .
وفي الأزهار : قال أكثرهم : هي الوقف وشبهه مما يدوم نفعه .
وقال بعضهم : هي القناة والعين الجارية المسبلة .
قلت [ الملا علي القاري ] : وهذا داخل في عموم الأول ، ولعلهم أرادوا هذا الخاص لكن لا وجه للتخصيص ." ([3]) .
يؤكد هذا المعنى من المتأخرين الإمام محمد بن علي الشوكاني بأسلوب الحصر في جملة معرفة الطرفين قائلاً :
"وكذا الصدقة الجارية ، وهي الوقف ، وفيه الإرشاد إلى فضيلة الصدقة الجارية ." ([4])
ومن الأدلة المهمة التي تؤصل للوقف في الإسلام ما رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى : "عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :
أصاب عمر أرضاً بخيبر فأتى النبي r يستأمره فيها فقال يا رسول الله : إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به ؟
قال : (إن شئت حبست أصلها ، وتصدقت بها ) .قال : فتصدق بها عمر ؛ أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ، ولا يورث ، ولا يوهب .
قال : فتصدق عمر في الفقراء ، وفي القربى ، وفي الرقاب ، وفي سبيل الله، وابن السبيل ، والضيف ، لا جنـاح على من وليهـا أن يأكل منهـا بالمعروف ، أو يطعم صديقاً غير متمول منه …
قال ابن عون : وأنبأني من قرأ هذا الكتاب أن فيه : (غير متأثل مالاً )…"([5])
قال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله :
" والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي rوغيرهم ، لا نعلم بين المتقدمين منهم في ذلك اختلافاً في إجازة وقف الأرضين وغير ذلك ." ([6])
أجملّ العلامة أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الاستدلال لمشروعيته من السنة القولية والفعلية قائلاً:
"فالصحيح ما ذهب إليه مالك رحمه الله وُجلَّ أهل العلم من إجازة الحبس ، وقد حبس رسول الله r ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي ، وطلحة، والزبير ،وزيد بن ثابت، وعبد الله ابن عمر ، وعمرو بن العاص دُوراً وحوائط ، واستشار عمر بن الخطاب رسول الله عليه وسلم في صدقته …..
وروي عن مالك أنه قال :
جعل عمر بن الخطاب tصدقة للسائل والمحروم ، وكتب عبد الله بن عمر بعده في صدقته : للسائل والفقير ، فبينها عبد الله بن عمر ".
ثم يستطرد العلامة ابن رشد بعد استشهاداته السابقة قائلاً :
" فالأحباس سنة قائمة عمل بها النبي r والمسلمون من بعده ، وقد قيل لمالك :
إن شريحاً كان لا يرى الحبس ، ويقول : لا حبس عن فرائض الله ، فقال ما بك :
تكلم شريح ببلاده ، ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي r وأصحابه ، والتابعين بعدهم جداً إلى اليوم ، و ما حبسوا من أموالهم لا يطعن فيه طاعن ، وهذه صدقات النبي r سبعة حوائط ، وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبراً ، وبهذا احتج أيضاً مالك رحمه الله لما ناظر أبا يوسف بحضرة الرشيد ، فقال :
هذه أحباس رسول الله r وصدقاته ينقلها الخلف عن السلف قرناً بعد قرن.
فقال حينئذ أبو يوسف : كان أبو حنيفة يقول إنها غير جائزة ، وأنا أقول إنها جائزة ، فرجع في الحال عن قول أبي حنيفة إلى الجواز.." ([7])
خاض الفقهاء في تحديد موقف الإمام أبي حنيفة من مشروعية الوقف ، فجاء تحريره وتنقيحه لدى فقهاء الحنفية يقول العلامة ظفر أحمد العثماني التهانوي رحمه الله :
" والحق أن الوقف ينقسم قسمين :
أحدهما : ما تصدق الواقف بأصله كأرض جعلها مسجداً أو مقبرة ، أو خاناً للمارة ، أو منزلاً للغزاة ، أو مسكناً للحاج .
والثاني : ما تصدق الواقف بمنفعته دون أصله .
فالأول لا نزاع في صحته و لزومه ، وقول أبي حنيفة فيه كقول الجمهور ، والثاني لا نزاع في جوازه في حق وجوب التصدق بالفرع مادام الواقف حياً ، حتى إن من وقف غلة داره ، أو أرضه على مسجد، أو على الفقراء يلزمه التصدق بغلة الدار والأرض ، ويكون ذلك بمنزلة النذر بالتصدق بالغلة ، ولا خلاف أيضاً في جوازه في حق زوال ملك الرقبة إذا اتصل به حكم الحاكم ، أو أضافه إلى ما بعد الموت بأن قال :
إذا مت فقد جعلت داري ، أو أرضي وقفاً على كذا ، أو قال : هو وقف في حياتي صدقة بعد وفاتي ، كما في البدائع " .([8]) وأخيراً يحدد العلامة التهانوي محل النزاع بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله والجمهور قائلاً :
"والنزاع إنما هو في وقف لم يتصدق الواقف بأصله بل حبس أصله وتصدق بثمرته و منفعته على نفسه ، أو ولده وولد ولده ، وعلى الفقراء بعدهم ، أو تصدق به على الفقراء ابتداء ، ولم يضفه إلى ما بعد الموت ، ولم يصرح بكونه وقفاً مؤبداً، ولا حكم حاكم بصحته ، فهذا لا يكون لازماً عند أبي حنيفة رحمه الله حتى كان للواقف بيعه وهبته ، وإذا مات يصير ميراثاً …
وهذا صريح في أن أبا حنيفة إنما كان يذهب في الوقف إلى ما كان عليه فقهاء بلاده ، وينكر ما أنكروه ، فكان يجيز ما كان منه صدقه على الفقراء ابتداء وانتهاء ، وينكر ما كان وقفاً على الولد ، وولد الولد ، ولا يرجع آخره صدقة على الفقراء …".([9])
من خلال هذا التحرير المفيد لموقف الإمام أبي حنيفة رحمه الله من الوقف يتضح أن الوقف على مرفق عام ، أو مصلحة عامة هو محل اتفاق لا يخالف في هذا أحد من فقهاء المسلمين بعد أن انتشرت السنة النبوية المطهرة في الأمصار الإسلامية ، وأصبحت معلومة لدى القاصي والداني ، وإن كان ثَمتَ خلاف فهو في بعض الفروع التي لا تؤثر قطعاً في أصل المشروعية ، والاختلاف في بعض أموره إنما هو من قبيل الاختلاف في الشكليات والإجراءات ، لا في أصل التشريع.
([5]) قوله " ( غير متأثل مالاً ) فمعناه غير جامع ، وكل شيء لهه أصل قديم ، أوجمع حتى يصير له أصل فهو موثل ، ومؤثل ، أي قديم الأصل ، وأثلة الشيء أصله " عياض اليحصبي ، أبو الفضل عياض ، شرح صحيح مسلم ، المسمى إكمال المعلم بفوائد مسلم ، الطبعة الأولى ، تحقيق يحي اسماعيل ، ( مصر : دار الوفاء ، عام 1419 / 1998 ) ، ج 5 ، ص 375 .