مستويات الهوية وعناصرها
1- مستويات الهوية
        هناك عدة أنماط من تصنيفات للهوية، سواء تلك التي تقوم على أساس أنواعها أو على أساس مستوياتها، ولكننا في هذا المطلب نعتمد تصنيف الهويات إلى مستوياتها و سنتطرق لاحقاً إلى أنواعها.
        يحدد (محمد عابد الجابري) ثلاثة مستويات للهوية الثقافية؛ فردية وجمعوية ووطنية قومية، وتتحدد العلاقة بين هذه المستويات أساساً بنوع آخر الذي تواجهه، وهو يقول أن الهوية تتحرك في اطار ثلاث دوائر متداخلة ذات مركز واحد:- ([1])
1)  الفرد داخل الجماعة الواحدة، قبيلة كانت أو طائفة أو جماعة مدنية (حزباً أو نقابة... الخ)، وهي عبارة عن هوية متميزة ومستقلة، أي عبارة عن (أنا) لها (آخر) داخل الجماعة نفسها، أنا تضع نفسها في مركز الدائرة عندما تكون في مواجهة مع هذا النوع من (الآخر).
2)  الجماعة داخل الأمة، وهي كأفراد داخل الجماعة ولكل منها ما يميزها داخل الهوية العامة الكلية المشتركة، ولكل منها أنا خاصة بها و(آخر) من خلاله وعبره تتعرف على نفسها.
3)   الأمة، وهو هوية جماعية ولكن أوسع من المستوى الثاني (الجماعة داخل الأمة)، إذ أنها أمة واحدة داخل الأمم الأخرى، غير أنها أكثر تجريداً وأوسع نطاقاً وأكثر قابلية وتنوعاً واختلافاً.
إذاً هناك ثلاثة مستويات للهوية الثقافية للإنسان، وهي الهوية الفردية الشخصية والهوية الجمعوية (الجماعة المحلية) والهوية الوطنية أو القومية، والعلاقة بين هذه المستويات ليست  ثابتة، بل هي في مد وجزر دائميين يتغير مدى كل منهما اتساعاً وضيقاً بحسب الظروف وأنواع الصراع والتضامن و اللا تضامن التي تحركها المصالح الفردية والجمعوية والوطنية القومية([2]). ويبدو أن (محمد عابد الجابري) ينسى أو يهمل مستويات أخرى للهوية الجماعية لأن الجماعات البشرية، ومهما تمايزت كشعوب أو قوميات عن بعضها البعض توجد فيها مستويات أخرى للهويات الجماعية قد تتجاوز الشعوب والقوميات لتشمل عدة شعوب وأمم، وقد تكون هناك هوية جماعية ولكن بين القوميات والأمم،  كجماعات الدفاع عن حقوق الإنسان أو الدفاع عن البيئة مثلاً، أو جماعات فنية وثقافية أو اقتصادية متعددة الجنسيات مابين الأمم والدول، وقد تكون هناك هوية جماعية ما فوق الأمم والقوميات أي عالمية إنسانية (أممية) كالهويات الدينية الهوية الإسلامية على سبيل المثال تجمع قوميات وأعراق وإثنيات وشعوب ودول مختلفة، ويكون الآخر في هذه الحالة الأديان والثقافات المسيحية أو البوذية أو الكونفوشيوسية، ونستطيع أن نحدد مستوى أوسع من الهوية الدينية وهو مستوى الهوية الإنسانية الكونية في مقابل الآخر غير الإنساني (الحيواني مثلاً)، وهذا المستوى قد يكون هو المستوى الأوسع للهوية الجماعية البشرية التي تشمل كل البشرية مهما كان بينها من اختلافات وتمايزات بحكم الهويات الفردية أو الجماعية (محلية كانت أو قومية أو ثقافية ودينية)التي يجمعها كونها إنسانية وهذا المستوى هو المعتمد في المواثيق والمبادئ العالمية لحقوق الإنسان*، وهو أساس فكرة المساواة بين البشر أو الأفكار والفلسفات والنزعات الإنسانوية (Humanism).
وبقدر تعلق الامر بمفهوم الجماعة فهناك من يحددها بأنها وحدة جمعية حقيقية قابلة للملاحظة بشكل مباشر، وتقوم على أساس مواقف جمعية مستمرة ونشطة وتسعى إلى تحقيق هدف مشترك، وهي وحدة من المواقف والمهمات والسلوك، وفأنها تشكل إطاراً اجتماعياً بنيوياً يتجه نحو تحقيق تماسك نسبي لمظاهر الحياة الاجتماعية، وبهذا يمكننا أن نتحدث عن نظام ثقافي للجماعة وذهنية جماعية([3]). ويعرف (انتوني غدنز) (الجماعة الاجتماعية Social group) بأنها "مجموعات من الأفراد الذين يتفاعلون بأساليب منظمة بعضهم مع البعض، وقد تتفاوت الجماعات من حيث الحجم، فتتراوح بين روابط بالغة الصغر وتنظيمات كبيرة، ومهما كان حجمها، فإن الملمح المحدد للجماعة هو وعي أعضائها بوجود هوية مشتركة بينهم"([4]). ولكنه يعرف (المجتمع Society) بأنه "مجموعة من الناس يعيشون في حيز معين، ويخضعون لنظام معين واحد من السلطة السياسية، وهم على وعي بأن لهم هوية تميزهم عن الآخرين"([5]). وهذا التمييز بين الجماعة وبين المجتمع يقوم على وجود سلطة سياسية وإطار من النظام في المجتمع وانعدام وجودها في الجماعة. ويشير (شاكر مصطفى سليم) إلى أن المجتمع عبارة عن مجموعة من الأشخاص تعيش وتعمل سوية لفترة من الزمن تكفي لخلق تنظيم خاص بها، ولأن تعتبر نفسها وحدة اجتماعية مميزة، والأسس التي يقوم عليها المجتمع هي: وجود مجموعة من الأفراد، وتعايشهم مع بعض في إقليم محدد كوحدة ذات كيان ووجود ثقافة خاصة بهم واستمرارها زمنياً فترة طويلة كمجموعة، ووعيهم وإحساسهم بشعور جمعي وملكيتهم لروح الجماعة([6]). أما الجماعة المحلية أو الجماعة الاجتماعية (Social group) (Community)، فلا يوجد اتفاق بين علماء الانثروبولوجيا حول هذا المصطلح، ولكن التمييز بين الجماعة Community أو الجماعة الاجتماعية (Social group) وبين المجتمع Society. سيقوم على أن الجماعة أو الجماعات المحلية هي جزء من المجتمع، الذي يتكون عادة من عدد كبير من الجماعات([7]).
وبتطبيق هذا التصنيف على مستويات الهوية، فستكون الهوية الجماعية (جماعة محلية أو غيرها)([8]) مستوى متوسطاً بين الهوية الفردية والهوية المجتمعية (جماعية واسعة). ويحدد (اليكسي ميكشيللي) ثلاثة مستويات للهوية ولكن بصورة مختلفة عن (محمد عابد الجابري) وهي (الثقافية، الجماعية، الفردية) ومن ضمن الثقافية يمكن أيضاً أن نضيف الهوية الجماعية مافوق القومية والوطنية([9]). وهناك من يصنف الهوية إلى ثلاثة مستويات ايضاً ولكن بأسلوب آخر (الفردي، الجمعي، المؤسساتي):
1)  المستوى الفردي: هو شعور الفرد بالإنتماء إلى الجماعة في إطار إنساني أكبر يشاركه في منظومة من القيم والمشاعر والاتجاهات، والهوية بهذا المعنى حقيقة فردية نفسية ترتبط بالثقافة السائدة وعملية التنشئة الاجتماعية، وبرز هذا المستوى بصورة أوضح مع بروز النزعة الفردانية([10]).
2)  المستوى الجمعي: وهو تمثل أو تجسد الهوية في شكل تنظيمات وأحزاب وهيئات شعبية ذات طابع تطوعي واختياري هذا الى جانب الهوية القومية التي تتصدر ككل هوية قومية من منابع كيان الإنسان من حيث هو فرد في جماعة يشاركها لغتها وتقاليدها وآمالها وآلامها، وهناك ايضاً الهوية الدينية والهوية الأممية في هذا المستوى([11]).
3)  المستوى المؤسساتي والقانوني: أو مايسمى (مأسسة الهوية)، أي خضوعها لمؤسسة، سواء كانت صغيرة أو متوسطة أو كبيرة، مثلاً (نادي رياضي، حزب سياسي أو دولة معينة، أو مؤسسات دولية متعددة الجنسيات)([12]).
ويبدو أن المستوى الأول (الفردي) والمستوى الثاني (الجمعوي) أو (الجماعي) أكثر قرباً للواقع، ولكن يجب أن لا ننسى أن المستوى الثاني الجمعوي بذاته يمكن تصنيفه إلى مستويات مختلفة ومتعددة، وهي المستوى الجماعي الصغير الحجم أو الثانوي والمحلي، والجماعي المتوسط، والجماعي الواسع والكبير الحجم. وتكون أهم نقطة في تحديد أي مستوى من مستويات الهوية هو نوع آخر، لأن هذه المستويات تتواجد وتتزامن معاً لدى كل فرد (الإنسان) أو مجموعة بشرية ولكن ما يدعو إلى إبراز أي مستوى هو نوع الآخر وموقعه وتوقعاته وطموحاته، فإن كان هذا الآخر داخلياً في دائرة الجماعة، فإن الهوية الفردية هي التي تفرض نفسها كـ(أنا)، وإن كان يقع في دائرة الأمة (أو الجماعة الواسعة) فإن الهوية الجمعوية (الجماعية المحلية أو الثانوية) مثل (الحزبي، المناطقي، الطائفي أو القبلي والعشائري) هي التي تحل محل (الأنا) الفردي، أما إن كان الآخر خارجياً، أي يقع خارج الأمة والدولة والوطن، فإن الهوية الوطنية أو القومية هي التي تملأ مجال (الأنا)([13])، وهكذا بالنسبة للمستويات الدينية أو الثقافية للهوية.

2- عناصر الهوية
بناءً على التحديد السابق  لمفهوم الهوية يمكن القول ان تحديد هوية جماعية أو فردية معينة يقتضي العودة إلى جملة من العناصر يحددها (اليكس ميكشيللي) ويصنفها ضمن المجموعات التالية([14]):
أولاً- عناصر مادية وفيزيائية، تشتمل على:-
1)    الحيازات: الأمم، الآلات، الموضوعات، الأسواق، السكن، أو الممتلكات...الخ.
2)    القدرات: القوة الاقتصادية والمادية والعقلية (المعرفية).
3)    التنظيمات المادية: التنظيم الإقليمي، نظام السكن، نظام الاتصالات الإنسانية.
4)    الانتماءات: الفيزيائية، الانتماء الاجتماعي، والتنوعات الاجتماعية والسمات المورفولوجية (الشكلية) المميزة.

ثانياً- عناصر تاريخية، وتتضمن:
1)    الأصول التاريخية: الأسلاف، الولادة، الأمم، الاتحاد والقرابة، الخرافات الخاصة بالتكوين، الأبطال الأوائل.
2)    الأحداث التاريخية المهمة: المراحل المهمة في التطور، التحولات الأساسية، الآثار الفارقة.
3)    الآثار التاريخية: العقائد والتقاليد، القوانين والمعايير التي وجدت في المراحل الماضية ولها آثارها.

ثالثاً- عناصر ثقافية نفسية، وتشتمل على:
1)  النظام الثقافي: المنطلقات الثقافية، العقائد، الأديان والرموز الثقافية، الايديولوجيات، ونظام القيم الثقافية، ثم أشكال التعبير المختلفة، فن وأدب بكل أنواعه.
2)    العناصر العقلية: النظرة إلى العالم، نقاط التقاطع الثقافية، الاتجاهات المغلقة، المعايير الجمعية، العادات الاجتماعية.
3)    النظام المعرفي: السمات النفسية الخاصة، اتجاهات نظام القيم.

رابعاً- عناصر نفسية اجتماعية، وتتضمن:
1)    الأسس الاجتماعية، المركز، العمر، الجنس، المهنة، السلطة، الواجبات والأدوار الاجتماعية، الانتماءات الاجتماعية.
2)    القيم الاجتماعية، الكفاءة النوعية والتغيرات المختلفة.
3)    القدرات الخاصة بالمستقبل، القدرة، الإمكانية، الاستراتيجية، التكيف، ونمط السلوك.
وعندما يريد فرد أو جماعة ما أن يعرف أنفسهم أو الجماعة التي ينتمون إليها أو أن يعرفوا شخصاً آخر أو جماعة ما، يجب أن يختاروا بعض السمات والعناصر الموجودة في الفئات السابقة وأخذها بعين الاعتبار، ملاحظين في ذلك كلاً من السمات الأساسية المتجانسة من جهة، والسمات الخاصة التي يمكنها التأكيد على خاصية التمايز من جهة أخرى أي على مستويين التماثل والتشابه من جهة والتمايز والاختلاف من جهة أخرى ويكون العامل الأساس في هذا الاختيار والانتقاء للعناصر والسمات المحددة لهوية ما، هو نوع الآخر الذي تواجهه مما يعني أن الآخر يلعب الدور المحوري في هذا الأمر من خلال المقارنة، ولكن هذا بذاته يعتمد على تصور المصالح الذاتية وفق معتقدات أو أيديولوجيات أو تصورات واقعية سائدة، وهناك من يقول حول دور الآخر في تحديد الذات "لعل السؤال الأكثر حضوراً هو كيف يمكن التعرف على الهوية؟ مع الذات أم مع الآخر: والإجابة تندرج في موضوعة منطقية قوامها أن المطابقة لا تؤدي إلا إلى توسيع حقل الاختلافات، في حين أن شرط الاستمرار في الزمن لابد أن يؤدي إلى التفكير بالجوهرية الذاتية من خلال الانفتاح على الآخر، وهكذا يمكن أن نخلص إلى نتيجة مفادها؛ عدم وجود هوية مع الذات لانعدام عامل المقارنة والتمييز"([15]). ويتساءل (محمد عابد الجابري) بصدد دور (الآخر) في تحديد هوية (الأنا أو النحن) قائلاً "وهل الهوية شيء آخر غير رد فعل ضد الآخر، ونزوع حالم لتأكيد (الأنا) بصورة أقوى وأرحب"([16]). وبذلك يكون الآخر ضروريا لوجودي، لأن (الأنا) لا يتحدد إلا عبر الآخر، وفي بحثه عن آلية أو طريقة الاختيار بين العروبة أو الإسلام كهوية جماعية للعرب، يقول (الجابري)، فلم يكن الاختيار المطروح أن نختار العروبة أو أن نختار الإسلام، بل كان أي (الآخر) يجب أن نقاوم أولاً، وبالتالي أي من السلاحين يجب أن نحرك في البداية، سلاح العروبة، أم سلاح الإسلام؟ والآخر أيضاً كان ثنائياً، (الآخر- التركي) والآخر الأوربي)([17])، وبذلك فإن نوعان من الآخر أديا إلى إبراز عنصرين أو جانبين أساسيين من سمات وخصائص وعناصر الهوية الجماعية للعرب، القومي الإثني بوجه الأتراك، والديني والثقافي بوجه الغرب المسيحي. وهكذا تدخل الآخر في إبراز نوع أو وجه أو عنصر معين من الهوية الذاتية، ولهذا (الآخر) دور مهم أيضاً في الفكر الغربي، ولكن حسب (محمد عابد الجابري)، فإن الآخر في الفكر الغربي هو (عدو) أو (خصم) للمنافسة والصراع وحتى النزاع، ولكن في الفكر الإسلامي (الآخر) هو الآخر المغاير المختلف وليس عدواً([18])، ولكن الواقع التاريخي يشير الى ان الفكر الأسلامي لم يتعامل مع الآخر بهذا الشكل المثالي وانما صنف الاخر الى ( المشركين والوثنيين، وألخ...) وهذا متجسدة في مفاهيم دار الحرب و دار السلم .  
        وهناك من يعتقد بأن صورة الآخر ليست هي الآخر بذاته، لأن الصورة هي بناء في الخيال وفي الخطاب، الصورة ليست الواقع حتى وإن كان الصراع حولها من رهانات الواقع، ولأنها كذلك فإنها اختراع([19]). ويقول (منذر الكيلاني)، أن نرفض واقع أن الآخر حاضر في ذاتنا، وأن الهوية تنبني على تفاعل الاثنين (الذات والآخر) يؤدي بنا إلى تقييم البعد الابستمولوجي (المعرفي) الذي تقوم عليه مقاربة العلوم الاجتماعية، وتتمثل هذه المقاربة في الأخذ بالمرجعية الكونية والبحث كيف أن نحقق داخلها تمفصل العلاقة التراتبية بين الذات والآخر([20]). وهناك من يعتقد أن اختراع الآخر، اختراع متأخر نسبياً لارتباطه باكتشاف الوعي بالذات، وهذا يتجلى في انشطار (شرق/غرب) الذي تقرر فقط في نهاية القرن الخامس عشر ثم تمّ اسقاطه على العصر القديم الذي لم يعش هذا الانشطار بما هو كذلك، إذاً ميلاد الشرق كـ(الآخر) للغرب اختراع غربي نبع (نتج) من المراحل البطيئة التي مرّ بها ميلاد الغرب ومرّ به وعيه بذاته([21]). ويقول (صموئيل هنتنغتون) بأن تعرف الهويات تعرف بذات المرء، لكنها إنتاج تفاعل بين الذات والآخرين، حيث تؤثر طريقة فهم الآخرين لفرد أو لمجموعة على تعريف ذات الفرد أو المجموعة لذاتهما. ولذلك يحتاج الناس لتعريف أنفسهم إلى (الآخر) ويتساءل (هنتنغتون) فهل يحتاجون إلى عدوٍ أيضاً؟ ويضيف بأن بعض الشعوب تحتاج إلى ذلك بوضوح. وقدم باحثون آخرون في علم النفس والعلاقات الإنسانية براهين مشابهة([22])، إذ قال (فاميك فولكان)، هناك حاجة ليكون لديك أعداء وحلفاء، ويظهر هذا الميل في منتصف المراهقة عندما تأتي المجموعة الأخرى لينظر إليها كعدو بالتأكيد، والنفس هي خالق تصور العدو، طالما أُبقيت مجموعة العدو بعيدة بعض الشيء، فإنها تعطينا العون والراحة، وتعزز التحامنا وتجعلنا نتصالح مع أنفسنا، يحتاج الأفراد إلى احترام الذات والاعتراف والاستحسان، والتنازع مع العدو يعزز تلك الخصال في المجموعة([23]).
        ان عناصر وسمات الهوية، تعتبر نسق المعايير الذي يعول عليه في تحديد هوية ما، وهي يعمل كنظام متكامل، تتداخل عناصره جميعاً من أجل تحديد دلالة كل عنصر من عناصره الخاصة، وتتحدد الهوية الجماعية في إطار تنظيم متكامل، وتمثل وحدة كلية تشتمل على عناصر متقاربة ومتكاملة لتشكل عبر ذلك كله حقيقة اجتماعية، تنطوي على العناصر التالية حسب رأي (اليكس ميكشيللي):- ([24])
1) البنية الحيوية    2) التاريخ    3) الديموغرافيا (التركيبة السكانية)
4) النشاطات والفعاليات الإنسانية  5) التنظيم الاجتماعي   6) الذهنية
        ويقول (ميكشيللي) حول دور الذهنية كعنصر محدد للهوية الفردية أو الجماعية؛ يمكن ارجاع السمات الأساسية الخاصة بتعريف الذهنية إلى نسق المعلومات الأخرى، ويشتمل على تحليل لمحتوى كل أشكال التعبير الجمعي الذي يسمح بتعريف العناصر البنائية العقلية، وهناك دراسات تسمح بتفسير الرموز ومعايير السلوك، كما تسمح بمعرفة النماذج المضادة والتصورات الجمعية، وأنظمة الآراء والعقائد، والاتجاهات نحو المسائل المعقدة المعنية بالتعريف، ويشتمل هذا على تقويم ذاتي للقدرات، وتشكل كل هذه العناصر جزءً من صورة الذات، وانطلاقاً من هذه المعايير والعناصر المختلفة يمكن تحديد الاتجاه العام للذهنية الجمعية، وهي العناصر التي تنظم إلى حد كبير بين مجموعة من النشاطات الأخرى وتمنحها دلالتها ومعناها، وذلك في حدود علاقتها بالوسط الذي توجد فيه، وانطلاقاً من ذلك كله، تشكل أسس الهوية أنظمة إدراكية وتقويمية وتنعكس كصدى للحياة والسلوكيات الجمعية وتتجسد هذه الأنظمة في بنى سيكولوجية ثقافية([25]).  ويغطي مفهوم الذهنية  وعلى نحو شمولي مفهوم الثقافة المستبطنة، الذهنية هي الخبرة المكتسبة التي يشترك فيها جميع أعضاء الجماعة، وحال هذه الخبرة كحال الثقافة المستبطنة، تأخذ وضعية مرجعية مستمرة ولاشعورية من أجل إدراك الأشياء وتحديد الأحداث وتوجيه السلوك وتشير الذهنية باللغة الدارجة إلى حالة نفسية داخلية، والى طريقة للنظر إلى الأشياء تنطلق من مبادئ أساسية، وهي طريقة في النظر إلى الأشياء ترتبط عفوياً مع آداب سلوكية قابلة للملاحظة، فالذهنية تنطوي في ذاتها على رؤية خاصة للعالم وعلى طريقة للتعامل مع الأشياء أو على مواقف خاصة بعناصر الوسط الذي يحيط بالإنسان ونقصد بالعناصر الأساسية للهوية. التي تنطلق منها الرؤية الخاصة بالوجود؛ المنطلقات الأساسية للهوية وتشكل هذه العناصر الهامة التي تأخذ فيه الجماعة موقعها للعناصر العقدية والغالب الأساس الذي تتشكل فيه هوية الجماعة وأسسها، إذن يتدخل النظام المرجعي للذهنية على نحو دائم كشبكة لتحليل رمزية العالم، وكنظام المعلومات يؤدي دوراً تفسيرياً، وتعرف هذه الوظيفة من خلال دراسة أيديولوجيات الجماعة، وذلك لأن الأيديولوجيات تقدم تفسيراً دائماً للأحداث وذلك في إطار نظامها الخاص. ومهما تكن صورة الذهنية كنظام منطقي، أو نظام مرجعي، أو نظام للتصورات أو مصدر لتفسير العالم أو ينبوع للتعبيرات الخاصة بالجماعة فإنها في نهاية الأمر تشكل نواة الهوية الجماعية([26]).
        ويحدد (هنتنغتون) مجموعة من المصادر المحتملة للهوية، ويعتبرها أساساً ومنطلقاً لتصنيف الهوية وهي([27]):-
1)    السمات الشخصية: العمر، السلالة، الجنسوية، القرابة (قرابة الدم)، الإثنية (القرابة البعيدة)، العرق.
2)    السمات الإقليمية: مثل الجوار والقرية، البلدة، المدينة، المنطقة.
3)    السمات الثقافية: الإثنية كطريقة للحياة، اللغة، الدين.
4)    السمات السياسية: الحركة، الحزب، الأيديولوجية، الدولة.
5)    السمات الاقتصادية: مجموعة العمل، المستثمر، الصناعة، الطبعة، العمل، القطاع الاقتصادي.
6)    السمات الاجتماعية: المكانة والأدوار الاجتماعية والنادي والصداقات الاجتماعية.
ويعتقد هنتنغتون بأن من المحتمل أن يكون أي فرد مرتبطاً بكثيرٍ من هذه المجموعات، ولكن ذلك لا يعني أنها مصادر الهوية النهائية، فقد يجد الشخص مثلاً عمله، أو بلده مقيتاً ويرفضه برمته، بالإضافة إلى ذلك فالعلاقات بين الهويات ذاتها معقدة، وتوجد العلامة المميزة عندما تكون الهويات منسجمة في المطلق، لكن أحياناً قد تفرض هوية ما كهوية الأسرة وهوية العمل، متطلبات متنازعة على الفرد، أما الهويات الأخرى كالهوية الإقليمية أو الثقافية فهي ذات مراتب تسلسلية([28]).
وفي ضوء ما سبق، نستنتج بأن مستويات الهوية  وعناصرها، متداخلة ومتشابكة ولا يمكن أن يوجد أحدها بدون الآخر، إذ يتواجد ويتزامن أكثر من مستوى ونوع للهوية في حالة واحدة، ولا يمكن أيضا أن تحدد عناصر مستقلة لكل مستوى على حدة، إذ تكون مجموعات العناصر مترابطة ومتشابكة مع بعضها البعض، فعلى سبيل المثال؛ عندما أنا كفرد أواجه الآخر كفرد، ولكن من مجموعة بشرية أو من شعب آخر مختلف عني على المستويات الفردية والجماعية والثقافية والدينية والقومية، تصبح كل مستويات الهوية في هذه الحالة ومعها عناصرها ومكوناتها ومصادرها المتعددة حاضرة لتحديد هويتي (الأنا) مقابل الآخر (أنا ككردي وكطالب وكمسلم عندما أواجه الآخر الفرنسي المسيحي المهندس الغربي) على سبيل المثال تتداخل في الحالة السابقة المستويات المختلفة للهوية وتتجمع لتشكل هويتي بعناصرها المتنوعة والمتعددة.

([1])محمد عابد الجابري، العولمة والهوية الثقافية (عشر أطروحات)،في أسامة أمين الخولي،(محرر)  ندوة (العرب والعولمة)، مركز دراسات الوحدة العربيةط3،بيروت-لبنان،2000، ص297-298.
([2]) المصدر السابق، ص299.
* مهما كان الأمر في الواقع، نحن نقصد هنا على المستوى المبدئي على الاقل.
([3]) للتفصيل ينظر: اليكس ميكشيللي، الهوية، م.س.ذ، ص38.
([4]) انتوني غدنز، علم الاجتماع، م.س.ذ، ص747.
([5]) المصدر السابق، ص761.
([6]) شاكر مصطفى سليم، قاموس الانثروبولوجيا (انكليزي-عربي)، ط1، جامعة الكويت، 1981، ص ص898، 903.
([7]) للتفصيل ينظر: جوردن مارشال، موسوعة علم الاجتماع، مجلد 1، ترجمة: محمود الجوهري وآخرون، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، ليبيا، 2000، ص550.
([8]) جماعة صغيرة ولكن تتكون من عناصر داخلية وخارجية لأية مجتمع (أمة)، أي بين الأمم ولكن ليس فوقها.
([9]) اليكس ميكشيللي، الهوية، م.س.ذ، ص ص27، 53.
([10]) ينظر: ناظم عبد الواحد جاسور، موسوعة علم السياسة، م.س.ذ، ص384.
([11]) علاء عبد الرزاق مطلك، أزمة الهوية في الفكر العربي المعاصر بين الأصالة والمعاصرة، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، 2000، ص ص24، 29.
([12]) المصدر السابق، ص29.
([13]) محمد عابد الجابري، العرب والعولمة والهوية الثقافية، م.س.ذ، ص299.
([14]) اليكس ميكشيلي ، الهوية ، م . س . ذ المصدر السابق، ص ص18، 22.
([15]) اسماعيل نوري الربيعي، التاريخ والهوية: إشكالية الوعي بالخطاب التاريخي المعاصر، م.س.ذ، ص53.
([16]) محمد عابد الجابري، مسألة الهوية (العروبة والإسلام- والغرب)، م.س.ذ، ص7.
([17]) المصدر السابق، ص ص36- 47.
([18]) للتفصيل ينظر: المصدر السابق، ص184 ومابعدها.
([19]) مجموعة باحثين، مقدمة كتاب: صورة الآخر (العرب ناظراً ومنظوراً إليه)، تحرير: الطاهر لبيب، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999، ص21.
([20]) منذر الكيلاني، الاستشراق والاستغراب (اختراع الآخر في الخطاب الانثروبولوجي)، في: مجموعة باحثين، صورة الآخر (العرب ناظراً ومنظوراً إليه)، م.س.ذ، ص82.
([21]) أسماء العريف بياتريكس، الآخر أو الجانب الملعون، المصدر السابق، ص93.
([22]) صموئيل ب. هنتنغتون، من نحن؟، م.س.ذ، ص39-40.
([23]) نقلاً عن: المصدر السابق، ص41.
([24]) اليكس ميكشيللي، الهوية، م.س.ذ، ص ص22- 26.
([25]) المصدر السابق، ص26.
([26]) المصدر السابق، ص ص38-41.
([27]) صموئيل هنتنغتون، من نحن؟، م.س.ذ، ص43.
([28]) المصدر السابق، ص43.

Previous Post Next Post