العراق بناء الدولة أم  بناء السلطة
    في ضوء الجدل الدائر حول مضمون ومفهوم الدولة الحديثة واختلافها عن الأشكال الأخرى من الكيانات السياسية  مثل الإمارة والإمبراطوريات ...... الخ ، سنحاول أن نعرض في هذا المبحث بعض الآراء حول مدى كون العراق دولة حسب المعايير الحديثة والمعاصرة للدولة الحديثة على الرغم من أننا افترضناه دولة في بحثنا عن إشكالية نشأتها ، ولكنه كان ٳفتراضاً إجرائيا من أجل البحث في مرحلة تأسيس الدولة العراقية.هناك من يقول بأننا نبالغ أو نتجاوز عندما نكتب عن الدولة في الوطن العربي ، ونبالغ أكثر عندما نتحدث عن تهديدات العولمة لهذه الدولة العربية أو تلك أو حتى لمفهوم الدولة أو الفكر السياسي العربي ، فالدولة العربية وفقا لهذا الاتجاه مازالت في طور التكوين ، ولم تكتمل في أي كيان سياسي عربي المقومات التي في حملتها و بتفاعلاتها يستحق هذا الكيان أن يحمل مسمى دولة. قد نتصور هنا أيضاً أن كل دولة في طور التكوين سيستمر نموها لو وجدت الظروف المناسبة حتى تصل إلى مرحلة الاكتمال أو النضوج ، ولكن الواقع يقول شيئا آخر مختلف عن الدولة العربية من حيث هي بصورة عامة كيان تجسد عند مستوى من المستويات ( طور التكوين ) ولن يصل في المدى المنظور إلى التكامل الوطني المنشود كشرط أولي لقيام الدولة ( ). ويؤيد هذه الفكرة ( أحمد برقاوي ) عندما يقول بأن الدول العربية ليست دولاً بالمعنى المعاصر لمفهوم الدولة وٳنما هي سلطات تكونت ضد      (الدولة – الأمة) الممكنة ، ولكنه مع ذلك لا ينكر ولا يرفض بالمطلق وجود الدولة طالما وجدت بعض عناصرها مثل الجيش والإدارة البيروقراطية والعلاقات الدبلوماسية والاعتراف الدولي ، لذلك يفضل استخدام مصطلح ( دويلة ) وذلك لعدم اكتمال الشرط التاريخي السياسي ( القومي ) لظهور الدولة وخاصة عدم اكتمال مفهوم السيادة الوطنية وغياب مفهوم النظام السياسي المعبر عن الكل الاجتماعي من جهة أخرى( ) .
    (سعدي كريم) يميز بين الدولة والسلطة بوصف الأولى مؤسسة المؤسسات والثانية عبارة عن مؤسسة تابعة للأولى، ومن ثم فأن قيام الدولة المؤسسة الشاملة شيء وقيام السلطة السياسية شيء آخر ، وأن من أهم عناصر الدولة امتيازها بالسلطة العامة لأنها ذات اختصاص عام يتضمن كل نواحي النشاط البشري في الدولة ، وتبعاً لذلك فأن سلطة تحتكر القوة المادية التي تجعلها قوة تسيطر على أرجاء الدولة ولا تسمح بوجود أية تنظيمات عسكرية أو سياسية تهدد وحدتها أو تكون منافسة لها ( ) . وٳذا كان الفكر السياسي بشكل عام يميز بين الدولة كونها المؤسسة الاجتماعية الأسمى وبين غيرها من المؤسسات السياسية ومنها السلطة السياسية ، كونها مؤسسات اجتماعية فرعية خاضعة للدولة فإن هذا التمييز ممكن على المستوى النظري فقط ، لكنه صعب التحقيق في الواقع لأن السلطة السياسية تشكل نواة الدولة وبغياب السلطة لا يمكن الحديث عن الدولة ، فقاعدة الدولة هي السلطة السياسية. لذلك لا بد لبناء الدولة من سلطة تنطلق منها وٳلا سيقوم هذا البناء على فراغ ، ومع ذلك لا يمكن ٳبدال أو ٳحلال السلطة محل الدولة ، ويجب التفريق بين النظام الحاكم وبين مؤسسة الدولة ككل ،وليس السهل في المجتمعات العربية المعاصرة تحقيق الفصل الواضح بين ما للسلطة وما للدولة ، فالسلطة هي التي تبني الدولة ومؤسساتها وأجهزتها ، فهي حاضنة الدولة وليس العكس وهي تتماهى معها  بحيث لو انهارت ، انهارت معها الدولة ،  وعليه فأذا كانت الحكومة تعرف كلياً بالدولة ، فان  كل  ٳبدال  في الحكومة سوف يشمل أزمة الدولة ، ولعل هذا ما حصل في العراق عام ( 2003 ) فحين سقط نظام الحاكم سقطت الدولة معه لأنها كانت متماهية مع سلطة الحاكم ( ).ويقول باحث آخر بأن الدولة العراقية اندمجت بالسلطة الحاكمة وعلى تعاقب هذه الأخيرة باستمرار، وقد نتج عن ذلك مشكلة غياب الدولة التي تم تجهيزها بالكامل لصالح السلطة التي بسقوطها تسقط الدولة ككيان ومؤسسات. لذلك لم تنشأ الدولة الحديثة في العراق متجذرة بأنظمتها الدستورية ومؤسساتها العامة الممثلة للمجتمع ، بل نشأت ومازالت لدينا سلطات مثلت واختزلت وصادرت دور ووجود الدولة. وبافتقاد السلطة للشرعية والمشروعية ونتيجة لمعاييرها الوطنية الهابطة المنتمية إلى الطائفة والعرق والعشيرة والعائلة ، فقد التجأت إلى القمع والإقصاء وتشتيت الوحدة الوطنية لضمان السيطرة والبقاء مستفيدة من سلطة الدولة في تبرير وجودها وسياستها الضيقة وعلى هذا الأساس كان ولا يزال أي إسقاط  للسلطة السياسية غير الشرعية يعني إسقاطا للدولة والسلطة معاً ، وهي نتيجة حتمية للدمج المقصود بين الدولة والسلطة في الوجود والوظيفة والدور فإن اندماج الدولة بالسلطة ومن ثم شخصنتها إلى حد كبير مما جعل الدولة تأول إلى ما آلت إليه فيما بعد( ). وينطوي هذا على تشكيك واضح في وجود الدولة العراقية لينتهي الأمر بالباحث إلى التسأول ، هل كانت لدينا دولة وفق أبسط تعاريفها وأدنى مقوماتها ؟ ويقول بالقطع لا وٳلا لما استهالت ركاماً من أطلال ، والسبب أنها أدمجت بالسلطة ، أو ابتلعت السلطة الدولة ، وكانت السلطة بحد ذاتها عنواناً للأنا الأثنية ( العرقية ) والطائفية والدكتاتورية المستبدة ، وهكذا ابتلعت الأنا السلطة ( ).
وبنفس المنطلق يعلن ( على كريم سعيد ) بأن هناك تمايزاً بين الدولة والحكومة ، ويقول بأن الدولة هي المؤسسة التي تشكل الوعاء المرجعي الشرعي الذي يحتضن شكل الممارسة السياسية ويضع ثوابتها الوطنية وشروطها القانونية ، أما الحكومة ، فهي الهيئة التنفيذية أو الأداة التي يمتلئ بها هذا الوعاء المرجعي أي الدولة ، وفي حالة العراق يرى الباحث أن الهيئات السياسية الحاكمة كانت وظلت لا تقيم وزناً لأهمية التمييز بين الدولة والحكومة ، بل سعت منذ بداية الاستقلال الوطني إلى تذويب مؤسسات الدولة وثوابتها الدستورية والقانونية في بوثقة مصالح الحاكم الفرد أو الهيئة أو الحزب الحاكم مستخدمة من أجل ذلك ذرائع مختلفة كإثارة العصبيات أو كيل الوعود الرومانسية الكبيرة الزائفة ، كوضع خطط تنموية طويلة الأمد مستفيدة من خزانة الأيديولوجيات الأوروبية اشتراكية أم فاشية أم نازية ( ).وحسب رأي بعض الباحثين فإن مفهوم الحكومة هو أكثر المفاهيم تداخلاً واختلاطاً في الأذهان بمفهوم الدولة ، ولكن الحكومة في الحقيقة هي جزء من الدولة وٳن كانت أهم أجزائها ، ولكنها تبقى جزءً ، ولكن مفهوم الدولة مفهوم مركب ومجرد ، ٳذ لا أحد يقابل الدولة أو يراها ، فان الحكومة ملموسة بأجهزتها وأشخاصها وممارستها فهي الموظف المدني ورجل الشرطة وجندي القوات المسلحة وهي المباني والمؤسسات ، فالدولة تحتوي الحكومة كجهاز ( تنفذي / ٳداري / تشريعي ). وقد يعارض أغلبية مواطني الدولة أو يقاومون مثلاً حكومة الدولة ويسحبون شرعيتها ولكن ذلك لا ينطوي بالضرورة ولا في معظم الأحيان سحب ولائهم للدولة ، أو رفض الاعتراف بالانتماء ٳليها ( ) .
    وحسب بعض الباحثين فان هذا التمييز في العراق بين الدولة والسلطة الحاكمة أو بين الدولة والحكومة فيها فقد توازنه، وابتلعت السلطة الدولة ، وبالتالي أصبحت الدولة مفقودة حسب المعايير الحديثة للدولة الحديثة ومن بعض المظاهر الأخرى لعدم تكامل الدولة العراقية يمكن الإشارة إلى فقدان هذه الدولة لبعض أهم عناصر الدولة الحديثة ، وهي عدم وجود شعب منسجم ومندمج ومنتمي إلى هذه الدولة ومشكلة السيادة الكاملة (داخلياً وخارجياً) ، وأيضاً عدم احتكار الدولة للاستعمال الشرعي للقوة( ) بالإضافة إلى أنه ٳذا كان وجود جماعة من الناس ، أو بالأحرى الشعب ، عنصراً أساسياً من العناصر المكونة للدولة كما يتم التركيز عليه في التعاريف المختلفة للدولة ،فان العناصر السكانية التي تشكلت منها الدولة العراقية وكونت الشعب العراقي ، كان لها أثر بالغ في دولة العراق ومن ثم المؤسسات السياسية الأخرى ، وينظر البعض إلى أن عنصر السكان كان له دور بارز في ٳضعاف دولة العراق بقدر ما كان عامل قوة لها ، لأن الشعب العراقي بمكوناته الحديثة لم يكن موجوداً قبل القرن العشرين وبالتحديد قبل نشوء دولة العراق ، وبالتالي فإن من كان يعيش في المناطق التي تأسست فيها فيما بعد الدولة العراقية ، لم يكن عراقياً ، قبل وجود دولة العراق ، ولكن عندما رسمت الحدود دولة العراق ، حينئذ أصبح كل من يعيش ضمن هذا الحدود عراقياً ، ٳن ما شكل الشعب العراقي لم يكن الجماعة أو الكتلة أو القومية المتجانسة الضرورية لأية دولة حديثة ، بل كانت قوميات مختلفة و أديان و مذاهب وبقيت كذلك ، لذلك يمكن أن تعتبر المجتمع العراقي مجتمعاً تعددياً ، ولكن سمة التعددية ليست مشكلة بحد ذاتها ، حيث نجد أن معظم المجتمعات العالم من جانب أو أكثر ومازالت تعددية  ولكن الذي أوجد المشكلة هو عدم التجانس والتلاحم والتماسك بين مكونات المجتمع التعددي ، أي غلبة عوامل التفرقة والتنافر في العراق( ).ولكن العراق والمجتمع العراقي ليس البلد الوحيد في العالم الذي يعاني من التقسيم والتمايز في القيم  والانتماء وتنوعاً في تكوينه الاجتماعي والعرقي ، والصراع بين مكوناته، ولكن الاختلاف هو في أسلوب وطريقة ٳدارة هذه الصراعات وهذه التنوعات والمسلك الذي يسلكه ، الذي يؤثر سلباً أم ٳيجاباً على وجود هذه الدولة ومجتمعها ، أي أن أسلوب ٳدارة الصراع الاجتماعي وأسلوب التعامل مع التنوع والتعدد يحدد ، ما إذا كان يتم تحويل هذه الظاهرة إلى حالة الايجابية والإغناء الثقافي والحيوية الاجتماعية وديناميكية التغير والتطور، أو إلى حالة سلبية واعاقة التطور والازدهار  ، وهنا تلعب الدولة المؤسساتية والمتمايزة عن سلطة الحاكم فيها دورها في هذا الأمر، لكنها سلطة دمجت في العراق الدولة مع السلطة والحكومة .
   وهناك نقطة أخرى يتم الإشارة ٳليها كمعيار لوجود وتكامل بناء دولة معينة أو عدم وجودها أو عدم تكاملها، وهي وجود الدستور في الدولة الحديثة والموافقة لوجود نظام ديمقراطي ومشاركة سياسية . ٳذ يعتقد بعض الباحثين بأن دولة بلا دستور هي دولة غير مكتملة بل هي مشروع دولة لم تصل بعد إلى مرحلة الدولة، فمهما كانت التصورات للدولة ، فإن ما يميز الدولة الحديثة هو استنادها إلى فكرة الدستور في شكلها القانوني اللازم ( ) ، وهذه الفكرة لم تكن متصورة حينما كانت السلطة مختلطة بشخص الحاكم ، كونها امتياز له وحق من حقوقه الشخصية تسنده القوة المادية ، وقد يمتلك مشروع الدولة حكومة وٳدارة وجيش لسد الفراغ السلطوي والمؤسساتي ، غير أن السلطة والمؤسسات والإدارة لا بد من أن يقوم بتأسيسها دستور ، ينظم عملها ويحدد صلاحيتها ، وبدون الدستور يبقى وجود الدولة بالمعنى الحديث موضع شك وتساؤل ( ) .


ولهذا فإن الاتجاه الديمقراطي يرى أن فكرة المواطنة والمساواة والمشاركة السياسية من خلال الانتخابات هي ضرورة لازمة لفكرة الدولة الحديثة حتى لا تستبد سلطة الدولة في المجتمع وتنفصل عنه ، ويؤكد أنصار هذا الاتجاه على الترابط الشرطي بين الدولة والديمقراطية ( ) .
وهنا ٳذا نأتي على العراق نرى حسب رأي الباحثين بأن تجاوزات السلطة التنفيذية أدت إلى غياب الدستور ، وبغيابه غابت سلطة القانون وبذلك نمت الدولة في العراق نتيجة لتمجيد القوة وتأكيد الانفراد في ٳدارة شؤون البلاد وطغيان الحكم الفردي الاستبدادي ( ).ونستخلص مما سبق بأن العراق ليست دولة مكتملة ( كاملة تكوين ) وٳنما هي مشروع دولة وهي منذ تأسيسها لحد الآن في طور التكوين والبناء على الرغم من تعثرها ( تعثر مشروع بناء الدولة ) ومواجهتها لعقبات ومعوقات شديدة التعقيد ولكنها مستمرة في البناء ، ونلاحظ التأكيد دائما في البحوث والدراسات الخاصة بالشأن السياسي العراقي على ٳعادة بناء أو ٳعادة تأسيس الدولة في العراق وخاصة ما بعد ( 9/ 4 / 2003 ) .


Previous Post Next Post