الطب عند الإغريق الحضارة اليونان قديما
       تمتد الحضارة اليونانية من 800ق.م-200 ب.م تدرج فيها الطب الإغريقي من الأساطير والغيبيات إلى الملاحظة والتأويل المنطقي . وانتشرت معطياته لتشمل حوض المتوسط وتمتد شرقا إلى الهند كما غربا إلى أوروبا لتفرض ذاتها إلى يومنا هذا.
والمؤسف أن  أعمال  الأطباء  الإغريق قد فقدت بعد سقوط الحضارة الرومانية في القرن الخامس الميلادي ، ولعل  من المفارقات أن أوروبا لم تهتدي إلى ما تبقى من أعمالهم إلا عبر ما استقوه من نبع الحضارة العربية وما وجدوه في مكتبات الأندلسيين بعد غروب شمسهم عن الأندلس ، أو ما اطلعوا عليه من كتب عربية ترجمت تراث الإغريق مثل كتاب (شرح طب أبقراط) لابن النفيس الذي عرف الغرب أبقراط وتعاليمه من سطور الكتاب المذكور.وقد اطلعوا على هذه الكتب أثناء الحروب الصليبية وذلك في القرنين الرابع والخامس عشر الميلاديين.

إن من الثابت أن الكثير من العلماء اليونانيين كانوا يزورون مصر ويمضون بها أوقاتا ليست بالقليلة يجتمعون فيها مع علمائها يجمعون نتاجهم ويكتبوه ويضيفوا عليه دون ذكر المصدر الفعلي فيبدوا وكأنه صدر منهم وكأنهم أصل هذا العلم, ومن هذه العلوم الطب والصيدلة. أن هذا لا يقلل من شأن العلماء اليونانيين إذ أن إضافاتهم وتجاربهم كان لهم اثر كبير في تقدم العلوم جميعا.
يقول المؤرخون أن الأمراض لم تكن ذات خطورة عالية في مناطق الحضارة اليونانية وذلك للأسباب الآتية:
أن الشعب اليوناني بطبعه يحب الأجواء المفتوحة خارج المنازل فيتعرض للشمس والهواء بكثرة.
في أول عهدها لم تكن المدن اليونانية مزدحمة.

لقد اهتم اليونانيون بإنشاء مدارس لتدريس الطب والعلاج منها:
مدارس أثينا, وكوس وكيندوس.

مراحل الطب عند اليونان
لقد انقسم الطب في الحضارة اليونانية إلى ثلاث مراحل أساسية هي:
1- مرحلة الطب اللاهوتي.
2- مرحلة الطب الفلسفي.
3- مرحلة الطب التجريبي.


مرحلة الطب اللاهوتي:
في هذه المرحلة كانت الأمراض والعلاجات أمور غيبية, أي أن القوى العلوية هي التي تتحكم بجسم الإنسان, وظنوا أن الأمراض عبارة عن نوع من الأجسام السماوية يتساقط رمادها على الأرض فيعم البلاء والمرض لذا من المنطقي أن يقرن العلاج بقوى علوية أو آلهة, ومن الغريب أنهم كانوا يسمون هذه الآلهة بأسماء من بزغ اسمه من العلماء والأطباء ومن أشهر هذه الأسماء:
أبولون Apollon: قالوا أنه أول حكيم تكلم في الطب وأول من استنبط حروف اللغة الإغريقية, جاء بعد موسى عليه السلام.
هايجى Hygie: معبودة اليونان, إلهة الصحة وقيل عنها أنها ابنة إله الطب.
بلوتون Ploton: إله الموت والمرض.
كان العلاج في تلك الفترة بالدرجة الأولى نفسي, روحاني مع استخدام بعض الأدوية والعقاقير.
ومن أشهر أطباء هذه المرحلة اسكولابيوس.

مرحلة الطب الفلسفي:
حاول العلماء في هذه المرحلة فلسفة الأحداث وإيجاد علاقة بين الأحداث التي تحدث في مكان واحد أو في زمان واحد, ولما كان يصعب إثبات العلاقة فعليا كان لابد من محاولة إيجاد علاقة نظرية فلسفية. ومن النظريات التي اعتمدوها في هذه الفترة:
1- نظرية العناصر الأربعة: حيث قالوا أن جميع الموجودات تتكون من أربعة عناصر أساسية هي الماء والهواء والتراب والنار.

2- نظرية الأخلاط الأربعة: مفادها أن جميع أعضاء الجسم الذي له دم تتكون من الأخلاط الأربعة:
* الدم:         الذي يأتي من القلب.
* البلغم:       الذي يأتي من الدماغ ثم ينتشر في جميع أنحاء الجسم.
* الصفراء:   ويفرزها الكبد.
* السوداء:    وتأتي من الطحال والمعدة.

وقالوا إنه لاستقامة الجسم يجب أن يكون هناك توازن بين هذه العناصر والأخلاط, أما إذا اختل منها أي عنصر اختل الجسم وحدث المرض وبدءوا يبحثون عن مكونات هذه العناصر في الطبيعة من الأعشاب ومحاولة استخدامها في العلاج.

ومن أشهر أطباء هذه الفترة: أبقراط, أرسطو, نيوفراست وأفلاطون.

مرحلة الطب التجريبي:
أهمل الطب تقريبا بعد أبقراط حتى عهد الملك لاسكندر الأكبر الملقب بذي القرنين الذي حاول إعادة الحضارة لقوتها من جديد مع الاستفادة بالنظريات والفكر السابق, فكان في هذه الفترة مناقشة تجريبية للأحداث، فتم التخطيط لإنشاء مدينة الإسكندرية في سنة 333 ق. م كمدينة مثالية في ذلك الوقت فتهافت عليها العلماء من كل حدب وصوب، الشيء الذي أدي إلى توسع العلوم والفنون ومنها كان علم الطب والعلاج وأنشئ في الإسكندرية مدرسة للطب تخرج منها فيما بعد أشهر العلماء ومنهم جالينوس. 


وتتمثل الخطوة الحاسمة في حفظ التراث الإغريقي في أول طباعة له، وكان ذلك في ايطاليا بعد عام 1450 أي بعيد اختراع الطباعة حيث قام )الدو مانوزيز) بفهرسة وطباعة مؤلفات الإغريق بعد اختيار أفضل المخطوطات المتوفرة آنذاك.وتعد أولى المطبوعات عن أبقراط، ديوسكوريدس ،و مؤلفين آخرين التي دشنت مكانة الإغريق في تأريخ الحضارة الغربية.
وكما ذكرنا فقد بدأ الطب الإغريقي كغيره من حضارات الزمن القديم متأثراً بالغيبيات والأساطير ،وتضم الميثولوجيا  الإغريقية العديد من الأساطير التي تتحدث عن العلاج والتداوي ،منها قيام كائن القنطور الخرافي (خيرون-وهو كائن لا يفنى- باختراع دواء لعلاج جراح أصابه  بها هرقل، ثم قام بتعليم فن العلاج ذاك ل(اسكليبيوس) والذي أصبح منبعا للمعرفة الطبية الأسطورية لدى الإغريق. كما وتتحدث الأساطير عن (خيرون) الذي كان معلما للبطل الإغريقي (أخيل) الذي يعد ملما بالمعرفة الطبية.
ومن الأسماء الطبية اللامعة في تلك الحقبة التاريخية هو (اسكليبيوس) الذي يعتبر اله العلاج عند الإغريق ، بينما تتحدث الأساطير عن كونه شخصية تاريخية برع وولداه في العلاج وأصبح له تلامذة و مريدون نصبوه إلها عندما تكاثروا ونما عددهم.وبتوا له المعابد في حوض المتوسط ليؤمها الحجيج الراغبون في الشفاء حيث يؤدون الصلوات و ينحرون القرابين تبركا باسكلوبيوس ليشفي عللهم . ولا يزال شعاره يستخدم إلى يومنا هذا كرمز طبي (أفعى تلتف على صولجان اسكليبيوس) حيث كانت الأفعى تعد ذات قدرة علاجية ومناعية.




معبد اسكليبيوس

واقترنت أسماء بعض الإلهة بالطب في الميثولوجيا الإغريقية مثل ابولو الذي تحدثت عنه الإلياذة كجالب ومانع للطاعون ، وكانت الإلهة (هيرا) وابنتها (ايليثيا) حافظات للنساء،كما اقترن اسم (ايثيليا بالولادة حيث تظهر في إحدى اللوحات القديمة وهي تقوم بتوليد (اثينا) من رأس كبير الآلهة (زيوس) . أما الإلهة (هيجيا) ابنة (اسكليبيوس) فكانت مجسدة للصحة ومنها اشتقت كلمة صحة (هيجيا) في الاغريقية.


الإلهة تولد أثينا من رأس زيوس.
أبقراط:
بدأ الطب الإغريقي ينتقل من مرحلة الأساطير بالتدريج إلى حقبة واقعية على يدي (أبقراط) و ذلك في مرحلة الطب الفلسفية الذي عاش في جزيرة (قوس) في المتوسط في القرن الخامس قبل الميلادي ، وامتاز بأبحاثه وأفكاره الطبية التي خلت من ذكر الصلوات والآلهة والقرابين حيث استبدلها بالحديث عن الحمية والأدوية النافعة والحفاظ على الجسم في وضع التوازن ، وجعل من مراقبة وضع الجسم أساسا لمعرفته الطبية .
ومن العوامل التي أدت إلى انتشار صيت أبقراط هو قيامه بمعالجة عدد من الملوك من أمم مختلفة .
ومن ابتكاراته في علم الفسيولوجيا  و الأمراض ما يعرف( بنظرية الأخلاط) حيث اعتبر الجسم مكونا من أخلاط أربعة : الدم ، العصارة السوداء، العصارة الصفراء والبلغم . وتنص نظريته على ضرورة الحفاظ على هذه الأخلاط في حالة توازن تام ، واعتبر أن المرض ينجم عن اختلال في توازن الأخلاط المذكورة
وقد سجل (أبقراط) ملاحظاته في كتب بلغ تعدادها ما يقرب الستين كتابا تشمل مختلف المواضيع الطبية من تشخيص وصحة عامة،طب النساء والولادة،التغذية ، والجراحة كما واشتهر بقسم أبقراط الذي يردده الأطباء حتى يومنا هذا عند بداية ممارستهم للطب أو قسما مستقى من قسم (أبقراط) باختلاف البلدان والثقافات.
كما ويحسب لأبقراط قيامه وتلاميذه بإنشاء معهد طبي في جزيرته (قو) قاموا فيه بتدريس الطب وتسجيل الملاحظات السريرية ، بيد أن طبيبا إغريقيا آخرا سابقا أبقراط هو الكمايون يعتبر أول من أسس معهدا طبيا عام 700 ق.م كما يعتبر أو من وضع كتاباً في التشريح .

أبقراط
ومن الأسماء الساطعة في تاريخ الطب الإغريقي والعالمي يبرز (غلينوس) المولود في العام 131 م ، والذي تلقى علومه الطبية في سميرنا  و الاسكندرية . ثم نال شهرة واسعة بوصفه جراحا لعبيد (برغاموس). ثم انتقل إلى روما ليصبح طبيب الإمبراطور (ماركوس اوريليوس) ثم تفرغ في آخر حياته لكتابة مجموعة كبيرة من المؤلفات الطبية حتى وفاته عام 201 م.تأثر بتعاليم (أبقراط) ورفدها بالمعرفة التشريحية لبعض أطباء الإسكندرية مثل (هيروفيلوس) .وكان من أنصار الملاحظة والسببية ويعتبر أول عالم في الفسيولوجية التجريبية . حيث أجرى أبحاثه حول عمل الكلية والنخاع الشوكي بنمط تجريبي. وقد سرت تعاليمه في الغرب المعاصر لا سيما تلك التي تنص على حتمية الملاحظة والتجربة في الأبحاث الطبية حتى أصبحت عقيدة للباحثين في الحقل الطبي منذ القرن السادس عشر الميلادي و حتى يومنا هذا.


جالينوس
وخرج من رحم الحضارة الإغريقية كذلك الطبيب الصيدلاني (ديوسكورديوس) المولود في عهد الإمبراطورية الرومانية خلال العقود الأولى بعد الميلاد ، والذي اشتهر بكثافة رحلاته بحثا عن مواد دوائية في أصقاع  الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف آنذاك مستفيدا من وجود مسافات شاسعة للإمبراطورية تحت حكم واحد في ذروة توسعها.
وقد اصدر كتابه الذي يعد أساسا ومنهجا(المادة الدوائية) في خمسة أجزاء تركزت حول تحضير،خواص ، وتجريب الدواء ليصبح المرجع المركزي في علم الدواء لأوروبا والشرق الأوسط لستة عشر قرنا تالية كان خلالها (المادة الدوائية) عقيدة للعاملين في الحقل الطبي لا سيما تعاليمه بوجوب البحث والتجريب الدوائيين ، وأكثر من عمل على حفظ الكتاب وتنقيحه وتطويره هم العرب الأندلسيون حيث ترجم الكتاب الذي أهدى نسخته إمبراطور القسطنطينية إلى الأمير الأندلسي  عبد الرحمن الثالث فاعتنى بترجمته وتطويره.
قسم أبقراط:
وهو أول نص يبين آداب مهنة الطب:
"أقسم بالله رب الحياة والموت وواهب الصحة، وخالق الشفاء وكل علاج، وأقسم باسكليبوس وأقسم بأولياء الله من الرجال والنساء وأشهدهم جميعا على أني أفي بهذا اليمين وهذا الشرط:
أن معلمي هذه الصنعة بمنزلة آبائي، أواسيهم في معاشي وإذا احتاجوا إلى مال واسيتهم و واصلتهم من مالي.
وأما الجنس المتناسل منه فأرى أنه مساو لإخوتي وعليّ أن أعلّمهم هذه الصناعة إن احتاجوا إليها بغير أجرة ولا شرط وأن أشرك أولادي وأولاد المعلم لي والتلاميذ الذين كتب عليهم الشرط أو حلفوا بالناموس الطبي، أن أشركهم في تعلّم التوصيات والعلوم وسائر ما في هذه الصنعة. وأما غير هؤلاء فلا أفعل بهم ذلك. وأن أعمل بقدر طاقتي في جميع التدابير لمنفعة المرضى، وأما الأشياء التي تضر بهم وتدني منهم الجور فأمنعها بحسب قدرتي، وأن لا أعطي إذا طلب مني دواء قاتلا ولا أشير بمثل هذه المشورة، كذلك لا أرى دوري أن أصف دواء يسقط الجنين، وأحافظ في تدبيري وصناعتي على الزكاة والطهارة ولا أشق عمن في مثانتة حجارة ولكن اترك ذلك لمن كانت حرفته هذا العمل. وكل المنازل التي أدخلها أعمل لمنفعة المرضى، وأما الأشياء التي أعاينها في أوقات علاج المرضى أو أسمعها في غير أوقات علاجهم فأمسك عنها".

فمن أكمل هذا اليمين ولم يفسد شيئا كان له أن يكمل تدبيره وصناعته على أفضل الأحوال وأجملها وأن يحمده جميع الناس ومن تجاوز ذلك كان لضده. 

Previous Post Next Post