الحتميات العلمية قوانين الطبيعة
 الحتمية فرضية فلسفية تقول ان كل حدث في الكون بما في ذلك إدراك الإنسان وتصرفاته خاضعة لتسلسل منطقي سببي محدد سلفا ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث التي يؤدي بعضها إلى بعض وفق قوانين محددة، يؤمن البعض بأنها قوانين الطبيعة
العلم البشرى كله احتمالات لا يقين فيه مهما أوتى من دقة التجربة ودقة الآلات!
وما ميدان العلم؟
لقد اضطر العلم منذ أجيال أن يترك البحث فى((كنه)) الأشياء0 لأنه((علم)) ألا سبيل له إلى معرفة هذا الكنه المغيب عن الحواس! واكتفى بدراسة((ظواهرها))00 وهذه الدراسة فى الظواهر هى التى يقول عنها ذلك((العالم)) إنها ليست يقينية0 وإنها تبدأ بالاحتمالات وتنتهى بالاحتمالات!
فما هذا العلم من((مجموع)) العلم الحقيقى؟! وأين مكانه فى النفخة الكاذبة التى أصابت الإنسان؟!
ثم00 ما هذا العلم بالنسبة لما((يشتهى)) الإنسان ذاته أن يعلم؟! 
أين منه علم الغيب؟ الذى تطلعت البشرية منذ مولدها إلى استشفافه، ولا يزال موقفها منه اللحظة كموقفها منه منذ ألوف وألوف من السنين؟
 كم يعلم الإنسان من الغيب؟ لا الغيب البعيد فى المكان الزمان00 بل غيب اللحظة القريبة الفادمة00 بل غيب هذه اللحظة الداخلة عليه من كل باب، وبينه وبينها ألف ستر وألف حجاب؟!
ذلك مبلغهم من العلم000!

أما القوة00 فقد زادت قوة الإنسان حقا حتى سيطر على((البيئة)) وعلى((قوى الطبيعة))0 وفجر الذرة وأطلق الصاروخ00 واندفع يحاول الوصول إلى الكواكب فى يوم قريب أو بعيد00
ولكن00
أين ذلك مما((يشتهى))الإنسان من القوة؟
أين هو من الرغبة فى دفع الموت، والقدرة على الحياة الأبدية؟ تلك الرغبة التى استزل بها الشيطان آدم00 ولا يزال بنوه يتشهونها إلى يوم الدين!
((وفال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين))00 ((فدلاهما بغرور000))([1]) 0
بل أين هو من دفع المرض00 وجرثومة لا ترى حتى بالمجهر تسبب له أفتك الأمراض التى لا يجد علاجها حتى اليوم؟!
لقد كان الجهل والعجز هما السبب فى عبادة الله00 كذلك يقول جوليان هكسلى فى الجاهلية التى ترين على قلبه فى القرن العشرين0
فليكن كذلك00 فما الذى حدث- فى باب العلم والقوة، أو فى باب الجهل والعجز- يبرر خروج الإنسان عن عبادة الله!!
ثم نعود إلى تلك الجاهلية المقلوبة الأوضاع00 أفإن وهب الله البشر القدرة على التعلم والقدرة على تسخير بعض قوى الكون، يكون رد البشر على ذلك هو التبجح والغرور والخروج عن طاعة الله؟
إنها اللعنة التى صبتها فى الفكر الأوروبى أسطورة بروميثيوس سارق النار0
ونعود إلى ذلك((الإنسان)) حين تبجح وقال: أنا أستغنى عن الله!
ماذا صنع فى حياته من آثام؟!
قال: أنا أشرع لنفسى0 لقد شب الإنسان عن الطوق!
وقال: أنا أصنع بنفسى عقائدى وتقاليدى0
وقال: أنا أصوغ بنفسى الحاضر والمستقبل بعيداً عن وصايا الله0
وكان00!
وتلقفه الشيطان!
وإلا00 فماذا يكون هذا الصنيع إن لم يكن صنيع الشيطان؟ ماذا يكون هذا الشر الضارب أطنابه فى كل الأرض؟ ماذا يكون الظلم المستشرى فى كل مكان؟ ماذا تكون العبودية المستذلة فى الشرق وفى الغرب؟ عبودية لرأس المال مرة0 وللدولة مرة0 وللفرد المقدس مرة0 وللشهوات المدمرة مرة00 وفى كل مرة هى عبودية ومذلة وهوان؟
وماذا يكون الفجور المستشرى فى كل مكان؟ الذى حول وجه الأرض إلى ماخور يفغر فاه لكل فتى وفتاة؟
وماذا يكون الجنون الحقيقى الذى يملاء المستشفيات بمرضاه فى الأمم((المتمدينة)) فتضيق بنزلائها، والجنون الآخر الذى لا يحسب((رسميا)) فى عداد الجنون، ولكنه مرض وشذوذ واختلال لا يقل فى حقيقته عن الجنون: جنون((المودات))، وجنون السينما، وجنون التلفزيون، وجنون ((التقاليع))00 وما أشبه ذلك من انحرافات لا تنبغى لهذا((الإله)) الذى يستكبر عن عبادة الله!
كلا! ما أبأس هذا الإنسان حين زعم لنفسه أنه إله، وأنه شب عن الطوق واستغنى عن وصايا الله!
* * *
وأخيراً تلك الآلهة المزعومة التى ولدها ((الفكر اليهودى)) فى أواخر القرن التاسع عشر وتسممت بها أفكار ((الأميين) منذ ذلك الحين .. آلهة ((الحتميات)) الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية، التى يحويها جميعها التفسير المادى للتاريخ


ابرز العلماء المؤيدين لأسلوب الحتمية
ابرز العلماء المؤيدين لكل منهج واسلوب
ما هي المدرسة الحتمية في الجغرافيا
الحتمية واللاحتمية في الفلسفة
الحتمية واللاحتمية في العلوم التجريبية
المدرسة الحتمية والامكانية
نظرية الحتمية البيئية
الحتمية التاريخية


0
ما هذه الحتميات المدعاة؟
يقول التفسير المادى للتاريخ أولاً : إن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام! وتلك هى الحتمية الاقتصادية الأولى فى التاريخ 00
وفى أثناء البحث عن الطعام احتاج إلى اختراع الأدوات 00 وهذه الأدوات هى التى نقلت حياته من طور إلى طور عبر التاريخ00
ففى المبدأ كانت الشيوعية الأولى، حيث لا ملكية فردية لأحد 00 ثم اكتشفت الزراعة، فنشأت الملكية : ملكية الأرض وملكية أدوات الإنتاج. ونشأ الرق من إغارة قوة على قوم آخرين ليأخذوا منهم أرضهم، ثم استرقاقهم وتشغيلهم فى الأرض. ونشأ الإقطاع . كنتيجة حتمية. ثم اخترعت الآلة. فنشأ الرأسمالية . كنتيجة حتمية. وانهار الاقطاع . كنتيجة حتمية . ثم قام الصراع بين رأس المال والعمال. كنتيجة حتمية. واشتد الصراع على ملكية الآلة وملكية الإنتاج. كنتيجة حتمية. ثم كانت – وفى طريقها أن تكون – الشيوعية الثانية – والأخيرة – حيث لا ملكية فردية لأحد 00
ذلك ملخص التاريخ البشرى الذى ترسمه الحتميات00
ولا يمكن أن تتصور الأمر على هذا النحو إلا الجاهليات!
هذا التفسير الذى أغفل ((الله) وتدبيره للكون والحياة والإنسان.. ما الذى وصل إليه؟
وصل إلى تفسير مبتسر لا يمكن أن يتقبله فى ضميره إنسان ((متنور)) عاقل يهتدى حتى بالعلم ((الجاهلى)) الذى يتعبده الجاهليون00
        فعلى فرض أن ذلك التفسير كله صحيح فى رسم أطوار البشرية [وهو– كما سنرى بعد لحظة – غير صحيح] فكيف يكون – كما قال ماركس – مستقلا عن إرادة الإنسان وعن كيان الإنسان؟
        أليس ((الإنسان)) هو الذى امتلك الأرض وأدوات الإنتاج بعد إذ لم يكن يملك من قبل؟ هل الأرض هى التى فرضت عليه ملك نفسها؟! هى التى أمسكته من خناقه وهزته وقالت له : لابد أن تملكنى؟! أم ((هو)) الذى امتكلها؟ برغبته فى الامتلاك؟
        ومن الذى اخترع الآلة؟ أليس هو ((الإنسان))؟
        ولماذا اخترعها؟ بإرادته؟ أم فرضت هى نفسها عليه فرضاً وأمسكته من خناقه وهزته، وقالت له: اخترعنى؟!
        أو ليست رغبته ((هو)) فى تحسين إنتاجه – الرغبة الفطرية الكامنة فيه – هى التى جعلته يتعلم ويبحث وينقب حتى اخترع الآلة؟!
        فعلى فرض أن هذه الآلة التى تكتب تاريخ البشرية .. أليس فيها ((إرادة الإنسان))؟ فكيف تكون الأطوار إذن خارجة عن إرادة الإنسان ومستقلة عنها؟
        ثم 00 حين توجد الرأسمالية 00 أليست تستند إلى رغبة ((الإنسان)) فى أن يملك ويستزيد مما يملك. واستعداده الفطرى لأن يطغى حين ينحرف عن السبيل؟
        ثم 00 حين تقوم الشيوعية – إن قامت – أليس لظن ((الإنسان)) أن هذا هو الحق والعدل 0 الذى سخر منه فردريك إنجلز ، وقال إنه لا يصرف أمراً من أمور الأرض؟!
        هذه واحدة 00 الواحدة القريبة إلى النظر فى الحكم على هذه الحتميات00
        والأخرى 00 وهى أقرب منها فى الحقيقة لمن يتدبر الأمر: هذه  ((الحتميات)) على فرض صحتها00 حتميات من ؟!
        من الذى فرض هذه الحتميات على خط سير البشرية؟
        أهى الصورة الوحيدة الممكنة للحياة؟
        أو لم يكن من الممكن أن يظل الإنسان فى طور الشيوعية الأولى أبداً؟
        أو لم يكن من الممكن أن يظل فى الرق أبداً؟ وفى الإقطاع أبداً؟ وفى الرأسمالية أبداً؟
        اختراع الآلة ينقل خطو الإنسان خلال التاريخ 00
        نعم! مؤقتاً! 00 فهل اختراع الآلة ((حتم)) على البشرية؟ ومن الذى حتمه؟
        وما هذه العماية عن ذكر ((الله))؟!
        أو ليس الله طرفاً فى هذا الأمر على الأقل! سبحانه وتعالى عما يصفون؟!!
        أو ليس هو الذى خلق الإنسان ووهب له القدرة على اختراع الآلات؟!
        وهل كان حتماً أن توهب للإنسان هذه القدرة؟ حتم من؟ من الذى حتمه؟
        بل هل كان حتماً وجود الإنسان ذاته على الأرض؟
        بل هل كان حتماً وجود الأرض فى الكون؟
        بل هل كان حتماً وجود الكون ذاته؟ حتم من ؟ من الذى حتمه؟
        ما هذه العماية عن ذكر الله؟!
        أو ليس الأولى أن يفتح الإنسان بصيرته على الحق؟!
        أو ليس الله هو الذى خلق الكون؟ ولم يكن مضطراً أن يخلقه.. سبحانه.
        أو ليس هو الذى خلق الأرض.. وخلق الإنسان .. وكان من الممكن ألا يخلقهما، أو يخلق الظروف الملائمة للحياة وظهور الإنسان؟
        ثم 00 إذا كان هذا قدر الله . الذى خلق.. فكيف نقف فى مرحلة معينة ونقول لهذا القدر: لا ! لست أنت! وإنما هى الحتمية التاريخية أو الحتمية الاقتصادية أو الحتمية الاجتماعية أو غيرها من الآلهة المدعاة؟!
* * *
        وفوق ذلك فإن هذه الآلة المدعاة، التى ولدها الفكر الأوروبى فى ((ذروة)) جاهليته، آلهة جاسية صارمة قاسية، لا تدع مجالاً لإرادة الإنسان، ولا تستجيب له فى ليل أو نهار00
        إنها – فى ((حتميتها)) الحمقاء – لا تبالى هذا الإنسان .. مشاعره أو أفكاره أو أعماله.. لا تقيم له وزناً إن فسد أو استقام.. إن هبط أو ارتفع.. إن جاهد أو استخذى .. إن آمن أو لم يؤمن .. إنها تعامله على أنه كم مهمل، كل مهمته أن يسير صاغراً فى ((حتميتها)) القاهرة .. أو تعامله على أنه بهيمة سادرة فى الأرض.. تساق. ولا تعرف الطريق. ولا يساوى شيئاً أن تعرف الطريق!
        إنه إهدار شنيع لكرامة الإنسان وكيانه.. وأى إهدار أكبر من إضاعة ((القيمة)) المترتبة على شعوره وفكره وأعماله؟ ((القيمة)) التى هى حقيقة ((الإنسان))؟!
        وتلك هى ((العزة)) التى أرادها الإنسان لنفسه بعيداً عن وصاية الله! أن أصبح عبداً لمن لا يرحم ولا يصيخ لصراخ الإنسان!
        ألا ما أبأسه هذا الإنسان.. فى جاهلية القرن العشرين!
* * *
        ولم يقف ((الإنسان)) فى جاهليته عند هذا الحد، وما كان من الممكن أن يقف. فهذا الانحراف فى تصور الحقيقة الإلهية لابد أن يتبعه حتماً ضلال فى كل تصورات الإنسان وسلوكه.. ما دام المتجه منذ أول لحظة لا يقوم على أساس سليم00
        لقد انحرف الناس فى الجاهلية الأوروبية الحديثة فى تصورهم للكون، وعلاقته بخالقه، وعلاقته بالإنسان 00
        ضلوا ضلالات شتى 00
        فمرة يؤمنون ((بحتمية)) قوانين الطبيعة لينكروا قدرة الله على  المعجزات!
        ومرة يقولون: إن الوجود كله نشأ نشوءاً ذاتياً! بما فى ذلك الحياة! لينكروا وجود إله هو الذى خلق الكون والحياة!
        ومرة يقولون: إن الظروف كلها كانت معاكسة لنشأة الحياة، وإنها نشأت فى هذا الكون ((مصادفة))! ثم أدت هذه المصادفة فى النهاية إلى ظهور الإنسان!
        ضلالات من كل نوع.. تلقى ظلالها على مشاعر الإنسان وسلوكه، وهى فى الأصل ناشئة عن الانحراف فى تصور حقيقة الله0
* * *
        لقد تحدثنا عن الحتميات من قبل 00

        ولا تختلف هذه الحتمية ((العلمية)) التى تسمى قوانين الطبيعة عن غيرها من الحتميات. كلها تضل عن الحتمية الحقيقية الوحيدة فى هذا الكون. وهى مشيئة الله.
        وهذه المشيئة الطليقة لا يمكن أن تكون مقيدة.. حتى بمشيئتها! فكل قيد مفروض على إرادة الله فهو باطل00 فمن الذى يملك أن يفرض إرادته على الله؟ سبحانه الخالق المنشئ المريد 00
        وإنما جاءت الفتنة من ((ثبات)) السنة الإلهية التى جعلها الله لهذا الكون. ودوامها مدى الزمان00
        ولكن هذا الثبات – الذى أوجدته المشيئة الإلهية مختارة غير مقيدة – وكان رحمة بالكون ورحمة بالإنسان .. أنه لا يقيد إرادة الله – بداهة – ولا يعجزه – سبحانه – عن التصرف فى أمر الكون؟
        كيف يعجز 00 وهو الخالق المنشئ المريد؟!
        لقد قضت مشيئته – الطليقة – سبحانه – أن يجرى الكون على سنة ثابتة، هى التى سمتها الجاهلية الحديثة ((قوانين الطبيعة)) نفوراً من أن تسميها باسمها الحقيقى 00 ((سنة الله))0
        ولكن حين يريد – سبحانه – أن يخالف هذه السنة – الثابتة بأمره – فمن ذا الذى يملك أن يقول له : لا ! إن قوانين الطبيعة لا تسمح بالتغيير؟!
        ومن ثم تقع المعجزة، مخالفة للسنة الظاهرة الثابتة، وتكون جزءاً من سنة الله كذلك، التى هى الحتمية الوحيدة فى هذا الكون00
        والإيمان بالمعجزة لن يمنع – كما فهم الجاهليون- من قيام العلم، بقوانينه الثابتة، ولا من قيام العلم فى ظل العقيدة، وتقدمه فى كل ميدان. فلا تعارض على الإطلاق بين هذا وذاك0
        لقد قام العلم الإسلامى كله – وهو تراث ضخم يشهد للمسلمين بالبروز والتمكن – ذلك العلم الذى تولدت عنه كل النهضة العلمية الحديثة فى أوروبا، وخاصة المنهج التجريبى الذى تقوم عليه كل العلوم الحديثة.. قام هذا العلم فى ظلال العقيدة، فى ظلال الإيمان بالمعجزة، بلا تعارض فى قلوب المسلمين وتفكيرهم بين الإيمان بحدوث المعجزة والإيمان بثبوت سنة الله فى الكون – التى يترتب عليها إمكان قيام البحث العلمى وتتبع نتائج المشاهدات – لأن هذه حقيقة وهذه حقيقة. والحق لا يتعارض بعضه مع بعض إلا فى العقول الضيقة التى تعجز عن الشمول0
        إن ((المشكلة)) الكبرى فى الذهن الأوروبى الضيق، هى أنه لو حدثت المعجزة حقا فى أى وقت لاضطرب نظام الكون كله، لأنه كله مترابط بقانون ثابت 00 إذا حدث كذا ترتب عليه حتماً نتيجة معينة!
        من الذى رتبها؟ أليس هو خالقها؟ فكيف يعجز الخالق – حين يريد – أن يترب عليها نتيجة غيرها فى لحظة معينة، لغاية عليا يريد تحقيقها 00 ثم تسير فى سنتها ((المعتادة)) بعد انقضاء هذه الغاية المرادة؟
        ومع ذلك ((فالعلم)) كله – بما فى ذلك قوانين الطبيعة ((الحتمية)) كله فروض، وكله احتمالا!([2])0
        يقول سير ((جيمس جينز)) العالم الإنجليزى فى الطبيعة والرياضيات، الذى بدأ حياته ملحداً شاكاً، ثم انتهى بأنه لابد لحل مشكلات العلم من التسليم بوجود الله:
        ((لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقاً واحداً : وهو الطريق الذى رسم من قبل لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته، وفى تسلسل مستمر بين علة ومعلول، وأنه لا مناص من أن الحالة (( أ )) تتبعها الحالة ((ب)). أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن: هو أن الحالة (( أ )) يحتمل أن تتبعها الحالة ((ب)) أو ((ج)) أو ((د )) أو غيرها من الحالات الأخرى التى يخطئها الحصر. نعم إن فى استطاعته أن يقول: إن حدوث الحالة ((ب)) أكثر احتمالاً من حدوث الحالة ((ج)) وإن الحالة ((ج)) أكثر احتمالاً من الحالات ((ب)) و ((ج)) و ((د)) بعضها بالنسبة إلى بعض. ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين: أى الحالات تتبع الأخرى. لأنه يتحدث دائماً عما يحتمل . أما ما يجب أن يحدث فأمره موكول إلى الأقدار 00 مهما تكن حقيقة هذه الأقدار!))0
        أما قصة النشوء الذاتى، فقد كانت ضلالة عجيبة من ضلالات الجاهلية الحديثة فى القرن التاسع عشر وبداية العشرين!
        حين أحرج دارون، وهو يتتبع مراحل الخلق – إلى الوراء – مرحلة مرحلة إلى نشأة الحياة الأولى على ظهر الأرض من الموت، أحصر .. ولم يشأ التسليم بالمنطق البديهى الذى لا سبيل غيره.. لأنه كان فى حرب مع الكنيسة لا يريد أن يعترف بإلهها! لأنها تحاربه باسم هذا الإله!
        لم يشأ أن يلجأ إلى البديهية التى لا يوجد سواها : أن الله هو الخالق!
        وظهرت من ثم هذه الأسطورة الجاهلية، أسطورة النشوء الذاتى! التى لا تستأهل النقاش!
        إن علماء القرن العشرين أنفسهم قد بدأوا يشعرون بسماجة هذه الأسطورة السخيفة فأقلعوا عنها!
        يقول ((رسل تشارلز إرنست)) أستاذ الأحياء والنبات بجامعة فرنكفورت بألمانيا :
        ((لقد وضعت نظريات عديدة لكى تفسر نسأة الحياة من عالم الجمادات. فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد شنأت من البروتوجين، أو من الفيروس، أو من تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة. وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التى تفصل بين عالم الأحياء، وعالم الجمادات. ولكن الواقع الذى ينبغى أن نسلم به هو أن جميع الجهود التى بذلت للحصول على المادة الحلية من غير الحية قد باءت بفشل وخذلان ذريعين. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع، على أن مجرد تجمع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة، يمكن أن يؤدى إلى ظهور الحياة وصيانتها بالصورة التى شاهدناها فى الخلايا الحية. وللشخص مطلق الحرية فى أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة! فهذا شأنه وحده! ولكنه إذ يفعل ذلك إنما يسلم بأمر أشد إعجازاً وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله، الذى خلق الأشياء ودبرها0
        ((إننى أتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق. ولذلك فإننى أومن بوجود الله إيماناً راسخاً))([3])0
* * *
        أما قصة ((المصادفة))! فعل الفقرة السابقة المقتطفة من كلام ذلك ((العالم)) تكفى لدحضها وبيان سخافتها! ومع ذلك فنظرة واحدة – بعين مبصرة وقلب متفتح – دون حاجة إلى علم العلماء وتجاربهم، تكفى لإدراك أن هذا النظام الدقيق المتمثل فى دورة الأفلاك – كمثل من أمثلة التنظيم الدقيق الذى يشمل كل شىء فى الكون – لا يمكن أن يحدث مصادفة بلا تدبير !

        وفضلاً عن أن ((المصادفة)) تعبير فى – ذاته – غير علمى، فإنه لا يمكن أن تحدث المصادفة كل هذه الدقة التى لا تختل فى دورتها ثانية ولا ثالثة فى قياس الزمن، ولا قيد شبر فى حساب المكان! فى بلايين البلايين من السنين التى لا يدركها حصر الإنسان!
* * *
        ومن ضلالة ((المصادفة)) نشأت الضلالة الأخرى التى تقول إن الكون قد وجد بلا غاية، وكذلك الإنسان!
        إنها ضلالة متصلة بالضلالة الكبرى.. ضلالة الانقطاع عن الله !
        فما يمكن لقلب موصول بالقدرة الإلهية الخالقة المنشئة المريدة، أن يلوك فى حسه هذه الضلالة العمياء !
        إن هذه الدقة المعجزة ذاتها فى بناء الكون، لا يمكن أن تكون عبثاً! إنها وحدها تشهد بالقصد والتدبير . وتشهد بوجود غاية للوجود 0
        وقد لا يدرك الإنسان – من تلقاء ذاته – هذه الغاية، لأنه، وهو جزء واحد من بنية الكون، قد يعجز عن الإحاطة بالكل الشامل، ويعجز عن إدراك دلالاته. ولكن حسبه – حتى فى هذا العجز- أن يفتح بصيرته، فيحس أن هناك بالضرورة غاية وقصداً من وراء هذه الدقة المعجزة التى لا يحيط بكل دقائقها عقل الإنسان0
وقد كانت هذه الضلالة التى تظن أن الوجود بلا غاية. هى التى أدت إلى الانحراف فى تصور الحياة وأهدافها وارتباطاتها0
        إن الحياة التى نشأت مصادفة (!) بلا تدبير من خالق مدبر ولا حكمة، والتى أدت مصادفة إلى خلق الإنسان00 لا يمكن أن يكون لها ارتباطات ولا أهداف00
        يقول دارون : إن الحياة  تخبط خبط عشواء فى تطورها! 00 بما فى ذلك نشأة الإنسان، وتطور الإنسان!
        ومن ثم تلقى هذه الضلالة ظلها على تصور الإنسان لغاية وجوده وأهداف حياته0
        إنها الضياع!
        إنها الشقاء الأليم الذى لا يقف عند حد !
        إنها المرارة والحسرة 00 أو التكالب الذى لا حد له على المتاع!
        إنها الصراع اليائس، الذى لا ينتظر تأييداً من قوة عليا، ولا سنداً من رب عطوف.. ومن ثم ينقلب إلى صراع وحشى .. صراع مجنون 00
        وسنتكلم فى الفصل القادم عن الآثار التى تركها هذا التصور المدمر فى كيان الإنسان وسلوكه الواقعى، فرداً وجماعة وجنسين، وشعوباً وقبائل. ولكن هنا نتحدث عنه من حيث هو فساد فى التصور فحسب0
        فحين انقطع الإنسان عن الله، وانبتت العلائق بينه وبين خالقه، شرد فى الأرض بغير هاد0
        شرد 00 فلم يستطع أن يدرك غاية وجوده، ولا مكانه الكريم عند الله، ولا دوره البارز فى هذا الكون.. حتى وهو يتبجح إزاء خالقه فيقول: إنه هو – الإنسان – سيد هذا الكون ومدبر أمره! إنه يقول هذه الكلمة الفارغة منتفشاً فى تبجح إزاء خالقه فحسب. ولكنه ما إن يخرج – فى وهم نفسه – من دائرة نفوذ الله ووصياته، حتى تتلقفه الشياطين! تتلقفه الآلهة المزعومة – تلك الحتميات! – تمرغة فى الوحل، وتستذل كبرياءه وتمحق وجوده، وهو صاغر مستسلم ذليل!
        لم يستطع أن يدرك حقيقة نفسه ولا غاية وجوده :
((فالإنسان(فى رأى دارون) حيوان كغيره 0ولذلك فإن آراءه فى معنى الحياة الإنسانية، لا تستحق بالنسبة لباقى الكائنات تقديراً أكثر من الدودة الشريطية أو بكتريا الباشلس0 والبقاء هو المقياس الوحيد للنجاح التطورى0 ولذلك فكل الكائنات الحية الموجودة متساوية القيمة0 وليست فكرة التقدم إلا فكرة إنسانية(!) ومن المسلم به أن الإنسان فى الوقت الحاضر سيد المخلوقات0 ولكن قد تحل محله النملة أو الفأر))!!([4])0  
        ومن ثم راح يتخبط فى تصوره الحيوانى لذات نفسه، وعاية وجوده00 فهبط بالفعل إلى مستوى النملة والفأر!!
        ثم لم يدرك أن الحياة لا يمكن أن تنتهى بانتهاء هذه الفترة المحدودة على ظهر الأرض!
        إن الصورة لا يمكن أن تكتمل حين تنتهى عن هذا الحد00 فالحياة- بصراعاتها ونقائضها، ومظالمها التى لا تعد- عبث باطل إذا كانت هى الأولى والأخيرة، والبدء والانتهاء! عبث لا يتبين فيه الحق من الباطل0 عبث يتنزه عنه الإنسان المفكر ذاته، فضلاً عن يصدر عن إله!
        وحين انقطعت قلوبهم عن الله00 حين اقتطعوا الصورة قبل اكتمالها00 حين نظروا فى هذا الحيز الصغير المحدود الذى يعيشونه فى هذه الدنيا، بدت لهم الصورة- ولا شك- مشوهة قاتمة، لا معنى لها ولا دلالة00 فانطلقوا يعوون صارخين: إن الحياة كلها باطل وعبث وفوضى واضطراب! وانطلقوا يتكالبون فى صراع وحشى على المتاع00 فهى فرصة واحدة زائلة00 من لم يهتبلها اللحظة00 فلا رجوع!
        وشردوا كالسائمة00 يصطرعون ويتخبطون00 بلا هدف ولا غاية ولا دليل00 ولا طمأنينة ولا سعادة ولا راحة فى هذا الخضم المجنون000
* * *
        والضلالة((الواسعة)) الناشئة فى أصلها من ضلالة الانقطاع عن الله، هى تصور الجاهلية الحديثة للنفس البشرية، وعلاقة الإنسان بالإنسان0 فرداً، وجماعة، وجنسين00 وشعوباً وقبائل0
        لقد ظل الإنسان- على ضلالته كلها وجهالاته كلها- يظن فى نفسه أنه إنسان!00 حتى جاءه دارون يقول له فى توكيد((علمى)) إنه حيوان!
لقد بعث الله رسله للبشرية منذ مولد الإنسان حتى خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم00 يؤكدون((إنسانية)) الإنسان، ويجاهدون ليعرفوا الإنسان إلى أقصى ما ترتفع إليه طاقاته، بموجب هذه((الإنسانية)) التى جاءوا يؤكدونها، وينيرون لها السبيل لتهتدى بهدى الله، فترتفع وتشف00 وتأتى بما يشبه المعجزات0


[1] سورة الأعراف [20]، [22]0
[2] راجع شهادة العالم الأمريكى ((ماريت ستانلى كونجدن)) فى هذا الفصل ص78 0
[3] مقال ((الخلايا الحية تؤدى رسالتها)) فى كتاب ((الله يتجلى فى عصر العلم))0
[4] جوليان هكسلى فى كتاب((الإنسان فى العالم الحديث)) ص 2 من الترجمة العربية0
Previous Post Next Post