مفهوم الهوية
تعريف الهوية لغة واصطلاحا
1- الهوية لغةً
       جاء في (المعجم الفلسفي) أن مصطلح "الهوية ليست عربيا في أصله ، وإنما اضطر إليها بعض المترجمين، فاشتق هذا الاسم من حرف الرباط، أعني الذي يدل على ارتباط المحمول بالموضوع في جوهره، وهو حرف (هو)"([1]). وهناك من يميّز بين (الهَوية- بفتح الهاء) و(الهُوية- بضم الهاء)، حيث يرى احد الباحثين بأن معنى (الهَوية- بفتح الهاء) يختلف اختلافاً بيّناً عن معناها (بضم  الهاء)([2])، فالهَوية (بفتح الهاء) تعني على الصعيد المعجمي العربي القديم، وكما جاء في (لسان العرب)، "المَزيّة" البئر بعيدة المهوان، والهُوّة، البئر أو الحفرة البعيدة القعر([3]). أما كلمة (الهُوية) (بضم الهاء)، فهي كلمة "جديدة طارئة على اللغة العربية"، حيث إن مصطلح (الهُوية) لا يمت في حد ذاته بصلة إلى جوهر اللغة العربية "فهو طارئ عليها". إن المعاجم العربية القديمة تخلو من كلمة (الهُوية- بضم الهاء)، ولا نجد هذه الكلمة لا في المعاجم الحديثة مع ذلك فإنها قد استقرت كاصطلاح له تعريفاته التي تعكس مفهوم المعرفين له"([4]).
ويشرح لنا (فتحي المسكيني) طبيعة التمايز والتشابه بين (الهَوية والهُوية) وأصلهما في اللغة العربية، فيقول بأن "فلاسفتنا القدامى قد استعملوا لفظة (هُوية) المتحولة من الضمير المفرد المذكر الغائب (هو)، بوصفه مقابلاً للفظة (إسنين) في اليونانية و(هسسن) في الفارسية، للدلالة على وجوه المعنى الذي أقره أرسطو لمفهوم الوجود، وأن لفظة (الهُوية) مستعملة في ترجمة (مابعد الطبيعة)، التي فسرها (ابن رشد) للدلالة على معنى (الوجود) في اليونانية"([5]). ويضيف قائلا :"ان الانزياح من لفظة (هُوية) من المعنى الانطولوجي (الوجودي) الدال على معنى الوجود، كما استعمله الفارابي وابن رشد، إلى المعنى الابستمولوجي (المعرفي) الحديث للأنا معمول به منذ ديكارت إلى كانط، هو واقعة فلسفية"(، وبذلك ثم التحول من "(الهُوية) الوجود (الانطولوجيا) إلى (الهُو) الفينومينولوجي (الظاهراتي) الذي استكشفه المحدثون، وأيضاً إلى الطرح الانثروبولوجي (علم الاناسة- الإنسانيات) والثقافي لمسألة (الهَوية) كما صار شائعاً اليوم". فإذن حسب رأي (فتحي المسكيني) فإن "لفظة الهَوية- identite" في مستوى اللغة العادية العربية الحديثة  (غير الفلسفية)  تشير إلى (نحن) انثروبولوجية وثقافية،  يختلف عن (الهُوية ipsete) التي تقع في مستوى اللغة الفلسفية، نحن نشكل لفظة (الهَوية- بفتح الهاء)، حتى نميزها عن لفظة (هُوية- بضم الهاء)، وإن كان هذا مجرد استحداث للفصل، كما في الفرنسية بين مصطلحي (identite وipseite) فهو اختيار له دلالة تأويلية"([6]). إذاً هناك عدة تحولات (انزياحات) من (هُو) نحوي (ضمير مفرد مذكر غائب هو) إلى (هُو) منطقي إلى (هو) انطولوجيا (وجودي)، ومن ثم إلى (هُوية) أنطولوجية في الفلسفة العربية إلى (هَوية) أنثروبولوجية وثقافية في نظام الخطاب السوسيولوجي- التاريخي([7]).
وجاء في (لسان العرب) حول الهوية هوية (فلسفية)، منطقياً: الوجود الفردي المتعين في مقابل الماهية، صوفياً: تدل على الذات العلية على أنها هي دون حاجة إلى بيان صفة، والغيبية: هنا في مقام الحضور والشهود، الهوية، حقيقة الشيء التي من حيث تميزه عن غيره ، وتقال الهوية بالترادف "على المعنى الذي ينطبق عليه اسم الموجود وهي مشتقة من الهو كما تشتق الإنسانية من الإنسان، وإنما فعل ذلك بعض المترجمين لأنهم رأوا أنها أقل تغليظاً من اسم الموجود إذ كان شكله شكل اسم مشتق، و(مبدأ الهوية) صيغته (أن الموجود هو ذاته)، أو (هو ما هو)، هذا المبدأ يهيمن على الأحكام والاستدلالات الموجبة، وشأنه أن يجعلنا نحرص على ألا نخلط بين الشيء وما عداه، (أن نضيف للشيء ما ليس له) ([8]). هكذا تكون لفظة (الهُوية) قد دخلت إلى اللغة العربية كترجمة لـ(الوجود) ، وهي "اسم مرادف لاسم وحدة الوجود، قال الفارابي: هوية الشيء هو غيبته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له، كلُ واحد، وقولنا إنه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد له الذي لا يقع فيه اشتراك"([9]).
والهوية عند بعضهم "هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق، وتطلق الهوية على الشيء من جهة ما هو واحد، وتطلق الهوية على الشخص، إذا ظل هذا الشخص ذاتاً واحدة رغم التغيرات التي تطرأ عليه في مختلف أوقات وجوده"([10]).
ويعرف (الجرجاني)، الهوية "هو الأمر المتعقل من حيث امتيازه عن الأغيار، والامتياز هذا بمعنى الخصوصية والاختلاف لا يعني التفاضل، وعلى هذا فانتفاء خصوصية الشيء هو انتفاء لوجوده ونفيه" ([11]).
ويذهب رأي آخر إلى تحديد معنى مغاير للهوية، حيث يقول إنها "تضاف إلى الكلمة (بطاقة)، أو توصف بالنعت (الشخصية)، لتجعلنا نحصل على المصطلح (بطاقة الهوية أو البطاقة الشخصية) المتداولين حديثاً، فيذكر أن الهوية بطاقة يثبت فيها اسم الشخص وجنسيته ومولده وعمله"([12]). وجاء في (دليل أكسفورد للفلسفة) حول الهوية، بأن "الهوية بوصفها حالة الكينونة المتطابقة بإحكام أو المتماثلة إلى حد التطابق التام أو التشابه المطلق، والكينونة، هنا تتعلق بالشيء المادي أو بالشخص الإنساني". إن الأمر يتعلق بالتطابق التام بين باطن الشيء وظاهره، أو بتماثل الشكليات الظاهرة لأية كينونة مع جوهرها العميق بلا انفصام أو انشطار مهما كان ضئيلاً"([13]).

والهوية في اللغة الإنكليزية هي (Identity) المشتقة من (ident أو idem) اللاتينية، وتعني الشيء ذاته (Sameness) أو (Likeness)([14]). وتعني في المعاجم اللغوية الإنكليزية عدة معاني منها ؛ حقيقة بقاء الشيء كما هو عليه وتحت أي ظروف مختلفة، وتعني أيضاً كينونة الذات أو الشيء وتميز هذه الذات عن غيرها، والخاصية التي تجعل شخصاً ما معروفاً أو متعيناً، أو حقيقة بقاء شيء معين ثابتاً ومعروفاً، كما تدل ايضاً على التشابه التام في الطبيعة أو النوعية والمماثلة التامة([15]). و يشار أيضاً إلى (الهوية) كـ(بطاقة الهوية- Identity Card) بأنها تلك البطاقة الرسمية التي تحمل البيانات الشخصية حول الشخص الذي يحملها([16]). وتعني كلمة (identity) أيضاً تعيين أو تأسيس الهوية عن طريق إثبات أن الشخص أو الشيء المعين هو ماهو عليه، كما تعني التساوي أو التطابق، وتعني أيضاً التماهي أو تقمص الهوية (هوية ما)([17]).
2-  الهوية اصطلاحاً
       تعاني المفاهيم، وكما هو الحال في العلوم الإنسانية بصورة عامة والعلوم الاجتماعية والسياسية بصورة خاصة، من إشكالية في التعريف وتحديد المعنى باختلاف الزمان والمكان أو اختلاف المنطلقات الفكرية التي تتناول هذا المفهوم أو ذاك، أو المجال المعرفي والعلمي في البحث والدراسة. ومفهوم الهوية كما يقول هنتنغتون "لا يستغنى عنه، وفي الوقت نفسه غير واضح، إنه متعدد الأوجه، تعريفه صعب، ويراوغ العديد من طرق القياس العادية"([18]). وعلى الرغم من البساطة الظاهرية التي يتبدى فيها هذا المفهوم فإنه وعلى خلاف ذلك "يتضمن درجة عالية من الصعوبة والتعقيد والمشكلة، وذلك لأنه بالغ التنوع في دلالاته واصطلاحاته"([19]). ويقول رأي آخر بأن مفهوم الهوية " على قدر كبير من الأهمية، والذي أثار ولا يزال جدلاً واسعاً في صفوف المثقفين، ليس فقط فيما يختص بتعريف المفهوم بل حتى فيما يتعلق بوجوده"([20])، ويقول هذا الرأي أيضاً بأنه يتبادر إلى الذهن أن الهوية شيء محسوس يمكن وضع آلية عليه وصياغته ضمن تعاريف محددة، وأن هناك شيئاً محدداً يمكن أن نسميه الهوية لمجتمع ما ولكن الأمر أكثر تعقيداً مما يبدو للوهلة الأولى، فما أن تحاول وضع تعريف للهوية حتى تقف أمامك تساؤلات تجبرك على إعادة النظر في ذلك التعريف حتى لتكاد تنتهي إلى أمور هي من فئة تحصيل حاصل([21]).
       ويقول (أمين معلوف) حول مفهوم الهوية "لقد علمتني حياة الكتابة أن أرتاب من الكلمات، فأكثرها شفافية غالباً ما يكون أكثرها خيانة، وإحدى هذه الكلمات المظللة هي كلمة (هوية) تحديداً، فنحن جميعاً نعتقد بأننا ندرك دلالتها ونستمر في الوثوق بها وإن راحت تعني نقيضها بصورة خبيثة"([22]). إذاً مفهوم الهوية مثل معظم مفاهيم العلوم الاجتماعية مفهوم هلامي وواسع يحتمل الكثير من المعاني والتفسيرات وكثيراً ما يتم خلطه مع مفاهيم أخرى مثل (الثقافة، الخصوصية، القومية، الأصالة)، أو يستخدم بدلاً من هذه المفاهيم، وذلك لتداخلها وتشابهها مع تلك المفاهيم([23]). إذاً يعتبر مفهوم الهوية من المفاهيم الحديثة التي ترتبط بالوجود والذات والتراث الثقافي، مثلما ترتبط بالتعدد والتنوع والاختلاف والتغيير، أو بالتشابه والتماثل والثبات الاجتماعي في صيغها المختلفة ومستوياتها المعرفية المتنوعة وكذلك في سياقاتها المتعددة التي تنتج وعياً اجتماعياً يثير تساؤلات تقترب بالهوية من حيث دلالاتها وأبعادها ومكوناتها الأساسية وعلاقاتها بما هو ثابت ومتغير من عناصرها، ومن حيث هي وعي متوتر وملتبس في علاقتها مع مكوناتها من جهة ومع الآخر من جهة ثانية ([24]). ووصف الباحث البارز في الهوية في القرن العشرين (إريك إريكسون) هذا المفهوم بأنه منتشر في كل مكان، لكنه غامض ولا يسبر غوره أيضاً([25])، وهناك من يقول بأن الهوية كالإثم لا نستطيع النجاة منه مهما عارضناه([26]).
       ولكن كل هذه التصورات والآراء المتخوفة من مفهوم الهوية ومع كل ما يحيط بهذا المفهوم من التعقيدات والغموض، يجب ألا تمنع من السعي لتحديده وتعريفه في العلوم الاجتماعية والسياسية بعد أن حددناه وعرفناه لغوياً وقاموسياً كضرورة حتمية للبحث العلمي للتعرف على خصائصه وانواعه ومكوناته وعناصره. وعن سؤال (كيف نعرّف الهوية؟) نجد لدى الباحثين أجوبة مختلفة، لكنها تتفق على فكرة واحدة مركزية تفيد بأن الهوية هي: إحساس الفرد أو الجماعة بالذات إنها نتيجة وعي الذات، بأنني أنا أو نحن نمتلك خصائص مميزة ككينونة تميزني عنك وتميزنا عنهم([27])، فالطفل الجديد قد يمتلك عناصر هوية ما عند ولادته بالعلاقة مع اسمه وجنسه وأُبوته وأمومته ومواطنيته، وهذه الأشياء في كل حال، لا تصبح جزءاً من هويته حتى يعيها الطفل (الإنسان) ويعرف نفسه بها، وهنا يتم التركيز على الوعي والإدراك في مسألة الهوية لأن العناصر والخصائص المعينة لا تصبح هوية معينة حتى يعيها الإنسان ويدركها ويستخدمها للتعبير عن هويته، ويطرح هذا التساؤل حول متى وكيف يتم تحديد هوية ما؟، إن الهوية كما عبرت عنها مجموعة من الباحثين "تشير إلى صور الفردية والتمييز الذاتية يحملها ويخططها ممثل ويشكلها ويعدلها مع مرور الزمن عبر العلاقات مع الآخرين"([28]). هكذا تكون الهوية على المستوى الفردي، ولكن يمكن تطبيق ذلك على المستوى الجماعي أيضاً، لتصبح في هذه الحالة صورة الجماعة وتميزها واختلافها عن الآخرين، وتكون الهوية في هذا التعريف في حالة التغير والتحول والتكون المستمر.
ويعرفها (اليكسي ميكشيللي) بأنها مركب من العناصر المرجعية المادية والاجتماعية والذاتية المصطفاة التي تسمح بتعريف خاص للفاعل الاجتماعي، والهوية بالنسبة للفاعل الاجتماعي "مركب من العمليات والأطروحات المتكاملة التي تفسر العالم وتأخذ صيغة تعبيرية خاصة تطلق عليها النواة الهوياتية، وتضرب الهوية الذاتية للفاعل الاجتماعي جذورها في غمار الإحساس بالهوية الذي يمنح الكائن الاجتماعي التماسك والتوجه الدينامي على نحو شمولي"([29]). ويمكن الاستنتاج مما تقدم بأن الهوية مجموعة من السمات المادية والمعنوية التي تسمح لنا بتعريف موضوع أو شيءِ معين، وتتكون من جانبين (موضوعي وذاتي)، الموضوعي؛ هو وجود مجموعة من السمات والعناصر، والذاتي؛ هو اصطفاء واختيار أي جزء من هذه السمات والعناصر. ويعرف (أنتوني غدنز) هذا المصطلح بأنه "السمات المميزة لطابع الفرد أو الجماعة بماهيتهم وبالمعاني ذات الدلالة العميقة لوجودهم"([30]). ويشير إلى أن مفهوم الهوية في علم الاجتماع متعدد الجوانب ويمكن مقاربته من عدة زوايا، فالهوية بشكل عام تتعلق بفهم الناس وتصورهم لأنفسهم ولما يعتقدون أنه مهم في حياتهم، ويتشكل هذا الفهم انطلاقاً من خصائص محددة تتخذ مرتبة الأولوية على غيرها من مصادر المعنى والدلالة، ومن مصادر الهوية؛ الجنوسة*، التوجه الجنسي، الجنسية، المنطلقات الإثنية، والطبقة الاجتماعية... الخ([31]). ويعرف (عز الدين المناصرة) الهوية عبر علاقتها بالسلوك واللغة والثقافة بأنها "مجموع قوائم السلوك واللغة والثقافة التي تسمح لشخص أن يتعرف على انتمائه إلى جماعة اجتماعية والتماثل معها، غير أن الهوية لا تتعلق فقط بالولادة، أو بالاختيارات التي تقوم بها الذات، لأن تعيين الهوية سياقي ومتغير"([32]).
وهناك مجموعة أخرى من تعريفات الهوية منها تعريف (محمد عابد الجابري) الذي يقول إن "الهوية وجود وماهية، وفي المجال البشري، مجال الحياة الاجتماعية على الأقل، الوجود سابق للماهية دوماً، الشيء الذي يعني أن الماهية ليست معطى نهائياً بل هي شيء يتشكل، يشيء، يصير"([33]).
ويعرفها (رشاد عبد الله الشامي) بأنها "الشفرة التي يمكن للفرد عن طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، والتي عن طريقها يتعرف عليه الآخرون باعتباره منتمياً إلى تلك الجماعة، وهي شفرة تتجمع عناصرها المكونة لها على مدار تاريخ الجماعة وتراثها الإبداعي وطابع حياتها"([34]). وحسب رأي (الشامي) فإن الملامح الحقيقية للهوية هي تلك التي تنتقل بالوراثة داخل الجماعة، وتظل محتفظة بوجودها وحيويتها مثل الأساطير والقيم والتراث الثقافي، وتحدد الهوية الشعور العميق الوجودي الأساسي للإنسان، ولكن على الرغم من وجود تأثير الوراثة في تحديد هوية ما، يجب أن لا ننسى الإضافات والتحولات التي تطرأ على عناصر هوية ما، وأيضاً دور الاختيار والاصطفاء للعناصر المستحدثة كانت أو وراثية للهوية. ويعرفها (ديفيد ميللر) بأنها "أنماط السمات التي يمكن ملاحظتها أو استنتاجها والتي تميز شخصاً في نظر نفسه ونظر الآخرين"([35]). ويقول (أمين معلوف) حول الهوية، بأنها مسألة فلسفية جوهرية منذ قول سقراط الشهير (اعرف نفسك بنفسك) وصولاً إلى فرويد مروراً بفلاسفة كثيرين آخرين، والتصدي مجدداً لهذا التحديد في أيامنا الراهنة، يحتاج إلى كفاية أكثر مما أملك، ولذلك نرى (أمين معلوف) يسعى إلى التبسيط في تحديد مفهوم الهوية بقوله بأن "هويتي هي التي تعني أنني لا أشبه أي شخص آخر"([36])، وهذه نزعة فردانية في النظرة إلى الهوية. ويقول (سليم مطر) إن مفهوم الهوية واسع وشامل لكل الخصوصيات، فرداً أو مجموعة، إن هوية الشيء تعني ماهيته وشخصيته الموحدة والدائمة التي تميزه عن باقي الهويات التي يتكون منها الوجود بكل معانيه"([37]). وباستقراء العينة السابقة من تعاريف الهوية، نلاحظ أن أغلبها يؤكد على أن هوية الإنسان هي حقيقته التي تميزه عن إنسان آخر، وأنه بالرغم من أن كل البشر متساوون، فإنه يمكن القول أن هوية الإنسان يحددها إنتماءه، حيث نلاحظ أن بعض التعاريف تربط بين الهوية والإنتماء مما يجعل الهوية محصلة الإنتماءات ويتجلى الإنتماء في تحديد عناصر وخصائص محددة ومصطفاة بوعي أو بغير وعي لتعريف الإنسان سواء كان فرداً أو جماعة.
واستخلاصاً من التعاريف السابقة لمفهوم الهوية لغوياً واصطلاحياً يمكن تعريف الهوية بأنها، (منظومة من الخصائص والعناصر المادية والمعنوية المكونة لوجود شيء ما والتي تميزه عن الأشياء الأخرى بصورة عامة على الرغم من وجود عناصر وخصائص متشابهة). وتكون العناصر والخصائص المحددة لهوية شيء ما على نوعين (عناصر وخصائص عامة قد تشترك معها الهويات الأخرى، وعناصر وخصائص خاصة ينفرد بها هذا الشيء). وبتطبيق هذا التعريف على الإنسان (الفرد)، تكون الهوية هي (كل ما يحدد وجود الإنسان وكينونته من العناصر والخصائص المادية والمعنوية)، وتكون هوية الجماعة هي كل ما يحدد وجود الجماعة البشرية وكينونتها من العناصر والخصائص المادية والمعنوية التي تميزها بصورة عامة عن الجماعات الأخرى بالرغم من وجود التشابه الجزئي بين الجماعات البشرية ولكن وجود كينونة متمايزة ومنفردة عن الآخرين لا يكفي في حد ذاته لتحديد هوية الجماعة ما لم يصاحبه وعي الجماعة بهذه الخصائص والعناصر المكونة لذاتها وإدراكها لها، وهنا يتدخل عنصر الإرادة البشرية في تحديد هويتها. ولكن الإرادة والوعي ليسا مايحسم مسألة الهوية بالمطلق لأنهما يعتمدان على ماهو موجود من العناصر والخصائص المكونة للذات سواء أكانت جماعية أو فردية، وتختار منها ما يناسب تصوراتها ومصالحها، نستطيع أن نقرر اذاً بأن (العناصر المادية والمعنوية) تعطي خصائص معينة وتحدد صورة عامة عن جماعية معينة، والوعي والإرادة والوعي يختاران ويصطفيان ما تعتقد الذات بأنه يمثلها ويعبر عنها وفق أسس ومعايير متنوعة تلعب فيها المصلحة دوراً بارزاً في اختيار واصطفاء عناصر الهوية (الفردية كانت أم الجماعية) بالإضافة إلى الظروف التاريخية وعوامل خارجية وداخلية (ذاتية وموضوعية)، أي البيئة الداخلية والبيئة الخارجية المحيطة بالجماعة وخاصة على الصعد الثقافية والسياسية والاقتصادية. وتلعب الهوية بالنسبة للذات للفردية أو الجماعية دوراً ذا بعدين أو اتجاهين من حيث إنها؛ تميز الذات عن غيرها وتكون موضع اعتزازها، أي أنها تعمل على الصعيد الخارجي. وتعمل أيضاً، على تحقيق التشابه والتجانس والاندماج داخل الذات الجماعية وبين أفرادها. وعلى المستويين الداخلي والخارجي، تستبعد الهوية كل الصفات والخصائص التي لا تعتز بها، وهنا تلعب المعتقدات والأفكار والأيديولوجيات دورها في تحديد العناصر والخصائص التي هي موضع الاعتزاز وما هو غير ذلك. وإذاً فإن الهوية تبنى على أساس الصورة التي تراها الجماعة لنفسها ولكن هذا أيضاً يحتاج إلى اعتراف الآخرين بهذه الصورة عن الذات، وهنا تبرز أهمية ودور الآخر في مسألة الهوية. وفي كل أنواع الهويات الجماعية تتعلق الهوية بالشعور بالإنتماء المشترك بين أعضاء المجتمع السياسية إلى شيء يعتبرونه مشتركاً بينهم. سواء كان هذا المشترك أرضاً (إقليماً جغرافياً)، أم ثقافة، أم دولة (كيان سياسي- الهوية الوطنية)، والرغبة في التفاني والتضحية في سبيله، ويعني هذا أن الهوية تقع فيما يطلق عليه الجانب الرمزي من السياسة، وتؤثر من خلاله من كافة الجوانب الأخرى في حياة الجماعة. وهذا مايقوله (سعد الدين إبراهيم) عندما يؤكد بأن مسألة الهوية تنطوي في الأساس على معانٍ رمزية وروحية وحضارية جماعية، تعطي الفرد إحساساً بالإنتماء إلى جسم أكبر، وتخلق لديه الولاء والاعتزاز بهذا الجسم الأكبر([38]).

([1]) جميل صليبا، المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية، ج2،م س ذ , ص530. وينظر أيضا ما يؤيد هذا الراي في كل من : ناظم عبد الواحد الجاسور، موسوعة علم السياسة، ط1، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان-الأردن، 2004، ص384. ؛ عبد المنعم الحفني، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، ط3، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2000، ص911؛ محمد علي التهانوي، موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تقديم وإشراف ومراجعة: رفيق العجم، ج2، ط1، مكتبة لبنان، بيروت، 1996، ص1745-1746؛ المعجم الوجيز، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1997، ص654.
([2]) سعيد التل، هوية الإنسان في الوطن العربي (تعريف الهوية)، عن الانترنت- شبكة النبأ الإخبارية:
http://www.annabaa.orgnbanews62503.htm/ 1/آيار/2007  
([3]) ابن منظور، لسان العرب، المجلد 15، ط3، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، 2004، ص116-117.
([4]) سعيد التل، هوية الإنسان في الوطن العربي (تعريف الهوية)، عن الانترنت، م.س.ذ.
([5]) للتفصيل ينظر: فتحي المسكيني، الهُوية والزمان (تأويلات فينومينولوجية لمسألة –النحن-)، ط1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 2001، ص6.
([6]) المصدر السابق، ص8.
([7]) المصدر السابق، ص9.
([8]) ابن منظور، لسان العرب ، إعداد وتصنيف: يوسف خياط ونديم مرعشلي، مجلد 1، ط1، دار لسان العرب، بيروت، 1970، ص189
([9]) جميل صليبا، المعجم الفلسفي، م.س.ذ، ص530.
([10]) المصدر السابق، ص531.
([11]) الجرجاني، التعريفات، نقلاً عن: عامر رشيد مبيض، موسوعة السياسة الاجتماعية الاقتصادية العسكرية (مصطلحات ومفاهيم)، ط1، دار المعارف، مكتبة الأسد، الجمهورية العربية السورية، 1999، ص1380.
([12]) عبد الرحمن بسيسو، الثقافة والهوية (الثقافة ومعركة الدفاع عن الهوية)، ضمن مشروع: الخطة الاستراتيجية للثقافة الوطنية، ورشة عمل خاصة لمناقشة مسودة الخطة، غزة، 16/5/2005، من الانترنت:
http://home.birzeit.edu/dsp/arabic/news/other/2005/april-16/abd.do.c.
([13])تد هوند رتش, دليل أكسفورد للفلسفة، ج2، من حرف (ظ إلى ي)، ترجمة: نجيب الحصادي، ط1، المكتب الوطني للبحث والتطوير، دار الكتب الوطنية، بنغازي- ليبيا، 2005، ص995-996.
([14])  The Oxford English Dictionary, Volume V, Oxford University Press, Ely House, London, W.I, Clarendon Press, 1970, P.951.
([15]) للتفاصيل ينظر:
Webster's Third New International Dictionary of the English Language, Volume II (H to R), By G and C. Merriam, Inc., Encyclopedia Britannica, 1971, P.1123.
([16]) المصدر السابق، ص1123. Opcit, P.1123.                                
([17]) قاموس أكسفورد الحديث لدارسي اللغة الإنكليزية (إنكليزي- إنكليزي- عربي).
Oxford English Dictionary, Eleventh Impression 2004, Oxford University Press, New York, P.377.
([18]) صموئيل ب. هنتنغتون، من نحن؟ التحديات التي تواجه الهوية الأمريكية، ترجمة: حسام الدين خضور، ط1، دار الرأي للنشر، دمشق، 2005، ص37.
([19]) إليكس ميكشيللي، الهوية، ترجمة: علي وطفة، ط1، دار الرسيم للخدمات الطباعية، سوريا، 1993، ص7.
([20]) أميرة كشغري، الهوية الثقافية بين الخصوصية والتبعية (مقاربة معرفية- اجتماعية)، ورقة عمل مقدمة في برنامج الفعاليات الثقافية المصاحبة لمعرض الرياض الدولي للكتاب، 22/فبراير-3/مارس/2006.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=113330
([21]) المصدر السابق.
([22]) أمين معلوف، الهويات القاتلة، ترجمة: نهلة بيضون، ط1، دار الفارابي للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، 2004، ص17. 
([23]) حول ذلك ينظر: سليم مطر، الهوية الوطنية بين الفرد والجماعة، عن موقع الحوار المتمدن، 28/11/2003، من الموقع:
http://www.rezgar.com/debate/show.art.asp?ad=12079#
وأيضاً: محمد صالح الهرماسي، مقاربة في إشكالية الهوية: المغرب العربي المعاصر، دار الفكر، دمشق، 2000، ص ص19، 35.
([24]) إبراهيم الحيدري، إعادة إنتاج الهوية العراقية (محاولة أولية لمعرفة الذات ونقدها)، من موقع الثقافة الجديدة، (الانترنت):
http://www.althakafaaljadeda.com/317/19.htm.
([25]) صموئيل هنتنغتون، من نحن؟، م.س.ذ، ص37.
([26])المصدر السابق، ص37.
([27])نقلاً عن ليون ويستليه، ضد الهوية،:المصدر السابق، ص37.
([28]) المصدر السابق، ص38.
([29])اليكسي ميكشيللي، الهوية، م.س.ذ، ص169.
([30]) انتوني غدنز، علم الاجتماع، م س ذ , ص766.
* يقصد (انتوني غدنز) بـ(الجنوسة- Gender)؛ التوقعات الاجتماعية حول السلوك الذي يعتبر مناسباً للأفراد من الجنسين، ويشير إلى السمات التي وضعها أو أسبغها المجتمع على الرجولة والأنوثة، ينظر: المصدر السابق، ص747.
([31]) المصدر السابق، ص90.
([32]) عز الدين مناصرة، الهويات والتعددية اللغوية (قراءات في ضوء النقد الثقافي المقارن)، ط1، دار مجدلاوي للطباعة والنشر، عمان-الأردن، 2004، ص24.
([33]) محمد عابد الجابري، مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997، ص10.
([34]) رشاد عبد الله الشامي، إشكالية الهوية في إسرائيل، نقلاً عن: خالد جمعة، قراءة في كتاب (إشكالية الهوية في إسرائيل-رشاد عبد الله الشامي)، من الانترنت:
http://www.sis.gov.ps/arabic/roya/3/page16/html.                                      
([35]) خالد جمعة، المصدر السابق.
([36]) أمين معلوف، الهويات القاتلة،  م . س . ذ   ، ص17.
([37]) سليم مطر، مقالات في الهوية: مفهوم الهوية بين التعميم والتخصيص، من موقع الحوار المتمدن، العدد 666، 28/11/2003، من الانترنت:
http://www.rezgar.com/debat/she.art.asp?o.d=12070#
([38]) سعد الدين إبراهيم وآخرون، المجتمع والدولة في الوطن العربي ، م س ذ, ص332.

Previous Post Next Post