مظاهر الفساد في الجاهلية المعاصرة
فساد فى التصور  اوهام الجاهلية الحديثة

        لم تدع الجاهلية الحديثة شيئاً فى عالم التصور بلا فساد !
        فلقد أفسد كل تصورات الإنسان وارتباطاته 00 بالله والكون والحياة 00 والإنسان!
        هناك انحراف رئيسى فى تصور الحقيقة الإلهية، وعلاقة الإنسان بالله 0
        وانحراف فى تصور الحياة وارتباطاتها وأهدافها 0
        وانحراف فى تصور النفس البشرية، وارتباطات الإنسان بالإنسان، فرداً وجماعة وجنسين0
        وباختصار هو انحراف يشمل كل حياة الإنسان0
* * *
        والجاهلية الحديثة – كما قلنا من قبل – هى خلاصة الجاهليات الأوروبية القديمة كلها، وعليها مزيد ! ففيها  ميراث من الجاهلية اليونانية الرومانية وجاهلية القرون الوسطى 00 مضافاً إليه مزيد جاءت به القرون الحديثة على يد المفكرين ((والعلماء)) من كبار اليهود ومن تبعهم من ((الأميين))!
* * *
        لقد تخبطت أوروبا فى تصورها للحقيقة الإلهية تخبطات شتى، سواء فى الفلسفة أو العلم أو واقع الحياة 00
        ولن نتعرض طويلاً لانحرافات العقيدة فى تصور الذات الإلهية وتصور الوحدانية الملطقة، إذ يكفينا فى ذلك – كما بينا من قبل – شهادة دريبر الأمريكى فى كتاب ((النزاع بين العلم والدين))، التى قال فيها إن قسطنطين – الذى فرض المسحية فرضاً على الإمبراطورية الرومانية – قد مزج كثيراً من المفاهيم الوثنية بالعقيدة الجديدة، تأليفاً لقلوب الوثنيين وأملاً فى ن يدخلوا فى الدين الجديد000!
        ولكنا نعرض لوهم ضخم عاشت فيه أوروبا المسيحية فى العصور الوسطى وأوروبا الملحدة فى العصور الحديثة 000 سواء 0
        ذلك ظنهم بأن الدين علاقة بين العبد والرب 00 لا شأن له بواقع الحياة !
        ظنهم بأن العقيدة تكون ما تكون 00 فى داخل القلب، فى أعماق الوجدان 00 ثم يكون واقع الحياة مستقلا عن العقيدة ، يسير فى طريقه بلا تأثر بذلك الشعور المكنون!
        وهم من أوهام الجاهلية 00 !
        إن العقيدة هى الحياة! سواء صحت العقيدة أم دخلها الفساد 00 فهى تلقى ظلها على الحياة البشرية كلها 0 لا يفلت منها شعور واحد ولا عمل واحد ، يستقل بعالمه الخاص بعيداً عن العقيدة فى الله !
         ولقد كان هذا الفصل بين الدين والواقع؛ بين الشعور والسلوك؛ بين العقيدة والشريعة، من أكبر الحماقات فى جاهلية العصور الوسطى الأوروبية. فى عصر الظلمات، ولكن هل انفصل بالفعل الدين عن واقع الحياة؟
        كلا! إن الذى حدث بالفعل، ولا بد أن يحدث، أن العقيدة الفاسدة ألقت ظلها على الحياة الأوروبية، ففسدتن كلها، فى تدرج بطئ، حتى صارت تعج بالفساد !
        إن الحياة لا يمكن أن تنفصل عن العقيدة 0
        فما العقيدة ؟
        إنها ليست مجرد وجدان فى داخل الضمير0
        إنها قاعدة يقوم عليها ((تصور)) كامل للحياة وارتباطاتها، ومركز الإنسان من الكون، ومركزه من الوجود0
        ولقد يبدو الدين فى نفوس السذج البسطاء من الناس مجرد وجدانن فى ضمائرهم، ولكن هذه ليست حقيقة. فحتى هؤلاء السذج البسطاء من الناس، الذين لا يفلسفون الأمور بعقولهم، ولا يعيشون تفاصيل الحياة بوعيهم، يقفون – بوحدانهم الدينى الخالص – موقفاً معيناً من الحياة. فهم يقبلون منا أشياء ويرفضون منها أشياء. وهم يفسرون ارتباطات الأشياء بعضها ببعض على صورة معينة، مستمدة من هذا الوجدان.
        وإذن فالدين – حتى فى هذه النفوس الساذجة – موقف معين من الحياة، وتصور معين للحياة0
        والذين يرون ا لدين – فى فترات الجاهلية – ضعيف الأثر فى حياة الناس وواقعهم، يغرون بالظن أن الدين هكذا .. ضعيف الصلة بالواقع؛ وأن الواقع مستقل عن العقيدة؛ محكوم بأسباب أخرى وروابط أخرى لا صلة لها بالدين!
        وذلك الظن ذاته أثر من آثار الجاهلية، وإفسادها للتصور البشرى !
        إنه حين يضعف أثر الدين فى حياة الناس الواقعية فمعنى ذلك أن العقيدة قد فسدت فى النفوس! ومعناه كذلك بالتالى أن الحياة كلها لا تسير سيرها الطبيعى، وأنها واقعة لا محالة فى لون من ألوان الانحراف 00 تبدو آثاره الحتمية بعد حين0
        حين يضعف أثر الدين فى حياة الناس الواقعية فمعنى ذلك أن الناس لا يعبدون الله! لا يعبدونه حق عبادته. لا يفردونه بالعبادة، ويشركون معه آلهة أخرى، هى التى يحكمونها فى حياتهم الواقعية بدلاً من أن يحكموا الله ومنهج الله0
        وذلك أول الفساد فى العقيدة. أول ((التعدد) الذى تتسم به الجاهليات كلها على مدار التاريخ0
        وهذه السمة الجاهلية: تعدد الآلهة، ومن ثم ضعف أثر العقيدة فى عالم الواقع، لتوزع إشعاعاتها وانكسارها، بدلاً من تجمعها ووحدة اتجاهها. هذه السمة تتبعها حتماً نتائجها، وإن كانت بطيئة فى ظهورها، فلا يحسها الناس فى بلادة وعيهم إلا بعد حين!
        أول نتائجها توزع خطى الكائن البشرى على الأرض! خطوة مشدودة إلى الله، وخطوة مشدودة إلى ((الواقع))! الواقع المنحرف الذى شرد عن منهج الله. وتضارب القيم فى نفس الإنسان. تلك قيمة عالية بالنظر إلى المنهج الربانى وهابطة بالنظر إلى الواقع المنحرف عن منهج الله، وتلك قيمة محرمة فى المنهج الربانى، وهى ((مطلوبة )) أو ((ضرورية)) فى واقع الحياة!
        ولهذا التوزع ثقلته على مشاعر الناس وضمائرهم.. وإن لم يحسوا بها فى بلادة وعيهم إلا بعد أجيال!
        وينطق ((الواقع)) بعيداً عن إشعاع العقيدة 00 أى تنطلق ((الآلهة)) الجديدة بعيداً عن منهج الله . فتفسد الأرض0
        ينطلق ((الواقع)) خاضعاً للأهواء. خاضعاً للطاغوت. خاضعاً للشهوات.. من ثم يزداد فساداً على فساد . وينتهى به الأمر إلى البوار. حين يصبح ((الله)) آخ معبود يعبد. وتكون ((الآلهة)) هى المسيطرة على الحياة 00
        وتلك قصة أوروبا !
* * *
        قصة طويلة تستغرق بضعة قرون 00
        بدأت أول ما بدأت بفصل (( الدين )) عن ((الواقع )) 00
        ثم جاءت ((النهضة)) فباعدت بين الدين والحياة00
        إن أوروبا فى جاهلية القرون الوسطى لم تفهم على وجهه الصحيح قول المسيح عليه السلام: ((أعطوا ما لقيصر لقيصر. وما لله لله))([1]). ولم تسمع لقوله عليه السلام ((ومصدقاً لما بين يدى من التوراة. ولأحل لكم بعض الذى حرم عليكم))([2])0
        وربما كانت هناك ظروف تاريخية ساعدت على هذا الانحراف. فالمسيحية – كما يقول ((ليوبولدفايس)) . المستشرق الذى أعلن إسلامه وصار اسمه ((محمد أسد)) فى كتابه ((الإسلام على مفترق الطرق)) – لم تكن تملك أن تبسط سلطانها على الإمبراطورية الكبيرة التى تحكم بمقتضى القانون الرومانى، والتى كان ((الدين)) فيها مظهراً خاوياً من الحقيقة، فلما فرض قسطنطين المسيحية على الإمبراطورية فى القرن الثالث الميلادى، لم يفرضها إلا عقيدة وجدانية لا تحكم الواقع بتشريعها الربانى. فقد كان – حتى فى عالم العقيدة البحتة – يمزج الوثنية الرومانية بدين الله 00 فما بالك بالتشريع؟!
        ومع ذلك فبحكم تحمس الناس للعقيدة الجديدة كان لها سيطرة – جزئية – على الواقع الذى يعيشونه0
        فلما جاءت ((النهضة)) تغير الميزان 00 لم يعد مركز الثقل هو العقيدة، وإنما أصبحت الحركة الجديدة – التى تستمد من الهيلينية القديمة مفاهيمها الفكرية وتصوراتها – هى الوجه الجديد الذى أخذ – فى تدرج بطئ – يسيطر على الحياة0
        أخذ مركز الثقل ينتقل من ((الله)) إلى ((الآلهة))0
        وكان لذلك سبيان كبيران . أحدهما واضع فى الشعور والفكر، والآخر خفى فى الأعماق0
        فأما السبب الظاهر فقد تمثل فى حرب الكنيسة للعلماء والعلم، وكل مفهوم للحركة والتطور، خوفاً على سلطانها التقليدى أن يزحزحه العلم عن مكانه، ويستبدل به سلطاناً آخر لا تكون الكنيسة طرفا فيه. فلما ولدت الحركة ((العلمية)) كانت بطبيعتها معادية للكنيسة أو على الأقل مباعدة لسلطانها، كما كانت كذلك ((النهضة)) الفكرية والحضارية، لأنها حركة وتطور، مخالفة لإرادة الكنيسة فى تثبيت الأوضاع على ما هى عليه إلى آخر الزمان0
        وكان طبيعياً أن تسيطر النهضة الفكرية والحضارية على الحياة الواقعية، لأنها بطبيعتها متصلة بالواقع الأرضى والحياة اليومية. وما دامت الكنيسة لا تبارك هذه النهضة ولا تواكبها، فقد كان الأمر المنطقى مع الظروف هو استمرار التباعد بين الحياة الواقعية و((هذا)) الدين الذى تمثله هذه الكنيسة0
        ولقد كانت تلك هى الفرصة المناسبة لتصحيح الأوضاع كلها، والخروج من الجاهلية الشاملة إلى منهج الله الحق. ولكن أوروبا – كما بينا من قبل – قد رفضت هذه الفرصة المتاحة، بدافع من الروح الصليبية الغالبة عليها، فأخذت من المسلمين علومهم، ومذهبهم التجريبى، ومظاهر حضارتهم، وأبت أن تأخذ المنهج الربانى الذى يقوم عليه البناء كله، فكان بناؤها منذ اللحظة الأولى ((للنهضة)) منحرفاً عن منهج الله0
        ذلك هو السبب الظاهـر0
        أما السبب الخفى فهو ذلك الميراث النكد من الجاهلية اليونانية القديمة. الذى بعثته الهيلينية العائدة فى أعماق الضمير الأوروبى0
        بروميثيوس ، سارق النار 00
        إنه هو ((الإنسان)) الأوروبى الحديث 00 !
        لقد فعلت هذه الأسطورة فعلها فى مشاعر الأوروبيين وضمائرهم، فجعلتهم – هى وأمثالها – وهم يكتسبون المعرفة، يجسون بالعداوة مع الله !
        لقد وقر فى أخلادهم من هذه الأسطورة وأمثالها أن الله – أو الآلهة! – لا يحبون للإنسان الخير، وبصفة خاصة لا يحبون له ((المعرفة)) وإنما تؤخذ المعرفة اغتصاباً من الله – أو الآلهة – ويتحقق الخير على كره وعداء 0
        ووقر فى أخلادهم – كما قال جوليان هكسلى صراحة فى كتابه ((الإنسان فى العالم الحديث)) – أن الجهل والعجز فقط هما اللذان يخضعان الإنسان لله! فإذا زادت معرفته وقوته فلا موجب إذن لفكرة الله، وما يرتبط بها من عبادات.. وليكن الإنسان هو الله!
        ولم تصل الأمور إلى هذا الحد دفعة واحدة بطبيعة الحال. فطبائع النفوس بطيئة التحول، وخاصة فى شئون العقيدة. ومن ثم تحتاج إلى زمن طويل يمتد إلى أجيال0
        فى المرحلة الوسطى قامت عبادة ((الطبيعة)) بدلاً من عبادة الله 0
        وكانت الطبيعة مهرباً وجدانيا من إله الكنيسة الذى تسعبد الناس باسمه، وتفرض عليهم الإتاوات والعشور، والخدمة المجانية فى أرض الكنيسة والخدمة العسكرية فى جيوشها، وتستذل الرقاب ((لرجال الدين)) كانت إلها لا كنيسة له ولا فرائض ولا التزامات كذلك. إلهاً يستجيب لرغبة الفطرة فى التوجه إلى ((الخالق)) بالعبادة، وفى الوقت نفسه يستجيب لرغبة أوروبا فى الفرار من سلطان ((الدين)) كما مارسته الكنيسة الأوروبية بضعة قرون0
        وفى الوقت الذى كانت الطبيعة فيه تعبد على هذا النحو، كان ((الله)) لا يزال موجوداً فى ضمائر الأوربيين، يتوجهون له بالوجدان، ويعبدونه داخل الكنيسة ويصوغون من وحى منهجه بقية من أخلاقهم وتقاليدهم.. بحكم العادة أكثر من حكم الإيمان0
        وهكذا تعددت الآلهة المعبودة ، وتعقدت بينها العلاقات!
        الله، المحبوب المرهوب، مرتبط بلحظة الصلاة فى الكنيسة، و((بعض)) لحظات الحياة العابرة 00 بلا ميزان 0
        والطبيعة، المحبوبة المرهوبة، مرتبطة بالمشاعر الفنية من ناحية، فقد راحت الحركة الرومانتيكية توليها عناية زائدة، وتصوغ حولها أشعارها ورسومها ووجداناتها؛ والتقدم العلمى من ناحية أخرى، فقد أخذ العلماء يكتشفون ((القوانين الطبيعية)) التى تسير الكون، وينسبونها إلى هذه ((الطبيعة)) كقضية مسلمة لا يناقشها العقل، ولا منطق العلم ذاته الذى يكتشف هذه القوانين!
        والدولة وقوانينها هى الإله الثالث الذى تعبده الجماهير راضية أو كارهة.. وتخضع لسلطانه خضوعها لله 0
        وهكذا تفرق الدين الواحد ثلاث شعب متنافرة، لا شعبتين فحسب، كما كان فى جاهلية القرون الوسطى، حين كان عقيدة وشريعة منفصلتين، يحكم كلا منهما إله 0
        ثم حدث بالتدريج تحول آخر 00
        صار ((الله)) نسياً منسياً فى قلوب الأوروبيين0
        قل سلطانه على المشاعر وسلطانه على السلوك0
        وبرز بدلاً منه ((الإنسان)) !
        لقد انهار الإقطاع وجاء على أعقابه – بعد مولد الآلة – الانقلاب الصناعى، وجاء معه انقلاب فى المشاعر والأفكار0
        جاء الإنقلاب الصناعى فى هذه الجاهلية التى لا تعبد الله – إلا من ((الظاهر)) فاتسم بسمات الجاهلية الحاكمة .. ولكنه دفعها دفعة جديدة فى الطريق0
        فلئن كانت عواطف الريفيين ووجداناتهم ترتبط بالله وتعبده – مع إشراك الآلهة الأخرى – لأنهم يتطلعون إليه فى إنبات الحب وإنضاج الثمر ومباركة الأرض وحفظها من الصقيع أو الآفات00 فقد كانت عواطف سكان المدينة ووجداناتها – التى تسيطر نعليها الجاهلية – لا ترتبط بالله ذلك الارتباط!
        إن ((الإنسان)) هو الذى يقوم بعملية الإنتاج فى المدينة، وليس ((الله))! كذلك ظنت الجاهلية فى الانقلاب الصناعى، أو كذلك أريد لها أن تكون0
        إن الإنسان ((بعلممه)) هو الذى عرف خواص المادة. وبعلمه اخترع الآلة التى تقوم بالإنتاج00
        والإنسان هو الذى يدير الآلة – ويقفها إذا أراد – وهو الذى يضع فيها المادة الخامة لتخرج من الناحية الأخرى مادة مصنعة 00
        وإذن فالأولى عبادة الإنسان الصانع . بدلاً من عبادة الله !
        وفى تلك الأثناء كانت ((الطبيعة)) قد فقدت سحرها وألوهيتها فى ضمائر الناس!
        فمن ناحية لم يعد الفن معنيا بالطبيعة كما كان فى الفترة الرومانتيكية السابقة، وإنما صار – فى الفترة ((الواقعية)) – معنيا بالإله الجديد 00 بالإنسان!
        ومن ناحية أخرى كشف العلم الغطاء عن كثير من ((أسرار)) الطبيعة، وزاد فى الوقت ذاته من سيطرة الإنسان عليها، فلم يعد لها سلطان!
        وبذلك انتقلت الألوهية من الله، والطبيعة ، وتركزت فى الإنسان00
        وفى تلك الفترة قال الإنسان: إنه من العار عليه أن يعبد الله! من العار أن يعبد قوة غيبية لا تدركها الحواس! من العار أن يأخذ من هذه القوة الغيبية التى لم يرها – ولن يراها – أخلاقه وأفكاره ومشاعره وتقاليده 00 من العار أن تشرع له قوة أسطورية لا وجود لها فى الواقع، فيطيع تشريعاتها طاعة عمياء 0 لا يناقش، ولا ينقد، ولا يبدى ((رأيه)) فى هذه الشريعة المنزلة 00 منزلة من عالم الأساطير!
        لقد شب الإنسان عن الطوق! ولم يعد يليق به أن يصنع ما كان يصنعه فى أيام الجهالة، أيام الضعف، يوم لم يكن يعرف حقيقة الكون من حوله، ولا يستطيع أن يسيطر على البيئة والطبيعة. لم يعد يليق به أن يعبد الله، أو يسمع كلام الله، أو يصيخ لأوامر الله 00
        ينبغى أن يضع كل شىء موضع النقد والتمحيس00 والمقياس هو ((العقل)) الإنسانى. فما وافق عليه هذا العقل فهو الصواب الذى ينبغى أن ينفذ، وما خالفه فباطل وأساطير00
        وينبغى أن يكون الإنسان هو المشرع 00 هو الذى يشرع لحياته، فهو أدرى بنفسه وحاجاته وظروفه المتطورة من ذلك ((الإله)) الذى كان فى القرون الوسطى، ولم يكن يرى من الأمور إلا ما كان قائماً وقتذاك0
        ينبغى أن يصنع الإنسان حياته بنفسه([3]) لا شريك له فى هذا الوجود !
* * *
        ثم مضى الانحراف خطوة أخرى ذهبت حتى بعبادة ((الإنسان)) !!
        ولكن قبل أن ندخل هذه المرحلة الأخيرة، القائمة اليوم فى ذروة الجاهلية الحالية، ينبغى أن نلتفت إلى آثار الجاهليات المتعددة فى هذه التصورات المنحرفة لحقيقة الألوهية00
        فمن قبل لمسنا أثر الجاهلية اليونانية فى إحداث البغضاء والنفور بين الإنسان والله00
        وهنا نلمس أثر الجاهلية الرومانية فى الإيمان بما تدركه الحواس وحده، وإسقاط ما لا تدركه الحواس من الحساب. فما دام الله لا تدركه الحواس، فلا ضرورة الإيمان به 00 والأفضل عدم الإيمان!
        ومرة أخرى تعود الجاهلية اليونانية فتبرز فى الجاهلية الحديثة وهى تضع ((العقل)) الإنسانى فى مركز القداسة، حتى ليصبح هو الإله الذى يتحكم فى وحى الله، بل فى وجود الله ذاته إذا شاء!
        ثم نتتبع الجاهلية اليونانية مرة أخرى فى مشاعر ((الصراع)) بين الإنسان والله 00
        فحين كان الله هو المعبود فى أوائل عهد النهضة، كان الصراع قائماً مباشرة بين الإنسان والله؛ يخضع الإنسان لله عن جهل وعن ضعف، فإذا تعلم وتقوى ارتفع فى نظر نفسه درجة،وهبط الإله فى حسه بنفس القدر! ولكما تعلم زاد ارتفاعاً وزاد هبوط الإله حتى يجئ اليوم الذى ((يخلق)) فيه الإنسان الحياة، فيصبح هو الله!
        وحين كانت الطبيعة معبوداً مع الله، كان الصراع قائماً بين الإنسان والطبيعة! فإنسان يحاول ((قهر)) الطبيعة! والإنسان ((ينتزع)) أسرار الطبيعة .. كما كان يصنع بروميثيوس القديم!
        فما صار الإنسان هو المعبود، ظل الصراع النكد قائماً بين الإنسان والإنسان! بين الإنسان العابد والإنسان المعبود! صراع يتمثل فى صراع الفرد مع الجماعة. وصراع الفرد مع الدولة. وصراع الفرد مع ((القيم)) السائدة فى مجتمعه. وصراع الفرد مع طاقاته الفردية ذاتها.. فى داخل إطار الإنسان!!
* * *
        هذه الصراعات الأخيرة بين الإنسان والإنسان 00 هى التى ذهبت بعبادة ((الإنسان))!!

        لقد اكتشفت هذا الإنسان – رغم استمراره فى التبجح إزاء خالقه، وإصراره على عدم إطاعته – أنه ليس الإله الحقيقى فى هذه الأرض!
        إن هنالك آلهة أخرى كشف عنها ((البحث العلمى)) فى تاريخ الإنسان! البحث الذى نجم عن صراعات الإنسان مع الإنسان!
        هناك((الحتميات))00
        الحتمية الاقتصادية0 والحتمية الاجتماعية00 والحتمية التاريخية00 تتحكم كلها فى مصير الإنسان0
        إنها((القدر)) الحتمى الذى لا يرد00 القدر الذى يسيطر على حياة الإنسان، وهو مستقل عن إرادة الإنسان0
        يقول ماركس: ((فى الإنتاج الاجتماعى الذى يزاوله الناس، تراهم يقيمون علاقات محدودة لا غنى لهم عنها، وهى مستقلة عن إرادتهم0 فأسلوب الإنتاج فى الحياة المادية هو الذى يحدد صورة العمليات الاجتماعية والسياسية والمعنوية فى الحياة0 ليس شعور الناس هو الذى يعين وجودهم0 بل إن وجودهم هو الذى يعين مشاعرهم))0
        ويقول إنجلز: ((تبدأ النظرية المادية من المبدأ الآتى: وهو أن الإنتاج وما يصاحبه من تبادل المنتجات هو الأساس الذى يقوم عليه كل نظام اجتماعى0 فحسب هذه النظرية نجد أن الأسباب النهائية لكافة التغيرات أو التحولات الأساسية لا يجوز البحث عنها فى عقول الناس، أو فى سعيهم وراء الحق والعدل الأزليين، وإنما التى تطرأ على أسلوب الإنتاج والتبادل))0
        وهكذا تقوم هذه الآلهة- الحتمية- بصياغة حياة الناس وتسيير خطواتهم على الأرض، دونما اعتبار لمشاعر الناس وأفكارهم، وسعيهم وراء الحق والعدل الأزليين أو انصرافهم00 إنها آلهة لا تستجيب ((لمشاعر)) الناس، ولا تتعامل مع((نفوسهم)) كما يستجيب الله للمشاعر ويتعامل مع النفوس0 ولا حتى كآلهة الجاهليات الأولى- رغم انحرافها، وصراعها الوحشى مع الإنسان- وإنما تسير فى حتميتها المرسومة فى صرامة آلية مذلة لكرامة الإنسان!
        وهكذا ظل((الإنسان)) ينحدر فى عبادته ويتدهور! من عبادة الله مع إشراك آلهة أخرى- إلى عبادة الطبيعة- إلى عبادة ذاته، وما تلا ذلك من صراعات مدمرة- إلى عبادة تلك الآلهة الجاسية الصارمة الصلبة المستذلة لكيانه، التى لا يجد فى رحابها سوى قسوة الحتمية وذلة الهوان!
        بئس الجاهلية00 جاهلية القرن العشرين!!
* * *
        لقد كان كله انحداراً بلا منطق، ولا بصيرة، ولا مبررات!
        فحين بدأ الانحراف بإشراك آلهة أخرى مع الله00 لم يكن له سند ولا مبرر!
        إن من يعرف الله حق المعرفة لا يمكن أن يقدم على الشرك فى أية صورة من صوره0 ولكن أوروبا التى أخذت عقيدتها ممتزجة بالوثنية الرومانية- على يد الإمبراطور قسطنطين- لم تعرف الله فى حقيقته العلوية، وإنما استمرت فى جاهليتها00 كل يوم تزداد!
        وبعض المؤرخين يميل إلى تفسير انحراف المسيحية عن تطبيق شريعة الله- المنزلة على موسى وعيسى عليهما السلام- بأنها نشأت فى ركن صغير من الإمبراطورية الرومانية، فلم يكن لها قبل بفرض سلطانها الحقيقى على تلك الإمبراطورية المترامية الأطراف0 وذلك يفسر جانباً واحداً من جوانب الأمر، ويغفل الحقيقة الأخرى، وهى أن العقيدة فى ذاتها لم تكن سليمة فى تصور هؤلاء المسيحيين00 وإلا فلو كانت سليمة لما وقفت قوة الإمبراطورية الرومانية فى طريقها00 كما لم تقف أمام قوة الإسلام كل قوى الجاهلية فى داخل الجزيرة العربية وخارجها، بما فى ذلك الإمبراطورية الرومانية كلها، والإمبراطورية الفارسية إلى جانبها0 وعلى أى حال فهذه الأسباب تفسر ولا تبرر! فلا شئ فى الأرض كلها يبرر الانحراف عن منهج الله!
        وقد كان هذا الانحراف المبدئى هو المرشح لما تلا ذلك من انحرافات00 فما دام فى النفس قابلية للشرك، فكل شئ بعد ذلك هين00 وما دام((هذا)) الانحراف قد بدأ فهو السبيل المؤكد لمزيد من التدهور ومزيد من الفساد0
        وقد بدأت أوروبا بداية غير موفقة منذ أول لحظة00 ثم استمرت تبتعد عن هدى الله كلما بعد العهد واستطال المسير00
        فلما زادت الكنيسة الأمر سوءًا بحماقاتها المختلفة التى سردنا طرفاً منها من قبل، كان ذلك مرشحاً جديداً لمزيد من الانحراف فى العقيدة الأوروبية، أدت فى تدرجها الطويل البطئ إلى جاهلية القرن العشرين0
        وذلك- كما قلنا- يفسر ولا يبرر! فقد أحس الأوروبيون ذات يوم أن ما تقدمه لهم الكنيسة الأوروبية ليس((ديناً)) حقيقياً! وإنما هو بضاعة((أرضية)) مصنوعة على يد الكهنة ورجال الدين00 بضاعة تشتمل على أشياء لا يفهمونها، وأشياء لا تحترمها عقولهم التى استنارت بنور العلم الجديد0
        ولكنهم بدلاً من أن يطرحوا((هذا)) الدين، الذى تقدمه لهم الكنيسة الأوروبية ممسوخاً على هذا النحو، ويعودوا إلى العقيدة الصافية كما أنزلها الله على رسوله كلهم بالحق00 بدلاً من ذلك أخذوا ينفضون أيديهم من((الدين)) كله00 على انه كله خرافة وأساطير0
        وهذا00 لا شئ يبرره! على الرغم من كل ما تقدمه أوروبا من المعازير!
* * *
        وحين أضافت أوروبا إلى شركها الذى كانت عليه فى القرون الوسطى المظلمة عبادة الطبية00 فما الذى يبرر00 بل ما الذى يفسر هذا اللون الجديد من الشرك الذى وقع فيه((المتنورون)) من الأوروبيين؟

        قلنا من قبل عن ذلك كان مهرباً((وجدانياً)) تهرب به أوروبا من إله الكنيسة الذى تستعبدهم باسمه، وتفرض عليهم ألواناً من السلطان الغشوم0    

        ولكن00 ما هذه((الطبيعة))؟
        كيف يتأتى((لعاقل))- وقد كان هذا عهد إحياء((العقل)) على هدى الهيلينية المعادة- يتأتى لعاقل أن يقول- مثلاً- ما قاله دارون عن الطبيعة: ((إنها تخلق كل شئ0 ولا حد لقدرتها))؟!!
        كيف يتأتى لعاقل أن يجعل من هذه الطبيعة كائناً- مفكراً أو غير مفكر([4])- يسيطر على الكون ويحدد مقاديره؟!!  
كيف بدا لهؤلاء العقلاء ألا يسألوا أنفسهم: ما هذه الطبيعة التى يتعبدونها على وجه التحديد؟! مخلوقة هى أم خالقة ؟ عاقلة أم غير عاقلة؟ وكيف أنشأت نفسها وأنشأت قوانينها التى تحكم الكون؟ وأى سلطة لهذه القوانين يسير الكون بمقتضاها؟ ومن أين لها هذه((الحتمية)) التى تفرضها على الكون؟
ثم00 ما الفرق- فى حقيقة الواقع- بين هذا المعبود الجديد الذى تنسب له القوة والسيطرة والخلق والهيمنة المطلقة على الكون، وبين الله الذى نبذوه وانسلخوا من عبادته لأنه((غير معقول))  و(( غير مفهوم))؟!
وحين أبوا أن يخضعوا لقوة((غيبية)) لا يرونها00 فكيف تأتى لهم ألا يسألوا أنفسهم عن هذه الطبيعة: غيب هى أم شهود؟!! فإن كانت((مظاهرها)) مشهودة فى السموات والأرض، والمادة والشعاع، فما((هى))00((هى)) فى كنهها وحقيقتها؟((هى)) التى تجعل السماء سماء والأرض أرضاً، والمادة مادة؟ أليست((هى)) غيباً مكنوناً لا تدركه الحواس؟!
وهل كان((الله)) غير ذلك؟
غيباً لا تدركه الحواس، ولكن مظاهر قدرته هى السماء والأرض والمادة والإشعاع؟!!
لقد كانت حماقة جاهلية كبيرة، تلك التى وقع فيها((المتنورون)) من الأوروبيين!
* * *
 ثم لما بطلت عبادة الطبيعة، وعبد الإنسان نفسه!!
فيم والله كانت هذه العبادة؟!!
لأن الإنسان قد تعلم00 وزادت قوته!
ودعك لحظة من الجاهلية المنكرة، التى تتنكر لخالقها، الذى وهب لها هذه القدرة على العلم، لغير سبب سوى أنه وهب لها هذه القدرة! فبدلاً من أن يشكر الإنسان الله المنعم الوهاب، على ما أولاه من نعمائه، تنقلب النعمة ذاتها سبباً للنفور والكفران!
دعك من هذه الجاهلية المسممة بروح الجاهلية اليونانية القديمة فى صراعها، فى صراعها النكد بين البشر والآلهة، كلما((اغتصبت)) من الآلهة قدراً من المعرفة زادت تمرداً عليها بما صار فى يدها من سلطان!
دعك من ذلك كله لحظة00 ولننظر ماذا((علم)) الإنسان حتى يتنكر للخالق المنعم الوهاب!
يقول ماريت ستانلى كونجدن- وهو عالم أمريكى معاصر- فى مقال له بعنوان((درس من شجيرة الورد)) : ((إن العلوم حقائق مختبرة؛ ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدفة فى ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته، ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود، فهى بذلك مقصورة على الميادين الكمية فى الوصف والتنبؤ0 وهى تبدأ بالاحتمالات، وتنتهى بالاحتمالات كذلك00 وليس باليقين00 ونتائج العلوم بذلك تقريبية، وعرضة للأخطاء المحتملة فى القياس والمقارنات؛ ونتائجها اجتهادية، وقابلة للتعديل بالإضافة والحذف، وليست نهائية))([5])0            
هذه قولة((عالم))00 وليست قولة رجل من((رجال الدين))!

[1] إنجيل متى إصحاح 22 آية 21
[2] سورة آل عمران (50) 0
[3] Man makes himself عنوان كتاب لكاتب أمريكى معاصر يسمى جوردون تشايلد 0
[4] يقول دارون- رغم قولته السابقة- إن الطبيعة تخبط خبط عشواء فى تطورها! 
[5] عن كتاب((الله يتجلى فى عصر العلم)) ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان0 

Previous Post Next Post