الطب لدى حضارات الرافدين القديمة
يطلق اسم بلاد الرافدين على الأرض الخصبة الواقعة بجوار نهري دجلة والفرات ولا يرتبط بحضارة بعينها  ، إذ أن الكثير من الحضارات ازدهرت وانهارت لتزدهر مكانها أخرى عبر آلاف السنين من التاريخ. ويعود سر خصب تلك البلدان إلى الفيضانات العنيفة للنهرين التي شجعت الزراعة ، بيد أنها اقتضت جهوداً بشرية جبارة لسكان تلك البقعة من الأرض لحماية النباتات الفتية ،
ولكن ظهور الحضارة الحقيقية يعود إلى العام 3100 قبل الميلاد مع ظهور الكتابة المسمارية التي شاع استخدامها في بلاد الرافدين لألفي عام بعد ذلك.
ورغم حفظ الكثير من اللوحات المسمارية إلا أنه - وللأسف- لم يصلنا الكثير من المتعلق منها بالطب ، فقد وصلتنا بعض اللوحات من مكتبة آخر ملوك الأشوريين ( أشوربانيبال) والتي وجدت في قصره في مدينة نينوى حيث أحرق القصر بواسطة الغزاة ، ولحسن الحظ فقد تسببت النار في نضج 20000 لوحة مسمارية وتم حفظها ، وقد وصلتنا في بداية العقد الثاني من القرن العشرين 660 لوحة طبية مسمارية بواسطة كامبيل ثومبسون.
وقد وجدت لوحات أخرى تحمل نصوصا طبية من غير قصر اشور بانيبال ، منها ما وجد في مكتبة الأطباء في أشور الجديدة وقد نشرت جميعها مؤخرا .
وقد ارتبط الطب لدى حضارات الرافدين القديمة بالآلهة ، وذلك لامتيازها بالقدرة على شفاء المرضى والتسبب في المرض كذلك، من اجل ذلك كانت تقام الصلوات و تؤم المعابد طلبا للشفاء من المرض.كما كشفت بعض اللوحات المسمارية عن ربط اله معين بنوع محدد من المرض.ومن المعابد التي اشتهرت بذلك معبد (غولا).

إلا انه إضافة لذلك مورس الطب كمهنة، حيث صنفت اللوحات المسمارية إلى صنفين: لوحات تشخيصية وأخرى علاجية. يشرح كلاهما تشخيص ومعالجة أصناف عدة من الأمراض كأمراض النساء و الأطفال  والأمراض المعدية والأمراض النفسية.
وكانت التقاليد الطبية تنص على تناوب طبيين لعلاج المريض الواحد في العادة أولهما يدعى (اشيبو) تقتصر مهمته على تشخيص المرض و غالبا ما يتلخص ذلك في تحديد الروح أو الإله المتسبب في المرض وقد يقوم بدوره في العلاج باستخدام التمائم والرقى ، وغالبا ما يتم التعبير بالقول ( يد الإله... ) للإشارة إلى دور اله ما في إحداث المرض. ثم يحال المريض إلى طبيب ثان يدعى (اسو)و حيث يقوم بوصف العلاج الذي يشتمل غالبا على الأعشاب. وفي علاج الجروح يقوم (اسو) بإجراءات مثل الغسل والتضميد

ومن اللوحات المسمارية المتخصصة في الطب تلك المعروفة ب (قانون التشخيص والتنبؤ الطبيين) التي تعود إلى العام 1600 ق.م وتضم ما يقرب 400 لوحة مسمارية شملت خلاصة الآراء الطبية في الحقب السابقة إلى تاريخ كتابتها.
وكانت مادة العلاج الأولى هي المادة العشبية وشملت مصطلحات تثير للوهلة الأولى الاشمئزاز في نفس القارئ مثل(براز البحارة) و (السحالي الحية)و (شحم الأسد) غير أنها في الواقع كانت أسماء سرية لنباتات استخدمت في العلاج.
وقد مورست الجراحة كذلك ، بيد إن اللوحات المسمارية التي تتحدث عن الجراحة هي ضئيلة نسبيا. تنحصر في لوحات أربع تتحدث إحداها عن شق الصدر لإخراج الصديد من تجويف غشاء الجنب، والأخرى عن أحداث شق في الرأس والثالثة عن كيفية العناية بالجرح بعد إجراء العملية، أما اللوحة الرابعة فكان يعتريها التهشم الأمر الذي حال دون فك رموزها .
وكان علاج المرضى يتم في البيوت ، وكان الـ ( أشيبو) والـ ( آسو) يكشفان عن المرضى في البيوت ويقوم أفراد العائلة بمهام الرعاية الصحية بعد ذلك ، كما وجدت بعض المنتجعات العلاجية إلى جانب الأنهار حيث كان يعتقد سكان الرافدين بقدرات شافية  للأنهار لدورها في غسل الشرور

الطب عند قدامى المصريين:

)المرء في مصر أكثر براعة في الطب من أي إنسان آخر( هذا ما قاله هوميروس في الإلياذة.
مارس المصريون الطب منذ فجر التاريخ، حيث تشير المخطوطات القديمة أنهم استخدموا الملكيت لعلاج آلام العين كما واستخدموا كبريتيد الرصاص كدواء ،كان ذلك في العام 4000 ق.م.وقد برعوا في فن الطب إلى درجة جعلت مصر قبلة للاستشفاء تجذب سكان الحضارات المختلفة.وهذا ما تؤكده الرسومات الهيروغليفية على جدران المعابد والقبور وأوراق البردي . فقد ذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوت أن ملك الفرس طلب من الفرعون أحمس الثاني أن يوفد إليه أفضل طبيب عيون لديه وكان ذلك في العام 560 ق.م. كما وتظهر الصورة أدناه وهي موجودة على جدران احد المعابد في طيبة صورة ل (نيبامون:1400 ق.م ) طبيب الفرعون وكاتبه وهو يستقبل أميرا سوريا يدفع إليه أجره كاملا على شكل جائزة.
وكان مألوفاً لدى الفراعنة وجود تخصصات مختلفة كطب العيون وطب الأمراض الهضمية بل ووجد أخصائيون في طب الشرج والطريف ان ترجمته الحرفية تعني (راعي الشرج)، كما وجد طب الأسنان ، وكان هنالك طبيبات نساء أيضاً.
. وقد سجل قدماء المصريين خبرتهم بالأدوية على جدران المعابد والقبور وأوراق البردي.
وتشير المخطوطات القديمة إلى أن الطب الفرعوني كان في غاية التطور بالنسبة لزمانه ، بل وساهم في التأثير على الطب الإغريقي فيما بعد ، ويكفي أن نعلم أن أبقراط المعروف بأبي الطب وهيروفيلوس  وجالينوس قاموا بالتعلم في معبد أمنحوتب ، وساهموا في الربط بين الطب الفرعوني والإغريقي فيما بعد.
ومن أشهر هذه البرديات
بردية جورج ايبرس:
سميت باسم العالم الألماني المختص بالآثار والذي وجدها سنة 1822م. وقد حفظت في إحدى الجامعات الألمانية (جامعة لايبزيغ)، ويعتقد أنها كتبت في زمن النبي موسى عليه السلام في منطقة هليوبوليس.
تحتوي هذه البردية على بقايا من الرسائل من عصر أكثر قدما من التاريخ الذي كتبت فيه، شأنها شأن بقية البرديات. يبلغ طول هذه البردية عشرون مترا وعرضها 30سم وتحتوي 811 وصفة طبية و فيها 2289 سطرا، وهي تحوي وصفا دقيقا لأجزاء جسم الإنسان.
وقد أوضحت ما فيها من معلومات معرفة المصريين القدماء لوظيفة القلب والأوعية الدموية، وقد كانت هذه البردية غنية بصيغة الأدوية وتركيبها مما عزز الاعتقاد أن الجانب الصيدلي عند قدماء المصريين لقي اهتماما كبيرا حتى فاق ذلك في الحضارة اليونانية على عظم إنجازها، وقد ضمت هذه البردية وحدها ما يناهز 700 دواء بما يقارب 811 وصفة.
وقد تحدثت البرديات عموما عن نباتات طبية عديدة كانت تنمو في أرض مصر أو تجلب من الصومال أو السودان أو الجزيرة العربية أو الحبشة. و اعتمد قدماء المصريين في تحنيط جثث الموتى وحفظها من التلف على بعض النباتات كالحنة والبصل والصمغ ونشارة الخشب والكتان ونبيذ البلح.
ورغم ضحالة معرفتهم في أسباب الأمراض و إرجاع ذلك إلى الأرواح الشريرة فقد امتاز المصريون القدامى بمعرفة واسعة في علمي التشريح وعلم وظائف الأعضاء حيث اشتهروا بتحنيط الجثث في الوقت الذي دأبت الأمم الأخرى على حرقها . وقد كانت لهم طريقة مميزة في إفراغ محتوى الجمجمة من خلال ثغرتي الأنف باستخدام كلاب دقيق ، وربما توافقني الرأي انه ما كانوا ليتمكنون من ذلك لولا معرفة واسعة في التشريح وخاصة تشريح الرأس والدماغ.

وكانت عقاقيرهم من أصول مختلفة:
عقاقير من أصل نباتي: مثل الينسون، بذر الكتان، بذر الخروع، البصل، بذر الخس، البابونج، التوت، الثوم، الحنظل، حبة البركة، الحناء، الخشخاش، الخروب، الخلة، الزعفران، السمسم، الشعير، قشر الرمان، القرفة وغيرها.
عقاقير من أصل حيواني:غدد الثور، الجراد، الكبد، الدم، عسل النحل، دهن الأوز، لبن الحمار.
عقاقير من أصل معدني: برادة وخلات الحديد، حجر الجير، الرصاص، الطباشير، جبس، كبريتات النحاس، كربونات الصوديوم وغيرها. 

وقد وصفت بردية ابرس موقع القلب وصفا دقيقا ،وبالدقة ذاتها وصفت العديد من أمراضه كاضطرابات النبض. وكانوا يعتقدون أن القلب هو مصدر الأوعية الدموية، وان الدورة الدموية تنساب من القلب إلى كل أجزاء الجسم وكانوا يدركون أنها أوعية جوفاء إلا أنهم لم يكونوا يميزون بينها وبين الأعصاب والأربطة الأمر الذي أعاق فهمهم الكامل لكنه الدورة الدموية.
 والمثير للإعجاب حقا أنهم برعوا في فن الفحص السريري كما تذكر بردياتهم براعة لا تقل عن براعة الأطباء المعاصرين كما واهتموا بمحادثة المريض وأخذ السيرة المرضية.وميزوا بين الأورام المختلفة.
وكان لقدامى المصريين كذلك و صفاتهم الخاصة في تشخيص العقم و تحديد جنس الجنين وكان لهم دور للولادة كأجنحة ملحقة بالمعابد تؤمها الحوامل بحثا عن حرز الهي أكثر منها كأمكنة للولادة.
وكانوا يحثون على الرضاعة الطبيعية لثلاث سنوات على الأقل ، ونشير هنا إلى اهتمام الأطباء المصريين القدامى بالغذاء والحمية ، وكانوا يعتبرون لحم الخنزير غير نظيفاً كما يذكر المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودوت ، الذي أشار أيضا إلى بعض الوجبات الغذائية التي كان يحظى بها المصريون والتي تشير إلى وجود نمط غذائي متكامل لدى الطبقات العليا والدنيا أيضاً في المجتمع الفرعوني القديم.
وكانت لهم تعاليمهم في الجراحة : حيث دأبوا على تخييط الجروح بالإبرة والخيط، ووصفوا السرطانات في بردياتهم.
ومن أمثلة علاجهم كما ورد في البرديات:
أوجاع الرأس: الحنظل، الخشخاش، الكمون وبذر الكتان.
احتقان العين: حنظل أخضر على ظهر العين، صدأ الرصاص فوق الجفن.
الرمد الحبيبي: حنظل، سلفات النحاس فوق الجفن، ورق الخروع.
عضة الإنسان أو الحيوان: شمع، نعناع فلفلي كدهان، صدأ الرصاص.
الدمامل والخراج: لبخات مركبة من البلح والشمع، وزيت الخروع والحنظل.



وكان للفراعنة نظريتهم المسماة بالقنوات والتي تتكهن بوجود قنوات تنقل الماء والدم والهواء إلى الجسم وان المرض ينجم عن انسداد هذه القنوات ، وربما اقتبسوا ذلك من النيل وروافده وأن انسداد الروافد يؤدي إلى انحسار جودة المحاصيل الزراعية ومن ثم فقد دعوا إلى استخدام المسهلات كعلاج.
غير إن الجدير بالاهتمام حقيقة هو طبيعة التعليم في المعاهد الطبية الفرعونية ،فقد انتشر ما  كان يعرف بال(بيري-انخ) و ترجمتها (بيوت الحياة) وأبرزها ذلك العائد إلى (امنحتب) في (ممفيس) والذي حاز على شهرة دولية نظرا لمكتبته التي استمرت إلى ما بعد الميلاد،وأخر في ( سيس) حيث تدربت القابلات كمرحلة أولى ثم قمن بتدريب الأطباء فن الولادة بعد ذلك، ومعهد ثالث في ابيدوس الذي كان الفرعون رمسيس الرابع يكثر التردد إلى مكتبته، وغيرها. و عدا عن كون تلك البيوت مراكز للدراسة إلا أنها كانت مخزنا للكتب و البرديات التي من أقدمها كتابا ( الممارسة الطبية) و (كتاب التشريح) اللذين كتبا من قبل احد ملوك الأسرة الفرعونية الأولى و قد ضاع كلاهما للأسف.
ويبدو أن كتبا أكثر تخصصا قد كتبت بعد ذلك ، فقد عثر رئيس مدرسة الإسكندرية المسيحية عام 180 للميلاد على ستة كتب في مكتبتها تتناول مجالات طبية مختلفة كالتشريح والأمراض والأدوات الجراحية والأدوية وطب العيون والنساء.
والمؤسف حقا أن بيوت الحياة هذه قد دمرت بأمر من الملك الفارسي (قمبيسيس) عام 525 ق.م ب ،مع العديد من المدارس والمعابد، ثم أعيد بناؤها على يد وريثه(داريوس) الذي كتب على تمثاله في السطر الاخير من وصف ذلك الحدث : ( لقد أمر جلالته بذلك لإدراكه قيمة هذا الفن الذي يحفظ حياة المرضى قاطبة(
والمبهر حقا في تلك الحضارة الغابرة هو طبيعة الخدمات الصحية التي تمتع بها الشعب المصري ، حيث تمتع العمال والموظفون بتامين صحي خاص ، وقد تمتع بناة الهرم بخدمات طبية عالية الجودة وافرد لهم طبيبا نعت بطبيب المستعمرة. حيث تشير إحدى النصوص إلى تكفل احد المعابد بدفع الكلفة العلاجية كاملة لأحد الموظفين بعد إثبات إصابة عمل في عينه أثناء مزاولته لعمله في خدمة المعبد،ولم يكن في دولة الفراعنة سن ثابتة للتقاعد إلا لمن يعاني من عجز بدني ، ونصت البرديات على حق العمال في المطالبة بتقاعد مبكر بسبب العجز ، كما و رخصت المغادرة المرضية للعاملين في مختلف القطاعات.وقد حددت ساعات العمل بأربع ساعات في الصباح وأربع بعد الظهر يتخللهما تناول وجبة و قيلولة لتجنب خطر ضربة الشمس.
كما وخصصت الخدمات الطبية لعمال المناجم ، وان كانت المعلومات التاريخية المتوفرة عن الخدمات الطبية العسكرية قليلة، إلا أن بعض المخطوطات تتحدث عن مستلزمات النظافة لدى الجيش الفرعوني و يكفي أن نعلم أن تقليد حلق الشعر للجنود تلافيا للقمل والحشرات قد مورس للمرة الأولى في التاريخ من قبل الجيش الفرعوني.
وكانوا يوصون بالغسل وإزالة الشعر عن الجسم لا سيما ما تحت الإبطين وذلك لتفادي العدوى.
الخاتمة:فبعد أن رأينا هذه الحضارات القديمة و العظيمة لاحظنا التباين الكبير في مفاهيم الطب عندها و لاحظنا أيضا هذه المعرفة الطبية الكبيرة عندهم و الآن يمكننا الإجابة عن الإشكالية في هذه الحلقة:
من هو الأفضل؟ الطب القديم(الشعبي أو البديل كما يقال)أم الطب الحديث؟ في الحقيقة في هذا السؤال هوة كبيرة فعلى الرغم من عظمة الطب القديم فقد لاحظنا وجود العديد من العلاجات التي قد وجد لها قرين في الطب الحديث أي بالمختصر لم تعد تعاليم الطب القديم صالحة في ظل وجود تعاليم الطب الحديث. و لكن ما زال هناك نسبة لا بأس بها من الناس يؤمنون بالطب القديم و بأهميته كونه هو المنصة التي انطلق منها الطب الحديث ليصل إلى ما وصل إليه الآن من تطور و تقدم.و الآن فإن هناك العديد من المحاولات لإعادة إحياء الطب القديم و الاستفادة منه

Previous Post Next Post