الهوية الوطنية العراقية
الهوية في العراق

       تطرح آراء و وجهات نظر مختلفة ومتعارضة بصدد طبيعة وأصل إشكالية الهوية في العراق، فهناك من يعدها إشكالية بنيوية ظهرت مع تأسيس الدولة العراقية، ويعدها آخرون إشكالية مصطنعة ظهرت بعد الاحتلال الأمريكي  للعراق كأحد إفرازات هذه الاحتلال. ونسعى في هذا المبحث إلى عرض في إشكالية الهوية في العراق وفقا لوجهات النظر المختلفة هذه.
     يعتقد أحد الباحثين بأن من المفارقات الكبرى للتاريخ العراقي الحديث تحول الهوية الوطنية إلى إشكالية مثيرة للجدل مع كل ما يرافق ذلك بالضرورة من شكوك بما يفترض أن يكون احد أكثر واشد الأمور يقينا، وتجد هذه المفارقة تعبيرها الأوضح في تحول المرجعية الروحية المتجسدة تاريخياً وثقافيا في الأفكار والقيم والمشاعر المتعلقة بقضايا الانتماء الوطني والهوية والتاريخ إلى مصادر تفرقة واختلاف( ).ويقوم الواقع الفعلي لهذه المفارقة في الظروف الراهنة على أن الدولة الأكثر عراقة في التاريخ المدني والحضاري تقف أمام إشكاليات تشير إلى ضعفها الشامل وخللها البنيوي التام بحيث تضع المرء أمام إمكانية الاعتقاد بوقوفه أمام كيان يظهر للمرة الأولى على حلبة التاريخ، بمعنى أن العراق المعاصر يعاني من خلل بنيوي و أزمة شاملة وخواء هائل في المكونات الجوهرية لوجوده السياسي الاجتماعي بما يعني إمكانية الحكم بأنه (كيان هش). وتركيبة مصطنعة وما شابه ذلك. وحسب رأي (ميثم الجنابي) فإن هذا اتهام أكثر مما هو تصوير نقدي للواقع( ). وهذا اغفال للواقع الحقيقي الذي تعانها العراق من اشكالية في هويتها الوطنية.  ويعتقد باحث آخر بأنه لعل من أهم الإشكاليات التي لم تستطيع تجربتنا الحديثة حلها هي إشكالية الهوية السياسية للدولة العراقية، وهي إشكالية بنيوية في العمق أكثر من كونها إشكالية مصطلح، فمنذ تأسيس الدولة العراقية عام (1921م) والإشارة إلى الذات الوطنية على مستوى الهوية تشكل أزمة على مستوى الخطاب والممارسة السياسية لدى اغلب المكونات؟ العراقية، وما ذاك إلا انعكاس للفشل في التعاطي مع استحقاق قيام الدولة الوطنية، كواقع جديد على الأرض، ذلك الفشل البنيوي الذي أضر بهوية الدولة ونظامها السياسي وبرامجها الوطنية وبالتالي فقاد إلى كارثة( ).
     ويعتقد (برهان غليون) بأن تفكك الدولة العثمانية، فجر إحدى أعظم أزمات الهوية التي عرفها الوطن العربي في تاريخه كله وأكثرها حدة وديمومة، وتكفي من أجل إدراك ذلك الإشارة إلى أهمية الموضوعات التي سوف تطرح للنقاش في المجتمعات العربية وفي مقدمتها تحديد طبيعة الكيانات السياسية التي سوف يسفر عنها زوال السلطنة ومكانة اللغة وقدراتها و وضع التراث والعلاقة التي تربط بين اللغة والتراث العربيين وهذه الكيانات ،والعلاقة بين الهوية المحلية القطرية والهوية العربية الإسلامية الشاملة( ). وليس الاستمرار في طرح هذه الموضوعات اليوم، وهي لا تزال محاور النقاش الأساسية في الأدبيات السياسية العربية المعاصرة، إلا تعبير عن الطبيعة الملتبسة والازدواجية التي لا تزال تسمى أسلوب تمثل الهوية الوطنية في الوطن العربي حتى يومنا هذا.وتعد نشأة الدولة العراقية إحدى إفرازات تفكك الإمبراطورية العثمانية الإسلامية. ومن ثم فقد عانت هذه الدولة الحديثة من كل الإشكاليات والأزمات التي أفرزتها عمليتي لتفكك الإمبراطورية الحديثة ونشوء الدولة العربية الحديثة، كما هو حال باقي الدول الأخرى الناشئة في القرن العشرين. وعلى الرغم من محاولة إخفاء هذه الإشكاليات والتستر عليها، إلا أن الأزمات السياسية والحروب التي تعرضت لها الدولة العراقية الحديثة أعادت إلى السطح وكشفت عن كل هذه الأزمات والمشاكل البنيوية ومنها إشكالية الهوية الوطنية العراقية. ويقول (ليورا لوكيز) بأن الأحداث التي جرت بين عامي (1991- 1992) في منطقة الخليج ركزت أنظار العالم مرة أخرى على العراق وخلقت تساؤلات عديدة حول طبيعة النظام العراقي وخاصة طبيعة علاقاته والعوامل التي تحرك السياسة العراقية بشكل عام في أعقاب انتهاء حرب الخليج( ). حيث تركزت التساؤلات حول طبيعة وأسباب الحوادث التي جرت في أقاليم شمال العراق وجنوبه، وباتت تساؤلات عديدة تطرح ومن بينها التساؤل عن انتفاضة الكُرد في الشمال والشيعة في الجنوب وهل كانت مجرد رد فعل على سياسات النظام أم أن هناك خللا بنيوياً أساسيا في التركيبة الداخلية للعراق يحول دون تحقيق اندماج اجتماعي متكامل لشعب العراق.
    إن مجرد تشخيص هذه المشاكل و وضعها في إطار بنيوي أدى إلى استقطاب ردود فعل قوية من لدن هؤلاء الذين يؤمنون بحصول تقدم مضطرد في عملية اندماج جميع أطياف الشعب العراقي على الرغم من الاضطرابات التي شهد تها الحياة السياسية في العراق منذ تشكيل الدولة فيه.ولا يعني الاعتراف بوجود خلل بنيوي بالنسبة لهؤلاء إلا سد الطريق أمام إيجاد حلول للمشاكل العالقة في العراق، وهم يعتقدون أن التركيز على جذور المشاكل ليس إلا نظرة ذات طبيعة رجعية، لذلك فأنهم يصرون على التمسك بالأفكار العامة المتعلقة بعملية بناء الدولة الوطنية العراقية، وهناك من يرى بان أي حديث حول موضوع الإشكالية البنيوية للدولة العراقية والمتمثل في عدم اندماجها الوطني، والحديث عن الفروقات والانقسامات بين مكونات سكان العراق هو إعلان عن موقف سياسي، ومن ثم فإنهم يركزون فقط على جانب التماسك والتعايش بين مكونات الشعب العراقي. ولكن التركيز على الفروقات والانقسامات لا يعني بالضرورة بأن هذه الفروقات أزلية، لأن الهويات المتداخلة والولاءات المتغيرة تتعايش مع بعضها البعض، والجماعات البشرية تتغير في بعض الأحيان بشكل راديكالي، ولكن لا تحصل هذه التغيرات في ليلة وضحاها، والولاءات السابقة تبقى تأثيراتها حتى ظهور ولادات جديدة بفترة طويلة من  الزمن، لأن الولاءات جزء من شعور عام وعقائد موروثة ودوافع تحدد توجهات وتحركات المجموعات البشرية( ).
     أن ولادة الدولة تقرن عادة بسؤال مركزي تتوجب الإجابة عليه وهو: ما هي هوية هذه الدولة الوليدة؟ وغالباً ما أدى حسم البعض للإجابة- بعدما تهيأت لهم السبل لذلك- إلى النأي ببلدانهم عن الأزمات، وقادوها إلى الثبات والاستقرار، ويبدو أن مؤسسي الدولة العراقية الحديثة ابتداء من عام (1921م) قد واجهوا أزمة هوية حقيقية، لأن العراق حسب رأي بعضهم لم يكن وحتى مطلع القرن العشرين بلداً موحداً ولا شعباً متجانساً ولا مجتمعاً متكاملاً ينضوي تحت هوية وطنية واحدة، ففي الوقت الذي خضع فيه الحضر إلى الشريعة الإسلامية، كان الريفيون يخضعون عموماً إلى القيم والأعراف والعصبيات القبلية المصبوغة بصبغة دينية، وخضعت فئة الأفندية إلى الثقافة التركية، ولم تشغل القومية مركز استقطاب لمشاعرهم القومية( ). وكان موضوع الروابط والفروقات من المواضيع الأساسية، في أغلب الأبحاث التي نشرت حول العراق خلال العقود الثلاثة الماضية . إلا أن حقيقة وطبيعة هذه الفروقات وكذلك تعبيراتها السياسية، كانت تعطى في معظم الأحيان تفسيرات مختلفة( ). لقد كان لهذا الانقسام والتشظي دوره الكبير في الحيلولة دون نجاح الدولة العراقية الحديثة في بدايات تأسيسها في بناء روح المواطنة والشعور بالهوية الواحدة( ). ولعل خير ما يعبر عن ذلك المذكرة التي كتبتها الملك فيصل الأول في آذار (1932) قبل وفاته بأشهر قليلة وبعد أن خبر الوضع العراقي عن كثب ولعب دوراً أساسيا فيه مدة اثنتي عشر عاماً، وضمنها خلاصة تجاربه وتقييمه للوضع آنذاك وعرضها في زمني الوزارة السعيدية الثانية على ساسة العراق البارزين الذين عاصروه وتعاونوا معه أو عارضوه، وجاء في نص المذكرة فيما يتعلق بموضوع الهوية:( ).
1.   إن البلاد العراقية من جملة البلدان التي ينقصها، أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية ذلك هو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحالة هذه مبعثرة القوى منقسمة على بعضها.
2.   ففي العراق افكار ومنازع متباينة جداً تستوجب رد الفعل (الشبان المتجددون بما فيهم رجال الحكومة، المتعصبون، السنة، الشيعة، الاكراد، الاقليات غير المسلحة، العشائر، الشيوخ، السواد الاعظم الجاهل المستعد لقبول كل فكرة سيئة بدون مناقشة أو محاكمة).
العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على انقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً اكثريته جاهلة بينه اشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلي عنها بدعوى إنها ليس من عنصرهم، وأكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصرياً إلى نفس الحكومة إلا أن الاضطهاد التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم، وعدم التمرن عليه، و فتحت خندقاً عميقاً بين الشعب العربي المنقسم إلى هذين المذهبين. إضافة إلى أقليات مسيحية، وكتل كبيرة غيرها من العشائر، كردية وشيعية وسنية... تجاه هذه الكتل البشرية، المختلفة المطامع المشارب، المملوءة بالدسائس، حكومة مشكلة من شبان مندفعين، أكثرهم متهمون بأنهم سنيون أو غير متدينين أو أنهم عرب. كل هذه الاختلافات وكل هذه المطامع تشتبك في هذا الصعيد أو تصطدم، وتعكر صفو البلاد و سكونها فإذا لم نعالج هذه العوامل أجمعها وذلك بقوة مادية وحكيمة معاً ردحاً من الزمن حتى تزول هذه الفوارق وتتكون الوطنية الصادقة وتحل محل التعصب المذهبي والديني.
ويقول الملك فيصل أيضاً واصفا شعوره إزاء هذا الوضع "وقلبي ملآن أسى، إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتل بشرية، خالية من أية فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء ميالون للفوضى مستعدون دائما للانتفاض على أية حكومة كانت، فنحن نرى، والحالة هذه، أن نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه، وندربه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم عظيم الجهود التي يجب صرفها لا تمام هذا التكوين وهذا التشكيل"( ).
لقد أدرك الملك فيصل الأول أنه لم يكن يوجد في العراق شعب عراقي بالمعنى الصحيح ،وأن سكان العراق كانوا وقتئذ مؤلفين من فئات متعددة متنافرة متباينة في طرق تفكيرها ومصالحها  ولاءاتها الدينية والمذهبية والعشائرية والإقليمية والعنصرية، وتتفاوت فيما بينها تفاوتاً كبيراً في مستوياتها الحضارية، وان مهمة الملك الأولى هي توجد هذا التشتت وصهره في وحدة وطنية وتكوين شعب موحد منه يصلح أن يكون أساسا قوي لبناء دولة عصرية. وكانت خطته لتحقيق هذا الهدف تتألف من اثنتي عشرة فقرة تتفاوت في درجة أهميتها.ويمكن من جهة أخرى أن نفسر هذا النص بأنه تعبير عن الإحباط الذي اعتمل في نفس الملك فيصل الأول جراء فشل مشروعه لبناء هوية وطنية عراقية حديثة واعتقاده أيضاً بان فكرة التماسك والتجانس في العراق هي محض خرافة وغير واقعية ( ). ويؤيد هذه الفكرة العديد من الكتابات والدراسات والبحوث حول العراق الحديث، ومن أبرز الآراء في هذه الشأن آراء (على الوردي) الذي يقول بأن أهل العراق في ذلك الحين(قبل نشوء الدولة العراقية) لم يعرفوا شيئاً من المفاهيم السياسية الحديثة مثل الوطنية، بل كان جل ما يشغل بالهم الإحساس الديني المتمثل بقضايا التعصب المذهبي( ). وبذلك يمكن القول بأن المذهبية والطائفية السياسية والولاء للهويات الفرعية دون الوطنية ليست شيئاً مستجداً أو مستحدثا في العراق كما تدعي بعض الآراء القائلة بأنها مسائل جاءت مع الاحتلال الأمريكي أو إنها من إفرازات الهيمنة الأمريكية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة في ظل العولمة والنظام العالمي الجديد( ). فهذا في واقع الأمر أرث تاريخي لم تستطيع الدولة العراقية تجاوزه لبناء هوية وطنية حديثة تستوعب كافة الهويات الاثنية والدينية والطائفية والقبلية القديمة والسابقة بعهد الدولة الوطنية الحديثة التي، أوضحنا في الفصل الأول من هذا البحث أنها تتطلب نوعاً جديدا من حيث الشكل والمحتوي من الهوية والانتماء( ).ومن المنطقي القول بان من غير الممكن أن نطالب الناس وبالانتماء والولاء إلى شيء غير موجود أساسا، فالانتماء قبل نشوء الدولة العراقية إلى الهويات ما دون الوطنية (القبلية، المذهبية، المناطقية) والهويات ما فوق الوطنية (الدينية- الإسلامية) شيء طبيعي حتى أن ذلك لم يمثل إشكالية فكرية نظرية أو عملية. ولم تنشأ إشكالية الهوية الوطنية العراقية في واقع الأمر إلا بعد نشأة الدولة العراقية الحديثة وهي النشأة التي فرضت ضرورة وجود هوية وطنية لمكونها البشري والانتماء لها. لذلك ترتبط إشكالية الهوية الوطنية العراقية كظاهرة حديثة بمشروع بناء الدولة مما يجعل كل حديث عن إشكالية الهوية قبل نشوء الدولة العراقية غير ذي صلة بموضوع إشكالية الهوية الوطنية العراقية ألتي هي إشكالية حديثة،  ومن هذا المنطلق فان العراق من الدول التي نشأت قبل نشوء أو وجود الأمة فيها مما يجعل عملية بناء الأمة هي المشروع الأول للدولة العرقية وليس العكس كما هو الحال بالنسبة لبعض الأمم والدول الأخرى التي قامت فيها الأمة بإنشاء الدولة ولكن مشروع بناء الدولة العراقية والأمة العراقية وهويتها ظل مشروعاً سياسياً لم يتم انجازه على ما يبدو إلى يومنا هذا بل انه واجه العديد من العقبات وتعثر في العديد من المنعطفات التاريخية.وفي ضوء ما تقدم يمكن القول بأن غياب الهوية الوطنية العراقية و وجود هويات فرعية ما فوق أو ما دون الهوية الوطنية قبل نشوء الدولة العراقية شيء طبيعي ولا صلة مباشرة له بعدم وجود هذه الهوية الوطنية بعد مرور عقود على نشأة الدولة، ومن ثم فإن هذا الغياب السابق لا يبرر الوجود الراهن لإشكالية الهوية الوطنية العراقية.ومن ناحية أخرى فان وجود الإشكالية الراهنة للهوية الوطنية العراقية لا يعني استحالة تجاوز هذه الإشكالية وعدم وجود احتمالية أو إمكانية الإنشاء هذه الهوية إذا توفرت الظروف والشروط اللازمة لذلك.
العراق والبحث عن الهوية الوطنية
قليلة هي الدول التي تقوم على وجود مجتمع أحادي الدين والعرق واللغة، فمعظم دول العالم تضم أقليات كبيرة تتميز عن الأكثرية بأصولها أو بثقافتها أو بديانتها و في أكثر من ثلثي دول العالم أقلية من هذا النوع تضم (20 بالمائة) من السكان أو أكثر( ). وقد ورثت الدول الحديثة وضعاً كانت فيه الهوية الفرعية عنصراً مهما في ولاء الفرد، يكاد يكون طاغيا.وكان تصنيف سكان العراق خلال مرحلة تشكيل الدولة مبنياً على أساس التقسيم الفعلي الموجود على ارض الواقع بين المجتمعات المختلفة، وعلى الرغم من أن هذه المجتمعات تأثرت بعملية بناء الدولة إلا أن التقسيمات هذه حافظت على أهميتها في مجرى العلاقات الاجتماعية والسياسية في الحقب اللاحقة( ).ويعتقد (برهان غليون) أن أزمة الهوية تمد جذورها في تربة المفهوم الوطني الذي صاغته وعاشت عليه الدول الوطنية الحديثة في العالم العربي منذ نشوئها. فقد حرصت هذه الدولة منذ لحظة ولادتها على أن تنتزع لنفسها هوية خاصة، تميزها عن الإرث الحضاري الإسلامي التقليدي الذي يشكل استمراره وإحياؤه تحدياً دائما لها ونفيا قائما لشرعيتها. لقد كان بناء شخصية متميزة هو شرط بقاء هذه الدولة ومبرر وجودها الأخلاقي والعقائدي ككيان حقوقي سياسي مستقل، ويؤكد (غليون) بأن هذه الدولة الحديثة نشأت على أساس تجزئة جماعة لا تزال تتمتع بشعور عميق بوحدتها وانتمائها العميق لمدنية، وثقافة وأمة واحدة، وأصبح استمرارها مرتبطا بإلغاء وجود هذه الجماعة أو خلق التمايزات الوطنية الضرورية فيها، وفي هذه السياق ثم البحث في كل دولة عربية، مهما كانت درجة إصطناعيته، عن الأصول التاريخية ما قبل الإسلامية للثقافة المحلية، وتم أيضاً إبراز حركة التأكيد على الهويات المحلية هذه على أنها مظهر من مظاهر الاستقلال عن الماضي العتيق والمتخلف والدين معاً وكجزء من عملية الاندراج في الحضارة الحديثة العقلانية والعلمانية والوطنية على حد سواء( ).
وفي سياق البحث في مدى نجاح الدولة العراقية في إنجاز هذه المهمة يمكن القول بأن إشكالية الهوية العراقية إحدى الإشكاليات القديمة التي ورثتها الدولة العراقية عند ولادتها وعاشت معها طوال العقود الثمانية الماضية دون أن تتمكن من حلها أو احتوائها أو التعامل معها بابتكار واقتدار. لذلك فقد تفاقمت واتسعت هذه الإشكالية حتى بلغت ذروتها في العقدين الأخيرين بل واندمجت أيضاً مع الإشكاليتين الأخريين وهي الاندماج والوطني والشرعية.وهكذا تنازعت المواطن العراقي، وكما هي الحال مع مواطني الدول العربية الأخرى في مسألة الهوية ثلاث هويات على الأقل متنافسة، إن لم تكن متناقضة، الوطنية والقومية والدينية. وكان من شأن كل اختيار ضمني أو صريح لإحدى هذه الهويات أن يُحدث مشكلات داخلية أو إقليمية، حيث اصطدمت الهوية القطرية الوطنية بمشاعر قطاع كبير من المواطنين الذي يرنون إلى التواصل والالتحام في جامعة سياسية حضارية أوسع، مثل الأمة  العربية أو الأمة الإسلامية. واصطدمت الهوية القومية العربية بمشاعر التكوينات الاثنيته والقومية غير العربية في داخل الدولة  العراقية خاصة والعربية عامة (الاكراد، التركمان). مثلما اصطدمت أيضاً بدول عربية أخرى، وبخاصة من جيرانها، كانت قد قررت صراحة أو ضمنا أن تكون وطنيتها القطرية اختياراً نهائيا لهويتها. واصطدمت الهوية الدينية بمشاعر غير المسلمين فضلا عن اصطدامها بالولاءات المذهبية والطائفية داخل الدين الواحد كالسنة والشيعة في الإسلام( ). ومن ثم فقد كانت تداعيات الاختيار بين الهويات المتنافسة، ولغة الخطاب السياسي والممارسة الفعلية المصاحبة لكل اختيار هي مشكلة للدولة العراقية منذ ولادتها.
وبالرغم من كون العراق دولة تتسم بالتنوع والتعدد السياسي والاجتماعي والثقافي والجغرافي إلا أنها لم تكن قادرة على تبني فكرة بناء الهوية الوطنية عن طريق تبني التعددية الثقافية التي لم تجد قبولا لدى النخب السياسية التي قادت عملية إنشاء العراق الحديث( ). ويعني ذلك أن مشروع بناء الهوية الوطنية العراقية لم يتجه إلى مزج التقاليد المحلية للمجموعات الثقافية العراقية وكما حددتها الايدولوجيا القومية والدينية السياسية. لقد تجلى طرح الهوية في العراق منذ قيام الدولة وينعكس في أفعالها وحراكها، وقد تراوح التعبير عن الذات العراقية الحديثة بين ثلاثة اتجاهات تتنازع تعريف الذات والتأسيس على هذا التعريف، وهي اتجاه الدولة الوطنية واتجاه الدولة الدينية واتجاه الدولة القومية. وقد تلبست كافة هذه الاتجاهات التعريفية بمناهج بنيوية حملت الدولة بالقوة على فهمها دونما أدنى مرونة، والأكثر تعقيداً هنا تداخل هذه الاتجاهات في تكوين وتشكيل الهوية لدى النخب المجتمعة والسياسية والجمهور معا، وهو تداخل على مستوى الفهم والوظيفة السياسية، يضاف إلى ذلك مديات التخزين الثقافي والتاريخي الذي حاولت بعض الأطراف توظيفه لشد هوية الدولة الجديدة إلى نموذج الدولة الدينية. ونلاحظ هنا أن مأزق هوية الدولة العراقية تشاطره مفاهيم ومقولات ووظائف مفاهيمية وبنيوية من قبيل: الوطن العربي والأمة العربية والدولة القومية، والوطن الإسلامي والأمة الإسلامية والدولة الإسلامية بالإضافة إلى الأممية والدولة الاشتراكية، في خلط مفاهيمي وبرامجي أفقد معه هوية الدولة في الإنشاء والتشكل والدور والوظيفة، ومعلوم أن أي فشل في تأكيد هوية الدولة و وضوح طبيعتها يضر لا محالة ببنيتها وفعلها الخارجي ومثلما يفقدها وضوح الانتماء فإنه يفقدها وضوح ورسوخ التأسيس والبقاء وفي هذه الحالة ستنشط الذات الوطنية وتفقد بوصلة الاتجاه( ).

Previous Post Next Post