الحضارة الإسلامية

         لقد أخذ المسلمون من الحضارات السابقة ، ولم ينقلوها كما هي ، بل إن ما ورَثه المسلمون إلى أوربا يختلف كثيراً عما وَرِثوه من سابقيهم ، و العلوم هي أجل خدمة أسدلتها الحضارة الإسلامية إلى العالم الحديث ، فالإغريق(اليونان) اقتبسوا ونظموا وعمموا ووضعوا النظريات ، ولكن روح البحث والتدقيق والتحقق للوصول إلى المعرفة اليقينية ، وطرائق العلم الدقيقة والملاحظة الدائبة كانت غريبة في المزاج الإغريقي ، والمسلمون هم أصحاب الفضل ـ بعد الله _ في تعريف أوربة بهذا كله ، فالعلم الأوربي مدين بوجوده للمسلمين .

         فللحضارة الإسلامية الدور الكبير في المحافظة على التراث القديم ، والتراث اليوناني أيضاًً ، لأن الأوربيون  كانوا العديد من مؤلفات اليونان التي اعتمدت على التراث العربي القديم .

         تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) : "إن ما قام به العرب المسلمون لهو عمل إنقاذي ، له مغزاه الكبير في تاريخ العالم ".

         لقد طور المسلمون بتجاربهم وأبحاثهم العلمية ، ما أخذوه من مادة خام عن الإغريق ، وشكلوه تشكيلاً جديداً ، فالمسلمون في الواقع ، هم الذين ابتدعوا طريق البحث العلمي الحق القائم على التجربة .

          إن المسلمين لم ينقذوا الحضارة الإغريقية من الزوال فحسب ، بل ونظموها ورتبوها ثم أهدوها إلى الغرب ، إنهم مؤسسو الطرق التجريبية في الكيمياء والطبيعة والحساب والجبر والجيولوجيا وحساب المثلثات وعلم الإجماع ، وبالإضافة إلى عدد لا يحصى من الاكتشافات والاختراعات الفردية في مختلف فروع العلوم والتي سرق أغلبها ونسب لآخرين ، لقد قدم المسلمون أثمن هدية ، وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب طريقة لمعرفة أسرار الطبيعة وتسلطه عليها اليوم[1] .

           لقد جاء دور العرب المسلمين في بناء الحضارة الإنسانية منذ نزل الوحي الأمين بـ "اقرأ " على قلب محمد بن عبد الله r ، فنقلوا ، وترجموا ، وصححوا ، ودرسوا ، ثم  أضافوا فأبدعوا .



التقدم العلمي وسيلة لاغاية عند المسلمين


 ولا مانع أن نلقي الضوء على الدافع لعلماء الإسلام للتعمق في سائر العلوم الإنسانية والعلمية .

فلقد كان للمسلمين في تاريخ العلوم مجد متألق لايخبوا ، فقد عكفوا على العلوم منذ شرح الله صدورهم للإسلام، ووجدوا في طلب العلم عبادة وإستجابة لدعوة دينهم ، فأقبلوا على مناهج العلم ، ووجدوا  التشجيع للعلم والعلماء والأدباء .

ولم يأنف المسلمون أن يتلقوا العلوم أحياناً على غير المسلمين من نصارى ويهود .

        كما لم يأنف المسلمون من التتلمذ على بعض الموالي من غير العرب ، مثل" الحسن البصري" ،و "سعيد إبن جبير" ، و" إبن سيرين" ، و" عطاء إبن يسار" .

نعم إن علماء الإسلام في القديم إستطاعوا أن يعبوا من أحواض العلم بسائر فنونه وآلاته ، وتكونت عندهم عقليات قل أن يجود الزمان بمثلها .

        وبهذه العقليات العظيمة إستطاع المسلمون أن يشرّقوا وأن يغرّبوا في أنحاء المعمورة ينشرون العقيدة الإسلامية والعلوم بسائر فنونها روحية ومادية .

        وكان هدف المسلمين من التعمق بتلك العلوم المادية مجرد الاستعانة بها لنشر الإسلام والعدل والسلام، وإحلال الأمن والاطمئنان في ربوع العالم . وقد تحقق لهم ذلك وانتشرت الحركة العلمية في كل مكان من بلاد المسلمين وقد اعتنى الخلفاء في تأسيس المكتبات ،  نظراً لأنها التي تثري الحركة العلمية  ، فقد اقبل الناس على اقتناء الكتب لازدهار حضارة الورق في سمر قند ، وبغداد ، ودمشق ، والقاهرة ..[2]

            وكانت المكتبات على ثلاثة أنواع  : مكتبات عامة ملحقة بالمساجد والمدارس ، منها مكتبة البصرة التي كانت فهارسها عشرة مجلدات ، وكان في بغداد ست وثلاثون مكتبة عامة ، ومكتبات خاصة وهي مكتبات شخصية في البيوت ، ومكتبات عامة – خاصة اقتصر استخدامها على طبقة من الطلبة والعلماء والباحثين ، فيها كتب قيمة نادرة  ، لاقدرة للأشخاص العاديين على اقتنائها ، مثل مكتبة" بيت الحكمة"التي أنشأها "هارون الرشيد" وازدهر في عصر المأمون حيث نشطت الترجمة لنقل العلوم المختلفة وكان بها كتب بلغات مختلفة ، وتعتبر "بيت الحكمة" أول مكتبة عامة ذات فضل في العالم الإسلامي ، وكانت مركزاً علمياً شمل جميع العلوم ، وكان عصر المأمون هو العصر الذهبي لها . وقد أهملها المعتصم من بعده ، وكان لها مدير عام ، وفيها قاعات ترجمة ، وقاعات نُسَاخ ، وعمال تجليد ، و" دار الحكمة " في القاهرة ، أنشئت عام 383 هـ[3]ـ زمن الخليفة الحاكم بأمر الله ، ويسميها ابن خلدون " دار المعرفة " ، أو " دار العلم " ، وتسمى أيضاً "خزانة سابور"  ، وكان فيها مائة ألف مجلد ، مع ستمائة مخطوطة في الفلك والرياضيات ، وزودت بكرتين سماويتين ، أولهما من صنع بطليموس ، والثانية من عمل عبد الرحمن الصوفي ، لشرح علم الفلك للطلبة ، وكان لهذه الدار أوقاف للأنفاق عليها ، و " مكتبة العزيز " في القاهرة ، أقامها العزيز بالله ، وكان فيها مليون وستمائة ألف مجلد ، مع ستة آلاف مجلد في الرياضيات ، وعشرة آلف مجلد في الفلسفة ، و" مكتبة قرطبة " وهي من عهد الحكم المنتصر في القرن الرابع الهجري ، وكان فيها أربعمائة ألف مجلد ، وكانت فهارسها أربعة وأربعين سجلاً ، ووجه الحكم إلى التخصص في إقتناء كتب العلوم والطب .

          و مكتبة " ابن سوار" بالبصرة  التي أنشئت في عهد "عضد الدوله" وكان التدريس عنصراً هاماً بها بجوار الكتب  و مكتبة " مسجد الزيدي "  التي أنشئت في القرن السادس الهجري [4] ، " ومكتبة سيف الدولة" وكان فيها عشرة آلاف مجلد ، و" الخزائن النووية " بدمشق ، ومكتبة " أبي الفداء " بحماة وكان فيها سبعون ألف مجلد ، وغيرها من المكتبات الكثيرة في سائر أنحاء البلاد الإسلامية .


رعاية الهيئات والمعاهد العلمية

       

          في تاريخ الحركة العلمية يشار إلى الذين قادوا الحركة العلمية في العصور المزدهرة وهم : "المأمون" ، "نظام الملك" ، "نور الدين زنكي" ، "صلاح الدين الأيوبي" وكذلك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب .

        أما "المأمون" فقد اهتم ببيت الحكمة ورعاها ، وهناك من يقول أنه السبب الرئيسي بعد الله في تلك النهضة العلمية .

         و"نظام الملك" الذي أسس "المدرسة النظامية" والتي تعتبر أول جامعة علمية بالمعنى الحديث ،  و"نور الدين زنكي" الذي وقف على "المدارس النورية" أوقافاً تنفق على الطلبة والمعلمين ، وقد حافظ "صلاح الدين" على هذه الأوقاف وزادها ، إذ كان ثلث الخراج يذهب للتعليم  .

          و" عيسى ابن الملك العادل" الذي اهتم بالعلم وكان يعطف على العلماء والأدباء ويوليهم الوزارة تكريماً للعلم ومنهم رضوان بن محمد الساعاتي الذي صنف كتابه المسمى " علم الساعات والعمل بها "، وهو الذي عمل الساعات ( الساعة ) التي عند باب الجامع الأموي الشرقي بدمشق.  

الحياة الفكرية للمسلمين[5]

           ماأن استقر الإسلام في البلدان التي حررت ، حتى بدأت الحركة الفكرية تنمو وتزدهر ، حتى وصلت إلى اوج عطائها زمن العباسيين ، والعامل الأول في إزدهار الحياة الفكرية في الحضارة الإسلامية ، تأكيد الإسلام على أهمية العلم منذ نزلت أول كلمة على قلب رسول الله r في غار حراء ، والتي كانت  )اقرأ([6] ، ورفع جل شأنه من مكانة العلم عندما أقسم بالعلم : )ن ، والقلم ومايسطرون([7] .

والآيات الكريمة التي تحض على اعمال العقل الكثيرة ، حثت على توضيف الفكر واستخدامه من اجل الحصول على المعرفة في الكون والحياة : ) قل سيروا في الأرض فأنظروا كيفبدأ الخلق ، ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ، إن الله على كل شيء قدير([8] ،  ) قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، إنما يتذكر أولو الألباب([9] ، ) إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهارلآيات لأولي الألباب([10] .

قال r : " طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة "[11] ، وجعل مداد العلماء أثقل في الميزان من دم الشهداء ، كما جعل r فك أسار المتعلمين من أسرى قريش في بدر ، تعليم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة .

 ومن عوامل إزدهار الحياة الفكرية في الحضارة الإسلامية :

1- التعريب الذي بدأ زمن عبد الملك بن مروان .

2- واطلاع المسلمين على حضارات البلاد التي فتحت .

فأزدهرت حركة الترجمة ونقل المعارف ، لينتقلوا بعدها إلى الإبداع ، ومن النقل إلى الاصطفاء والنقد ، مع طرح البدائل المشفوعة بالحجج والبراهين ، فبعد اطلاعهم على الفلسفات اليونانية والهندية والفارسية ، جابهوا خصومهم بالمنطق وقارعوهم بالحجة ، مما أدى إلى ظهور أساتذة العصور الوسطى : الغزالي ، ابن الرشيد ، ابن خلدون ، ابن طفيل ، ابن الهيثم ...

ويجمل الدكتور عمر فروخ " بواعث النقل في الإسلام " بما يلي [12] :

كانت البواعث على نقل كتب العلوم والفلسفة إلى اللغة جمة :

(أ‌)    احتكاك العرب بغيرهم من الأمم اطلع العرب على ثقافات جديدة ، فأحب العرب أن يوسعوا بهذه الثقافات آفاقهم الفكرية ، ولعل ذلك كان في – أول الأمر – عاملاً من التقليد المحض .

(ب‌) حاجة العرب إلى علوم ليست عندهم مما كانوا يحتاجون إليه في الطب ، وفي معرفة الحساب والتوقيت لضبط أوقات الصلوات وتعيين بدء اشهر الصوم والحج وأول السنة .

(ت‌) القرآن الكريم وحثه على التفكير وطلب العلم .

(ث‌) العلم من توابع الحضارة : حينما تزدهر البلاد سياسياً واقتصادياً ويكثر فيها الترف ، ويتبحر العمران ، تتجه النفوس إلى الحياة الفكرية والتوسع في طلب العلم .

(ج‌) رعاية الخلفاء والنقلة ، فقد كان الخلفاء يدفعون للناقل ثقل الكتاب المنقول ذهباً . ثم أن المأمون ( ت 218 هـ ) انشأ ( بيت الحكمة ) ، وجمع فيها الناقلين ، فأصبح نقل الكتب الفلسفية جزءاً من سياسة الدولة ، وكان ثمة أسر وجيهة غنية محبة للعلم تبذل الأموال في سبيل الحصول على الكتب وفي سبيل نقلها ، فإن آل منجم كانوا ينفقون خمسمائة دينار في الشهر على نقل الكتب .

(ح‌) وزعم بعضهم أن حب السريان لثقافتهم وحرصهم على نشرها حملهم على نقل الكتب الفلسفية إلى اللغة العربية ، ولا وجه لهذا الزعم ، لأن الكتب المنقولة لم تكن سريانية مسيحية ، بل وثنية يونانية أو هندية ، ثم إن هؤلاء النقلة السريان لم ينقلوا هذه الكتب تطوعاً وابتداء من عند أنفسهم ، ولاهم نقلوا الكتب التي احبوا نقلها ، بل كانوا ينقلون ما يطلب منهم نقله بأجر .


حركة التعريب والترجمة والتأليف

 التعريب : هو نقل الكتب والنصوص من لغة أجنبية إلى اللغة العربية .

والترجمة : هي نقل الكتب وترجمتها من لغة إلى لغة أخرى .

           في العصر الأموي : كان خلد بن يزيد بن معاوية أول من بدأ حركة التعريب في العصر الأموي ، وهذا يعني أن حركة التعريب بدأت منذ منتصف القرن الأول الهجري ، لأن خالداً المتوفى سنة 85 هـ /704 م . لما يئس من الفوز بالخلافة انقلب إلى العلم ، ودرس الكيمياء- أو علم الصنعة – على يد مريانوس الإسكندراني ، ثم أمر بنقل كتب الكيمياء إلى العربية . وفي عهد عبد الملك ، ترجم أول كتاب في الطب ، وهو" الموسوعة الطبية " لمؤلفها أهرون بن عبة الإسكندراني .

          في العصر العباسي : قبل عصر المأمون – من قيام الدولة العباسية 132 هـ ، إلى بدء خلافة المأمون 198 هـ - " كان أول نقل في الدولة العباسية قام به عبد الله بن المقفع ( ت 142 هـ /759م)، فقد نقل عدداً من كتب السلوك إلى اللغة العربية ووضع كتاب "كليلة ودمنة" بالإستناد إلى قصص فارسية وهندية ، ومنذ عهد ابي جعفر المنصور ( ت 158 هـ /775م) اصبح النقل في رعاية الدولة"[13].

وفي زمن هارون الرشيد اصبح التعريب عملاً منظماً ، وممن قام به ، يوحنا بن ماسويه ، وسلم امين مكتبة بيت الحكمة ، والحجاج بن مطر .

         وفي عصر المأمون : " عصر الإزدهار العلمي " : اصبحت بغداد اعظم منارة للعلم والمعرفة في العصور الوسطى ، وكان التعريب من كل اللغات ، وقدم لكل مترجم قبالة كل كتاب عربه زنته ذهباً . ولما انتصر المأمون على تيوفيل ملك الروم في عام 215 هـ /830م ، علم بأن اليونان كانوا قد جمعوا كتب الفلسفة من المكتبات وألقو بها في السراديب عندما انتشرت النصرانية في بلادهم ، فطلب المأمون من تيوفيل أن يعطية هذة الكتب مكان الغرامة التي كان قد فرضها عليه ، فقبل تيوفيل بذلك ، وعده كسباً كبيراً له ، أما المأمون فعد ذلك نعمة عظيمة عليه .

       ومن المترجمين في هذة الفترة : شيخ المترجمين حنين بن اسحاق ، وثابت بن قرة ، والحجاج بن مطر .

 وكان المنهج العلمي المتبع في الترجمة والتعريب الآتي: العودة إلى عدة نسخ من الكتاب المراد تعريبه ، ثم انتقاء افضل نسخة موثقة لإعتمادها ، ومراجعة الترجمات السابقة للكتاب إن وجدت للإستفادة منها ، والاطلاع على أخطائها وتداركها ، ثم تقسيم العمل بين عدة أشخاص ، وإلى عدة مراحل ، فواحد يترجم من اليونانية إلى السريانية ، وآخر يترجم من السريانية إلى العربية ، وثالث يراجع النصوص وينقح ويدقق .

وكان للنقل طريقتان : لفظية ، انتهجها يوحنا بن البطريق وعبد المسيح بن الناعمة الحمصي ، وكانت الترجمة فيها حرفية ، ومعنوية ، انتهجها حنين بن اسحاق ، وكانت تعطي المعنى واضحاً ، دون التقيد باللفظ .

ونتج عن حركة النقل والتعريب هذه ، اتساع الثقافة العربية بما دخل عليها من ثقافات الأمم ومناحي تفكيرها ، واطلاع العرب على علوم كانوا في حاجة إليها كالرياضيات والطب ، وأتاحت فرصة باكرة للعرب المسلمين مكنتهم من أن يؤدوا رسالتهم في تقدم الثقافة الإنسانية ، فارتقت الحضارة العربية الإسلامية في الحياة العملية العامة في البناء وأسباب العيش وفي الزراعة والصناعة والتطبيب ...

واغتنت اللغة العربية بالمصطلحات العلمية والتعابير الفلسفية[14] .


الحق ما شهد به عدوك:


        ولو ألقينا نظرة سريعة على تاريخ علماءنا الأفاضل من المسلمين القدامى والمعاصرين لتبين لنا صحة وحقيقة تفوق العقل المسلم ، وبالذات في المجالات العلمية ، وقد شهد للمسلمين بهذا التفوق بعض الرجال المنصفين من علماء الغرب .

        فهذا المفكر "دراير" من علماء الغرب يتكلم عن حضارة المسلمين إلى أن يقول : [ فمثلاً أبوجعفر المنصور أول من بدأ بنشر العلوم الفلكية وتأسيس مدارس الطب والشريعة ، وفي عهد المأمون الذي أولى العلماء جل اهتمامه ، وبسبب هذا التشجيع قدر للمسلمين أن يضعوا قواعد علم الكيمياء واكتشفوا عدة أجهزة للتقطير والتصعيد والإسالة ـ إسالة الجوامد ـ والتعبئة مما دعاهم إلى اختراع الآلات المدرجة وآلات القياس لأبعاد الكواكب واخترعوا الميزان في العلوم الكيماوية ، مما حقق لهم القدرة على الهندسة وحساب المثلثات وهو الذي أدى إلى اكتشاف علم الجبر ودعاهم لاستعمال الأرقام الهندسية].

       ويقول البروفسور "أنيس بركه" بالجامعة الأمريكية في بيروت في مقال نشره في مجلة الطب العربية : " إننا ينبغي أن نذكر العالم أنه قبل 600 سنة مضت ، كانت لمدرسة الطب في باريس أصغر مكتبة في العالم وكانت لا تحتوي إلا على كتاب دراسي واحد هو كتاب " الحاوي " الذي ألفه الطبيب العربي أبو بكر زكريا الرازي عام 925م وحوى هذا الكتاب المعلومات الطبيه المعروفة منذ عهد الإغريق ، وبقي المرجع الرئيسي في الطب  لأوربا أكثر من 400 سنة " .

        ويقول "جوستاف لوبون" عن العالم الغربي في ذلك ما يأتي : [ وكذلك تم للمسلمين اختراع البارود ذي القوة الدافعة وبإختصار فهم الذين اخترعوا الأسلحة النارية] ، ويقول كذلك جوستاف :[ يعجب الإنسان بالهمة التي أقدم بها المسلمون على البحث ، فإذا كانت هنالك أمم قد تساوت هي والمسلمون في ذلك فإنك لاتجد أمة فاقتهم ، فقد كانوا إذا مااستولوا على مدينة صرفوا همهم إلى إنشاء مسجد وإقامة مدرسة فيه ، فإذا كانت المدينة كبيرة أسسوا فيها مدارس كثيرة ومنها ما اشتملت عليه المدن الكبرى في بغداد والقاهرة وطليطلة وقرطبة فقد اشتملت على الجامعات والمختبرات والمراصد والمكتبات وكل مايساعد على البحث العلمي . فكان للمسلمين في أسبانيا وحدها مايقارب من سبعين مكتبة عامة .


        وكان في مكتبة الخليفة الحكم الثاني ستمائة ألف كتاب ، منها أربعة وأربعون مجلداً للفهارس ، على حين أن ملك فرنسا شارل الحكيم لم يستطع بعد ذلك بأربعمائة سنة أن يجمع في مكتبة فرنسا الملكية أكثر من نسخ مائة مجلد يكاد ثلثها يختص في علم اللاهوت] .

ويقول كذلك "شارلزسنجر" :[ إن طالب العلم الأوربي الشغوف بالعلم آنذاك الذي لاترضيه الدراسة في باريـس وأكسفورد والـذي كانت تأخذ بلبه الأخبار المتناقلة عن عجائـب العلم والحكـمة العربية إنما كان يذهـب للدراسة في طليطلة أو قرطبة][15].

        يقول فيليب حتِي : ( وقاموا ـ يقصد العرب المسلمون ـ مقام الوسيط ، في أن نقلوا إلى أوربة خلال العصور الوسطى كثيراً من هذة المؤثرات الفكرية ، التي انتجت بالتالي يقظة أوربة الغربية ، ومهدت لها سبيل نهضتها الحديثة ).

        أخيراً نحن لا نشك من تقدم علماءنا على ما سنقوم بضرب الأمثلة وذلك حينما أوردنا شهادة هؤلاء الغربيين إنما تصديقاً للمثل القائل [ والحق ما شهدت به الأعداء] .



عملية تصنيع التقطير والبترول واكتشاف الأحماض:


        ذكر الكاتب " علي الشوك " عن كتاب التكنولوجيا الإسلامية الصادر باللغة الإنجليزية عن منظمة اليونسكو ما يأتي : -

        ويعتبر التقطير من أهم إنجازات العرب في تكنولوجيا الكيمياء واستعملوه في تحضير المستحضرات الطبية والمنتجات الصناعية في أيام السلم والحرب ، ومن العالم الإسلامي انتقلت هذه التقنية إلى الغرب وينعكس هذا في أسماء أجهزة التقطير التي استعارتها اللغات الأوروبية .

        ومن قراءتنا الكتاب سنعلم أن العرب في أسبانيا صنعوا الساعات التي تعمل وفق نظام الثقل بميزان (شاكوش) زئبقي قبل ظهورها في أوروبا الشمالية بمائتين وخمسين عاماً .

           وفي حدود "1277م " انتقل سر صناعة الزجاج السوري إلى البندقية ضمن بنود معاهدة بين أمير انطاكية ودوق البندقية ، وانتقل من القوس القوطي "المستدق الرأس" ، والذي يعتبر من أبرز ملامح العمارة القوطية ، إلى أوروبا من العالم الإسلامي عن طريق مدينة أمالفي الإيطالية التي كانت لها صلات تجارية مع مصر  في القرنين الرابع والخامس الهجريين (10 - 11 م) ، وكانت أول كنيسة استخدم في بناءها مثل هذه الأقواس في مونته كاسينتو في 1071 م .

البــتــرول


يجهل معظم الناس أن البترول كان مادة لها أهميتها عند المسلمين ، فقد كان النفط الخام ينتج ويكرر بكميات لابأس بها ، ويستعمل في الحرب والسلم .

         وكان العرب يسمون النفط الخام "نفطاً أسوداً " والمكرر "نفطاً أبيضاً " حتى لو كان بعض أصناف النفط الخام أبيض ، ولدينا وصف جيد من المصادر العربية لعملية التكرير ، كما في "كتاب سر الأسرار" للرازي (القرن التاسع الميلادي) ، جاء فيه أن النفط الأسود كان يمزج أولاً بالطين الأبيض أو ملح النشادر في "عجينة أشبه بالصابون الكثيف" ثم يقطر ، وكان الرازي يستعمل هذه المادة النفطية لتخفيف بعض المواد الصُلبة ببعض أصناف الأحجار الكريمة ، أو الجمادات الأخرى ، وفي أعماله الكيميائية والطبية استعمل الرازي (النفَاطة) لتسخين المواد الكيماوية على نار هادئة ، وكان يستعمل الوقود لها إما من الزيوت النباتية أو البترول .

        واستعمل المسلمون حقول باكو النفطية لأغراض تجارية ، ويؤثَر أن الخليفة المعتضد وقف إيرادات عيون النفط في باكو في 275 هـ (885 م) لأهالي دربند . وتحدث المسعودي بعد زيارة باكو في 915 م "عن المراكب التي تنقل البضائع إلى باكا (باكو) موطن النفط الأبيض والأصناف الأخرى ، وليس يوجد في العالم ـ والله أعلم ـ نفط أبيض الا في هذه البقعة" ، ثم حفرت آبار في باكو في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) للوصول إلى مصدر النفط ، وفي تلك الأيام تحدث ماركو بولو عن "المائة سفينة التي تبحر منها في الوقت الواحد" وكتب عن نفط باكو : "هذا النفط ليس صالحاً للطعام ، لكنه يصلح وقوداً ، كما يستعمل لدهن الجمال التي تصاب بالجرب . ويأتي الناس من أماكن بعيدة للحصول عليه لأنهم لايجدونه في مناطق أخرى" .

            وتذكر المصادر العربية مصدراً آخر لإنتاج النفط الخام هو العراق ، حيث كان النفط يتسرب إلى الجهة الشرقية من دجلة على طول الطريق إلى الموصل ، وقيل إن النفط كان ينتج على نطاق واسع (في قياس تلك الأيام) ويُصدَّر .

          وتتحدث المراجع العربية عن مصادر أخرى ، في سيناء (مصر) وخوزستان (إيران) .

الحــوامـض:


        كان لاكتشاف الأحماض اللاعضوية أهمية كبيرة في تاريخ الكيمياء والتكنولوجيا الكيميائية ، ويمكن الحصول على الحوامض من تقطير الشب ، وملح النشادر (كلوريد الأمونيا) ، والملح الصخري (نترات البوتاسيوم) ، وملـح الطعـام بنسب مختلفة ، وكذلك المزاج الـذي أصبح فيما بعد مرادفاً لحامض الكبريتيك .

حامض النتريك : يقدم مؤرخ علم الكيمياء ي.ج . هولميارد وصفاً لتحضير حامض النتريك ورد في مخطوطة جابر بن حيان (صندوق الحكمة) : "خذ خمسة مقادير من النتر (نترات الصـوديوم أو البوتاسـيوم) ، وثلاثـة مقـاديـر مـن الزاج القبرصي ، ومقدارين من الشب اليماني ، اطحنها جيداً ، على انفراد ، إلى أن يصبح المسحوق كالغبار ، وضعه في دورق ، ثم غطّ الدورق بليفة نخل وضع فوقه إناء زجاجياً ، واقلب الجهاز وسخن الجزء الأعلى (أي الدورق الذي يحتوي على الخليط) على نار هادئة . عندذاك سيتقطر ، بفعل الحرارة زيت أشبه بزبدة البقر" .

        وهناك تعليمات مماثلة في نص لاتيني بعنوان Summa Perfections بقلم جابر Geber نفسه.

        حامض الكبريتيك : واستخدم جابر بن حيان حامض الكبريتيك أيضاً ، وهذا الحامض يستحضر من تقطير الزاج أو الشب أو من إحراق الكبريت ، وسماه الرازي في إحدى وصفاته "ماء الشب المقطر" ، وحتى المسعودي ،  وهو جغرافي ومؤرخ وليس كيميائياً ، تحدث عن بعض التفاعلات الكيميائية ، كتفاعل ماء القالي مع الزاج أو ماء الزاج (حامض الكبريتيك) .

        حامض الهيدروكلوريك : كان هذا الحامض يعرف باسم "روح الملح" ، وقد أعطى الرازي وصفته على النحو الآتي : "خذ مقادير متساوية من الملح الحلو ، والملح المر ، وملح طبرزد ، والملح الهندي ، وملح القلي ، وملح الإردرار ، وبعد إضافة وزن مماثل من ملح النشادر المتبلور جيداً ، أذبه بالرطوبة ، وقطر (المزيج) . عند ذلك سيصبح السائل المستقطر ماء قوياً من شأنه أن يشق الصخر في الحال" .

        وهناك وصفات متنوعة في مخطوطات عربية أخرى عن تقطير ملح النشادر وملح الزاج .

        النطرون : النطرون هو كاربونات الصودا الخام ، كان يستخرج بصورته الطبيعية من الصحراء الغربية في مصر ، ويصدر على نطاق واسع ، ومن اللفظة العربية "نطرون" اشتقت كلمة Natron الأوروبية ، وجاء منها الرمز "Na" الذي أُعطي للصوديوم في الكيمياء .

        وفي القرن الرابع الهجري كان أبومنصور موفق أول من ميّز بين كربونات الصوديوم (الصودا) وكربونات البوتاسيوم (البوتاس) اللذين يبدوان متشابهين في نواح كثيرة .


 [1] انظر شمس العرب تسطع على الغرب"د.زيغريد هونكه"صفحة(400).

[2]  لمزيد من العلومات انظر " الحضارة العربية الإسلامية " ، شوقي أبو خليل ، صفحة (256) .

[3]  لمزيد من المعلومات: أنظر "المكتبات في الإسلام" محمد ماهر حماده ص 51 بتصرف.

[4]  لمزيد من المعلومات: أنظر "المكتبات في الإسلام" محمد ماهر حماده ص 51 بتصرف.

[5]   انظر الحضارة العربية الإسلامية "شوقي أبو خليل"صفحة(251).

[6]   سورة العلق ، الآية 1.

[7]  سورة القلم ، الآية 1.

[8]  سورة العنكبوت ، الآية 20

[9]  سورة الزمر ، الآية 9

[10]  آل عمران ، الآية 109

[11]  ابن ماجة ، صفحة 224.

[12]  تاريخ العلوم عند العرب ، دار العلم للملايين – بيروت ، صفحة (112)

[13]  تاريخ العلوم عند العرب ، د. عمر فروخ ، صفحة( 114) .

 [14] تاريخ العلوم عند العرب ، د. عمر فروخ ، صفحة (119) .

[15]  ينظر جريدة الحياة عدد /12391 الخميس رمضان21/9/1417هـ .


أحدث أقدم