أنظمة حقوق الإنسان

       تتعدد أنظمة الحماية لحقوق الإنسان وذلك باعتبار التعددية الثقافية والعقدية والإيديولوجية، وبناء على ذلك فإنه وإن كان الإعلان العالمي قد قرر في المادة ( 30 ) منه أن ما ورد فيه ينبغي أن يعبر عن شيء مشترك للإنسانية جمعاء، فإن حقائق الواقع تفرز معطيات مختلفة، بل إن الدول من حقها أن تضع تحفظاتها على بعض البنود، وبذلك فإنه وإن كان هناك بعدا إنسانيا مشتركا في النظرة لحقوق الإنسان، إلا أن الأنظمة الحامية له تتعدد ما بين شمولية تستوعب في جانب منها ما ورد في تعاليم الدين، وفي جانب آخر ما ورد في النظم الليبرالية، ومنها كذلك الليبرالية، والتي لا تضع في إقرارها وتفاعلها مع حقوق الإنسان أي اعتبار للدين، وأخيرا هناك من الدول من تضع اعتبارا للنظام الإسلامي في إقرار حقوق الإنسان، فهي تدور في فلكه جملة وتفصيلا.

·                  الأنظمة الشمولية: إن هذه الأنظمة هي التي تجمع في إقرارها لمبادئ حقوق الإنسان ما بين نظام وآخر، فعلى سبيل المثال الأنظمة العربية على اختلافها فيما تقره تنحو هذا المنحى، ولعل ذلك يمكن أن نلمسه فيما يتصل بإقرار مشروع ميثاق حقوق الإنسان العربي، والذي وضعه اتحاد الحقوقيين العرب، حيث انبنى هذا المشروع على ما قررته لجنة من الخبراء في العام 1970، والذي عُمم على الدول الأعضاء، ولم تعنى بالرد إلا تسع دول، حيث تباينت فيه المواقف تباينا كاملا، فهناك دول أيدته بتحفظ، وهناك دول رفضته شكلا ومضمونا، وطالب فريق ثالث بإجراء بعض التعديلات عليه.
وما يهم في هذا المقام هو ما ورد في المذكرة التفسيرية بخصوص الأدوات التي تم تفعيلها لصياغة نصوص هذا المشروع، حيث برز التساؤل فيها عما إذا كان ميثاق حقوق الإنسان العربي مجرد تأكيد للإعلان العالمي، وإعلان من الوطن العربي تأييده للتراث الغربي الذي جاء الإعلان العالمي معبرا عنه أم لا.
وبذلك فإن المحورين الأساسيين اللذين يدور حولهما الجدل هما: محورا الخصوصية والعالمية، فهناك أقطار عربية تؤكد على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي وحدها التي يجب الأخذ بها دون غيرها في تحديد حقوق الإنسان، وهناك كتابات لبعض رجال القانون تؤكد على أنه ليس صحيحا اعتماد تاريخ حقوق الإنسان في الغرب، وإن كانوا هم السباقين في الواقع المعاصر له، وهناك من نادى بضرورة تفعيل الشمولية في الرؤية، فأوجب  أن يكون تناول حقوق الإنسان واقعيا وعالميا في اعتباره تصور الحضارات الأخرى لتلك الحقوق من الناحيتين الفلسفية والتاريخية.
ولئن كان مشروع الخبراء العرب قد عيب عليه أنه انطلق مما أقره الإعلان العالمي من ثوابت، وأنه لم يراعي الخصوصية في رؤيته، فإن الأنظمة الشمولية قد تمثله موقفها فيمن يرفض رفضا مطلقا عالمية حقوق الإنسان، داعيا للأخذ بوجهة نظر إسلامية بحتة أو قومية بحتة في ذلك، وعند الطرف الآخر المقابل هناك من يدعو إلى أن تساند الحضارات كلها في هذا الشأن، وهو ما يعني المناداة بضرورة الجمع بين العالمية والخصوصية، وهذا ما يعني الشمولية والاستيعابية. [1]
ولئن كانت هناك ثمة أنظمة شمولية تجمع بين الإقرار ببعض مبادئ حقوق الإنسان العالمية؛ وذلك نظرا لكونها تتجاوز الخصوصية الحضارية باعتبارها تعبر عن معان وقيم إنسانية مشتركة سماوية كانت أم وضعية، فإن شمولية هذه الأنظمة تتقرر في أنظمة بعض الدول التي تضع اعتبارا في بعض أنظمتها للشريعة الإسلامية، وذلك كتقسيم الميراث، هذا بالإضافة إلى إقرارها لبعض الأنظمة التي تتعارض مع الدين، وتتفق مع ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي يعبر عن ليبرالية بحتة، ومن ذلك حرية الشخص في تغيير دينه ومعتقده.

·                  الأنظمة الليبرالية: وهي الأنظمة التي تنطلق دون وضع اعتبار للتراث الديني، فهي علمانية المنشأ عقلانية المبدأ، وهذه الأنظمة معمول بها في دول الاتحاد الأوربي، وهي بذلك تعبر عن مواثيق تقر حق التفكير والاعتقاد والتعبير والاجتماع  والعمل والتنقّل والعبادة والتملّك، وهذه الحقوق تنطلق من سيادة الإنسان بما يمليه عليه عقله وضميره ولا شيء غير ذلك، وإن اتفقت  في بعض المبادئ مع هذا النظام أو ذاك، وذلك بالمناداة بحقوق للإنسان مستمدة من طبيعته كإنسان لا سلطان عليه لملك أو رجل دين أو إله، حتى أن برتراند رسل – الفيلسوف الشهيـر – عرّف الحرية بأنها غياب الحواجز أمام تحقيق الرغبات.[2]
إن النتيجة التي توصل إليها الغرب في ثقافتهم وفهمهم لحقوق الإنسان تنطلق من أن المحدد الأساسي بل والوحيد للحريات والحقوق لا هو الله ولا الطبيعة الإنسانية ولا الحق الأزلي – كما ذكر انغلز -، إنما هو إله آخر يسمى موازين القوى ... القوة والسيطرة والثروة ... ذلك معبود الغرب ومصدر قيمه، والتي منها حقوق الإنسان.
إن تقرير كرامة الإنسان في هذه الأنظمة لا تنطلق من الاقتصار على إنسانيته فحسب، وإنما تكريمه في انتمائه لنسق تاريخي واجتماعي وثقافي معيّن اسمه ( الوطن ) أو  ( الطبقة ) أو  ( الجنس الأوربي ). وبذلك فإنه لا يبقى من أساس قيمي يمكن أن تستند إليه مواثيق الحقوق والحريات في الغرب غير جملة من الملابسات والأنسجة التاريخية والاجتماعية والثقافية والمصالح الغربية، حيث لا إله غير المادة، ولا سلطان لغير القوة.

·                  النظام الإسلامي: كما ذكرت من قبل، فإن السيادة في تنظيم حياة الإنسان وفق النظام والمنظور الإسلامي تنطلق من سيادة الله على الإنسان، وذلك باعتباره الأعلم بمصلحته وما ينفعه، وليس بسيادة الإنسان على أخيه الإنسان. وبذلك فإن حقوق الإنسان تعد ربانية المصدر؛ ذلك أن الله هو خالق الكون ومالكه، وهو الأعلم بما ينفع مخلوقاته، فهو المشرّع الأعلى والآمر.
وبذلك فإن الحرية كأبرز حقوق الإنسان تعتبر في التصور الإسلامي أمانة، وذلك يعني أنها مسؤولية ووعي بالحق، والتزام به، وفناء فيه، وبذلك فإن الحرية تكون كدح ونضال في طريق عبودية الله وليسـت انطلاقـا حيوانيا، وأن التكليف الذي جاء عن الله هو أساس هذه الحرية وضابطها.
وإذا كانت حقوق الإنسان تستند في الغرب – في الظاهر على الأقل – إلى شخصية الإنسان الفرد، حيث ارتبطت في نشأتها بالصراع ضد الكنيسة وحكم الملوك الإطلاقي من أجل تقييد سلطاتهما أو انتزاعا جملة وردها إلى الشعب مصدرا وحيدا لها، فإن الأمر يتقرر في النظام الإسلامي وفق ما يقرره الدين ولا شيء غير ذلك.[3]
إن حقوق الإنسان تتصف بالإسلام بصفة الشمولية، حيث يعالج الإسلام كافة الظواهر بما فيها حقوق الإنسان من خلال تعاليمه السمحة، حيث وضع الإسلام قواعد ثابتة للتعالم بين جميع الناس ترتكز على مبدأ المساواة بين بني الإنسان، وذلك بصرف النظر عن أجناسهم وألسنهم وألوانهم.[4]

قراءة مقارنة للأنظمة حقوق الانسان

       إن الاختلاف بين ما تقرره الأنظمة الشمولية في جمعها بين أكثر من مصدر مما يتعارض مع منظومة وأخرى، وبين النظام الليبرالي الذي له منطلقاته كذلك، حيث السيادة للإنسان ممثلا بقوته، وبين النظام الإسلامي الذي ينطلق مع اعتبار أن صلاح حال الإنسان في علاقاته مع أخيه الإنسان لا بد وأن يقوم على ما شرع الله، لا شك أن الاختلاف واضح بين هذه الأنظمة سواء أكانت شمولية أو ليبرالية أو قائمة على النظام الإسلامي.
       إن الأنظمة الشمولية التي تجمع بين النظام الإسلامي وغيره من الأنظمة لا يمكن أن يتحقق لها الاستقرار – وفق ما أراه –؛ وذلك نظرا لكونها قد تتضارب فيها المسائل المقرّة نظرا لاختلاف مصادرها، وبذلك فإنه لا يمكن مسايرة المتغيرات العالمية إلا بالتجاوب معها انطلاقا من ملامح الخصوصية في مختلف أبعادها.
       وإذا كانت السيادة في الأنظمة الغربية تقوم على أساس اعتبار الدولة سلطة لا تعلوها سلطة أخرى، وأن صاحب السيادة هو من يتولى سلطة التشريع، وأن سلطتها مطلقة داخليا وخارجيا. فإن الأنظمة الغربية الليبرالية بذلك قد ولّدت عبقرية فيما أقرته للجهاز الديمقراطي، ولكن في المقابل ولدت خللا في منظومة فكره تتمثل في مضامينه الفلسفية والمادية، أي العلمانية بما هي إقصاء الله عن شؤون تنظيم المجتمع وتأليه الإنسان، الأمر الذي يعطي السلطة باعتبارها الناطقة باسم المصلحة والسيادة نفوذا غير محدود، قاد ويقود البشرية إلى مرحلة قد تصبح الحياة معها مستحيلة؛ ذلك أن عقل الإنسان بقصر نظره لا يجره دائما إلى رشده وصلاحه.
       أما نظرة النظام الإسلامي للإنسان فهي تقرر أنه مخلوق مستخلف عن الله في أرضه، قد وُهِب العقل والإرادة والحرية والمسؤولية من أجل عمارتها وتسخيرها لإقامة العدل والخير والحرية والمساوة، وقد جاء المشروع الإلهي في الارتقاء المادي والروحي لحياة الإنسان حتى يتأهّل للصداقة المطلقة، والخلود والرضوان.
       وبذلك فإن البشرية كلها في هذا التصوّر مستخلفة عن الله؛ لذلك ينبغي أن تكون هي صاحبة السيادة نيابة عن الله، وذلك وفق ما شرع الله من تنظيم لمختلف محاور العلاقة بينها أفرادها.[5]
       إن للغرب تجربته التي يعيشها الآن في واقعه، والتي لها إيجابياتها ولها سلبياتها، وإن تأتى اعتراض على مصدرها ومرتكزها، إلا أن هذه الإنجازات التي تتحقق على أرضهم قد جاءت متأخرة جدا عن ميقاتها.
 ثم إنه بالعودة إلى فجر الدولة الإسلامية التي أرسى دعائمها رسول الأمة ( صلى الله عليه وسلم )، فإننا نجد تنظيرا وتفعيلا عظيما لحقوق الإنسان برؤية ربانية إسلامية قادرة على التعامل والاستجابة مع كافة الاحتياجات ومتطلبات الجنس البشري، وذلك عندما ينحو هذا الجنس منحى العقل والمنطق، وعندما يلتمس بإخلاص سبل الحق والرشاد؛ ليؤول مصيره إلى الحرية والعدل والرخاء والسعادة.[6]
       ومما لا شك فيه بناء على ما سبق، وقبل معرفة ما سبق أن أفضل الأنظمة عقلا ومنطقا ذلك النظام الذي يضعه الخالق لمخلوقاته، فهو القادر على إدراك أسرار ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وثوابت ذلك تتقررفي حقوق الإنسان وفي غيرها أمور ثبتت عقلا ومنطقا بعين اليقين ولا مراء في ذلك، فلا الأنظمة الشمولية التي قد يتولد عنها التضارب وتشتت الرؤية تنفع، ولا الأنظمة الليبرالية المتمردة على خالقها تصلح، وثوابت ذلك ومقرِراته واضحة لمن أعمل العقل والمنطق في نظرته للأمور والمتغيرات والمستجدات، وذلك وفق منظور النفع والمصلحة لإنسانية الإنسان.   




[1] ورقة لمحمد عصفور، ميثاق حقوق الإنسان العربي ... ضرورة قومية ومصيرية، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، ط: 1، أكتوبر، 1983، سلسلة كتب المستقبل العربي ( 4 )، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – لبنان، ص 220.
[2] الغنوشي – راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مرجع سبق ذكره، ص 32.
[3] الغنوشي – راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مرجع سبق ذكره، ص 34.
[4] نواهضة – إسماعيل أمين الحاج حمد، الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان، من أبحاث المؤتمر العام الخامس عشر للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 8 – 11 ربيع الأول 1424 – 9 – 12 مايو 2003، وزارة الأوقاف، القاهرة - مصر، ص 745.
[5] الغنوشي – راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مرجع سبق ذكره، ص 321.
[6] المرزوقي – إبراهيم عبد الله، حقوق الإنسان في الإسلام، مرجع سبق ذكره، ص 489.

Previous Post Next Post