أزمة حقوق الإنسان الأسباب والنتائج

       إن أزمة حقوق الإنسان في ظل الواقع المعاصر تتأرجح ما بين دول كبرى تسعى إلى حماية مثل هذه الحقوق بمنظورها وفلسفتها وتحقيقا لمصلحتها على حساب سائر المصالح، وما بين دول العالم الثالث – والتي منها الدول العربية والإسلامية –، والتي ما تزال تقع فيها انتهاكات لأبسط حقوق الإنسان، وهو ما تبرزه التقارير التي تصدر عن لجنة حقوق الإنسان بجنيف.
       وفيما يلي يتأتى تسليط الضوء على عدد من معطيات الواقع التي أفرزت مثل هذه الأزمة في نطاقها العالمي والإقليمي والعالمي، حيث يحكم العالم اليوم موازين القوى التي تفرض نفسها لمصلحة إنسانها على حساب مصلحة أي إنسان آخر، وذلك في ظل الأنظمة السائدة دول في العالم الثالث، والتي تسلب إنسانها أبسط حقوقه تحقيقا لمصالح فئوية وسلطوية، وذلك دون مبالاة ولا اكتراث.

أولا: تسخير الأمم المتحدة لتحقيق أهداف الدول العظمى

       لقد سعت الدول الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية إلى إسباغ صفة العالمية على هيئة الأمم المتحدة، وأنها ملاذ الشعوب من أجل تحقيق الأمن والسلم الدوليين، وإقامة نظام عالمي أكثر استقرارا. وقد جاء هذا الاعتراف باعتبار هذه الهيئة صوتا مؤازرا لأفقر البلدان، وموصلة لإغاثة الإنسانية، وحارسة لحقوق الإنسان وحقوق الأقليات، ومنقذة للدول في وقت الأزمات، وأداة لإصلاح البيئة العالمية إن أصابها ضرر. [1]
       ولكن الأمم المتحدة باعتبار الواقع والحقيقة منذ نشأتها توظّف أنشطتها وجهودها من أجل تحقيق  أهداف الدول العظمى، وتظهر في ذات الوقت شعارات تسعى من خلالها إلى إثبات صفة الحياد والموضوعية في تعاملها مع مختلف القضايا والمستجدات.
       ولكن القرن العشرين دحض كثيرا من الأساطير  بالقول بأن المنظمات الدولية يمكن أن تحقق السلام الكامل والشامل، حيث كانت هناك تجربتان عظيمتان في النظام العالمي هما – عصبة الأمم والأمم المتحدة -، وكل منهما منيت بفشل ذريع.
       إن المنطق الذي أقام عليه المسخّرون لهذه المنظمة، هو أن القوة هي التي تدفع العالم صوب الخير أو الشر، وأنه لا يمكن أن تتخلى أية أمة ذات سيادة عن أي مساحة من سلطاتها وقوتها للأمم المتحدة أو أية هيئة وطنية، لا الآن ولا في أي وقت. [2]
       وبذلك فإن الأمم المتحدة ما هي إلا هيئة أنشئت بواسطة الدول الكبرى التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية تحقيقا لمصالحها، وهي بذلك تظهر خلاف ما تضمر، وهي لا تفتأ تكيل بمكيالين تجاه مختلف القضايا، وذلك بما يحقق مصلحتها ولا شيء غير ذلك تجاه مختلف القضايا والمستجدات والمتغيرات، فلا مبادئ حقوق الإنسان تحترم، ولا القانون الدولي الإنساني تفعّل قواعده، وذلك رغم أن لها بعدا عالميا توافقت عليه الكثير من الكيانات.
       لا زالت المساعي من أجل إسباغ صفة المصداقية على الأمم المتحدة، وذلك باعتبارها هيئة تتحقق من خلال برامج عملها مصلحة الإنسان المجرّدة، ولكن الأزمات التي تعصف بدول العالم هنا وهناك تثبت خلاف ذلك، وأن الأمر في النهاية يتقرر بإرادة الدول العظمى التي ليس لها إلا أن تبحث عن مصالحها على حساب مصالح الكيانات الأخرى، وهي لا تفتأ تقوي ذاتها وأركانها على حساب غيرها، حيث فرضت على العالم منطق يتمثل في أن البقاء للأقوى ولا شيء غير ذلك.
       وبذلك فإن تسخير الأمم المتحدة لتحقيق أهداف الدول العظمى يعد أحد أبرز الأسباب التي أدت وما زالت تؤدي إلى انتهاك حقوق الإنسان إقليميا وعالميا، والنتيجة أن استمرار الدول الصغرى بالانجذاب والتسليم بالنظام العالمي الجديد، هو الذي جعل هذه الهيئة هي ملاذ كل من يطلب الأمن في مختلف أبعاده  من مختلف التكتلات الأخرى، لتكون النتيجة بعد ذلك مزيدا من الانتهاك لهذه الحقوق، وضياعا لقيمة الإنسان بسبب سياسة الكيل بمكيالين القائمة على المصلحة الفئوية من القوى العظمى.

ثانيا: سياسات الدول العظمى القائمة على المصلحة الفئوية

       وتأكيدا لما تسير عليه الأمم المتحدة، وما تنطق به سياسات الدول العظمى في الكيل بمكيالين، فقد جاءت أصوات في الغرب تندد بسياسة الازدواجية والكيل بمكيالين، حيث جاء التنديد بما حصل على أرض الواقع في التنديد بجرائم في حق الإنسان، وذلك في ظل غض الطرف عن أخرى. كما أنحت رئيسة الوزراء البريطانية ( مارجريت تاتشر ) باللائمة على الغرب والنظام العالمي الجديد لفشله الذريع في إقرار الشرعية والعدالة فيما يتعلّق بمأساة البوسنة والهرسك.
       وليس أدل على ما تقرره الدول الكبرى في تعاملها مع مجازر القوة الصهيونية باعتبارها تمثل أعظم الانتهاكات لحقوق الإنسان، هذا بالإضافة إلى غيرها من الانتهاكات مما صرّح به واحد من قادة النظام الدولي الجديد، وهو الرئيس الفرنسي ( فرنسوا ميتران )، حيث تحدث عن ما حصل في فلسطين والكويت من مذابح فقال: " إن القانون هو القانون، والحقوق هي الحقوق، ولا يستطيع المرء أن يدافع عن حقوق الإنسان هنا، ويتجاهلها هناك ".
       لقد تظاهرت القوى العظمى حيث تتقرر مصلحتها بالدفاع عن حقوق الإنسان في الكويت، وفي ذات الوقت، وحيث لا تتقرر مصلحتها تجاهلوا حقوق الإنسان في فلسطين.[3]، فالقضية كلها تقوم تحقيقا لمصلحة إنسان على حساب مصلحة إنسان آخر، ولا تقوم بحفظ مصلحة الإنسان مجردة من الانتماء أو الجنسية أو القومية.
       وبذلك فإن تسخير  القوة واستخدمها من قبل هذه الدول العظمى قد تقررت تحقيقا لمصلحتها ومصلحة كل من ينتمي إليها، وإن كان ذلك على حساب مصالح أخرى كثيرة ومتعددة، لا سيما وأن استعراض العضلات من قبل هذه القوى غير مواجه من قبل التكتلات الأخرى، والتي منها التكتلات العربية والإسلامية، والتي تُجرّد مما يجعل لها أي وزن على الساحة العالمية ممثلا بما تدّعي بالانتماء إليه، ليضيع الإنسان في ظل مقدّرات السياسة الدولية ما بين سياسة الدول العظمى التي تسعى لتغليب مصلحتها على سائر المصالح، وما بين سياسة قادة الدول النامية إسلامية وعربية كانت أو غير ذلك، والتي تجرّدت من جوهر هوّيتها وما يبرز خصوصيتها، لتنقاد خلف السياسات العالمية دون بصر ودون بصيرة.
       ولكن – وفق ما أرى – فإن هذا النهج الذي تسير عليه الدول العظمى في كيلها بمكيالين، وفي تسخيرها للأمم المتحدة لتحقيق مصالحها في قضايا هامة وحساسة تتعلق بحقوق الإنسان سوف يجرّها إلى ويلات تعجز عن التعامل معها. ومما لا شك فيه أن ما أفرزته أحداث سبتمبر / أيلول، وما نجم عن الأزمة المالية العالمية التي أفقدت العالم الغربي شيئا من سيطرته ونفوذه يعدان علامتان بارزتان على ذلك.
      
ثالثا: ضعف الإدراك لأهمية تفعيل حقوق الإنسان ونشر ثقافتها في المجتمعات النامية

في ظل ما تعيشه الدول الغربية من احترام لحقوق الإنسان وتفعيل لحمايتها ومساءلة كل من ينتهكها ومعاقبته ردعا وتأديبا، حيث يعتبر ذلك سر تقدم تلك الدول وتطور التنمية فيها، والذي تمثل بإدراكها واحترامها لحقوق الإنسان، فإن هذه الدول لا تألوا جهدا تبذله من أجل تفعيل وتطوير منظومة حقوق الإنسان؛ وذلك تفعيلا ثقافة حقوق الإنسان، وإدراكا منها أن احترامها لهذه الحقوق في نطاق مجتمعاتها الداخلية هو سر تفوّقها وسيطرتها على العالم؛ ذلك أنها تسعى لذلك تحقيقا لمصلحتها وإن كان ذلك على حساب أي مصلحة أخرى تنتهك.
إن الدول الكبرى اليوم ترفع لواء حماية حقوق الإنسان داخل أقطارها، حيث يستعصي على أي حزب أو نظام يحكم تلك الدول أن يسخّر إمكانياته لانتهاك حقوق الإنسان الذي ينتمي إليها أو النيل منها بأي حال من الأحوال. وحتى بعد أحداث سبتمبر / أيلول لا زال الانتهاك لحقوق الإنسان من قبل الإدارة الأمريكية يوظّف وفق ما تراه تحقيقا لمصلحة الإنسان الأمريكي، وذلك بغض النظر عن مدى اعتبار ما أقدمت عليه الإدارة المنتهية ولايتها من قبيل التخبطات من عدمه.
 يذكر محمد فائق في ورقته التي قدمها بأن حالة حقوق الإنسان في الوطن العربي – وهو جزء من المجتمع النامي – تعاني من العديد من الضغوط القانونية والسياسية والاجتماعية والثقافية، والتي تتباين ما بين مجتمع وآخر، حيث ما زالت انتهاكات حقوق الإنسان بسجل لا يستهان به في هذه الدول.
وترجع أسباب الضعف الذي تعاني منه حالة حقوق الإنسان في الوطن العربي إلى ضعف الالتزام القانوني من جانب الحكومات العربية بضمانات حقوق الإنسان، سواء على مستوى العهود والمواثيق الدولية، أو على مستوى الضمانات الدستورية، أو القوانين والتشريعات الوطنية، فهناك دول لم تنضم بعد إلى مواثيق حقوق الإنسان، كما أن منها رغم انضمامها تأخذ موقفا انتقائيا من الاتفاقيات الأخرى.
ولا تقتصر المشكلة على ذلك فحسب، حيث أن معظم الدساتير العربية تشترك في سمات تضعف من التزام حكوماتها بحقوق الإنسان، فكثير منها يحيل تنظيم ممارسة الحقوق المختلفة إلى قوانين، ويصل البعض منها إلى الاستدراك على مبدأ علنية القوانين أو وضع شروط تخل بالمساواة، هذا فضلا عن اكتظاظ البنية القانونية العربية بالعديد من القوانين الاستثنائية التي جرى إلباسها لبوس التشريعات العادية، بينما تعصف بالضمانات الدستورية والقانونية لحقوق الإنسان في معظم الأحوال.
إن أبعاد المشكلة تتمثل في عدم اكتراث النظم العربية بالالتزام بهذه الحقوق، وذلك على الرغم من أنها تحتل مكانة متزايدة كأحد مصادر الشرعية في العديد من بلدان العالم، حيث أن معظم هذه النظم تتعامل مع هذه الحقوق بمنهجية انتقائية تضعف من شرعية ومكانة حقوق الإنسان في تلك البلدان.
وثمة بعدا آخر لا يقل أهمية عن موقف السلطة، وهو موقف المجتمع العربي من حقوق الإنسان، ومدى تجذّر هذا المفهوم في الواقع العربي، حيث أنه من الواضح أن هناك ضعفا ظاهرا في تقبل هذا المفهوم في كثير من المواقع، وثمة مظاهر لانتهاكات حقوق الإنسان تقع في إطار المجتمع لا تقل خطورة عن تلك التي تقع من جانب السلطة، هذا فضلا عن ملامـح أخرى كثيرة تبرز واقعا سلبيا لفلسفة حقوق الإنسان في المجتمعـات العربية.[4]
       إن هذه الأسباب الثلاثة هي الأسباب الرئيسة لأزمة حقوق الإنسان عالميا وإقليميا ومحليا – وفق ما أرى -، ومالم تتخلى القوى العظمى عن سيطرتها على هيئة الأمم المتحدة وتطويعها لقراراتها تحقيقا لمصلحتها، وعن سياسة الكيل بمكياليين في توجهاتها وقرارتها، فإنه لا يمكن أن نرى مستقبلا مشرقا لمنظومة حقوق الإنسان، لا سيما في ظل تأتي الانتهاك لمثل هذه الحقوق من بعض الأنظمة في الدول النامية، والتي هي في غالبها دول عربية وإسلامية تخلت عن الالتزام بأعظم نظام لحماية حقوق الإنسان، وهو النظام الإسلامي.
ثم إن الأمم العربية والإسلامية ينبغي أن تفقه القيادات السياسية والفكرية فيها بأنه لا يمكن الخروج من عنق الزجاجة مما تعانيه من ضعف وانكماش إلا بالعمل على إعداد برامج لكفالة الحماية لحقوق الإنسان في مختلف مؤسساتها، والتي تعتبر أساسا للتنمية في مختلف محاورها وأبجدياتهـا.  
إن أساس التنمية التي ينبغي أن تسعى لها الدول النامية يمكن أن تتشكل من خلالها قاعدة الانطلاق لحماية حقوق الإنسان، وذلك بأن تتمثل في أنظمة صادقة وقوية في حماية هذه الحقوق وحفظها من الانتهاك. ومالم ترتبط هذه الأنظمة بتعزيز مفاهيم العدالة ومحاربة الفساد والإصلاح، فإنها ستظل تقبع مكانها لا حول لها ولا قوة، لتظل كما كانت حائرة في عالم محيّر، متأثرة بعيدة كل البعد عن حيّز التأثير والمساهمة في تغيير الواقع وصناعة المستقبل العالمي، وهو ما يرتبط بحسابات طويلة الأمد ينبغي أن تعد لها، كما تحتاج إلى جهود صادقة من أجل عملية لصناعة التغيير الجذري في الأهداف والمنطلقات؛ ذلك أن سنة الله تعالى في أرضه أنه لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.





[1] نقلا عن التقرير السنوي للأمين العام للأمم المتحدة، ص 5، ملحق مجلة السياسة الدولية، ع 114، أكتوبر 1993 بتصرف يسير. وقد أورد هذا النقل أبو شبانة – ياسر، النظام الدولي الجديد بين الواقع الحالي، والتصور الإسلامي، ط: 1، 1998 – 1418، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة – مصر، ص 40.
[2] أبو شبانة – ياسر، النظام الدولي الجديد بين الواقع الحالي، والتصور الإسلامي، مرجع سبق ذكره، ص 40.
[3] أبو شبانة – ياسر، النظام الدولي الجديد بين الواقع الحالي، والتصور الإسلامي، مرجع سبق ذكره، ص 56.
[4] محمد فائق، حالة حقوق الإنسان في الوطن العربي – الأبعاد والآفاق، من أبحاث ندوة حقوق الإنسان في الإسلام، مرجع سبق ذكره، ص 365.

Previous Post Next Post