التطور الثقافي عبر التاريخ
 المفهوم العلمي للثقافة:
إذا أردنا فهم المعنى الحالي لمفهوم الثقافة واستعماله في العلوم الاجتماعية من الضروري أن ندرس تطورها التاريخي وأصلها الاجتماعي و تسلسل نسبها عبر التاريخ, وبالتالي فإنّ ما نقوم به ليس تحليل لغوي للكلمة ,وإنّما محاولة أن نعرف كيف تكونت هذه الكلمة وكيف تطورت فكرتها من خلال المراحل التاريخية التي مرت بها والأفكار التي ارتبطت بها حتى تمّ الوصول إلى ابتداع المفهوم العلمي الذي هي عليه الآن والذي تحول أيضاً عبر تاريخها من تعريف معياري إلى تعريف وصفي[1] .
ماهي مراحل تطور كلمة ثقافة عبر التاريخ؟
أولا / تطور الكلمة في اللسان الفرنسي منذ القرون الوسطى إلى القرن التاسع عشر:
1/ في أواخر القرن الثالث عشر.. ظهرت منحدره من كلمة لاتينية.. تعني العناية بالحقل والماشية ..أمّا في اللسان الفرنسي تشير إلى حالة الأرض المحروثة.
2/ بداية القرن السادس عشر: تطورت الكلمة فبعد أن كانت تدل على حالة الأرض المحروثة أصبحت تدل على الفعل وهو فلاحة الأرض.  
3/ منتصف القرن السادس عشر: تكون المعنى المجازي للكلمة فأصبحت كلمة ثقافة تشير إلى تطوير كفاءة.. أي الاشتغال بإنمائها. ولم يكن المعنى المجازي دارجا بكثرة.
4/ القرن الثامن عشر:
أ / بدأت كلمة ثقافة تفرض نفسها في معناها المجازي أي المعنى الدال على ثقافة الفكر. (وتحول المعنى من تهذيب الأرض إلى تهذيب العقل) ودخلت بمعناها هذا معجم الأكاديمية الفرنسية.. حيث أفرد ت مقالة كاملة عن معنى من معانيها القديمة وهي "فلاحة الأرض" ولم يُهمل معناها المجازي في مقالات أخرى وأخذت العناوين التالية: " تربية , فكر , آداب , علوم " حيث كانت تُتبع كلمة ثقافة بمضاف يدل على موضوع الفعل فيقال: ثقافة الآداب.. ثقافة الفنون.. ثقافة العلوم وهكذا.
ب/ تحررت كلمة ثقافة تدريجياً من علاقتها بالمضاف لينتهي بها الأمر لاستعمالها منفردة لتدّل على تكوين الفكر وتربيته .
ظلت "الثقافة" في القرن الثامن عشر مستخدمة بصيغة المفرد بدون إضافة وتأثرت بأيدلوجية[2] عصر الأنوار حيث اقترنت  " الثقافة " بأفكار التقدم والتطور والعقل " وكانت تحتل مكان الصدارة في فكر ذلك العصر ويعتبر القرن الثامن عشر فترة تشكل المعنى الحديث لكلمة ثقافة ,وقد برز هذا التشكل في اللغة الفرنسية منذ عصر الأنوار[3] وأصبحت كلمة ثقافة من مفردات لغة ذلك العصر .
5/في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين:
 في هذه الفترة حازت كلمة الثقافة نجاحاً كبيراً اقتربت به من كلمة أخرى  أكثر نجاحاً منها وهي كلمة حضارة ,ورغم أنّهما تنتميان إلى نفس الحقل الدلالي إلا أنّهما ليستا مترادفتين تماماً وإن كان يُجمع بينهما أحياناً, فإذا افترقتا تستخدم الثقافة للدلالة على التقدم الفكري للفرد , والحضارة للدلالة على التقدم الفكري للجماعة , حيث كانت تطلق على الصيرورة التي تخلص الإنسانية من الجهل واللاعقلانية , وبناء على هذا المفهوم الجديد للحضارة قامت الطبقة البرجوازية[4] الإصلاحية بفرض تصورها للحكم في المجتمع إذ يرون أنّه ينبغي أن يرتكز على القوة والمعرفة , وينبغي أن تمتد الحضارة لكل الشعوب حتى البربرية وهذا واجب على الشعوب المتقدمة , وخالفهم في ذلك فولتير وروسو.
س/ ما نتائج مفهوم الثقافة والحضارة في القرن الثامن عشر؟
¨          برز تصور جديد للتاريخ ينزع إلى استبعاد الدين واستبداله بالمفاهيم التي تتضمنها الثقافة و والحضارة وبناء على ذلك أصبح الإنسان هو مركز الكون والتفكير [5]
¨          برز مصطلح (علم الإنسان) وقد  استخدمه ديدرو للمرة الأولى ثم ابتدع ألكساندر دو شافان مصطلح علم الإنسان باعتباره العلم الذي يدرس "تاريخ تقدم الشعوب نحو الحضارة".‏
 القرن التاسع عشر: تطور وتوسع فهم كلمة ثقافة: لم تعد تنسب إلى التطور الفكري للفرد فحسب بل تشير أيضا إلى التطور الفكري لجماعة بشرية معينة ، فظهرت تعبيرات من مثل " ثقافة فرنسية " و " ثقافة ألمانية " و ... وهنا تقترب كلمة " ثقافة " من كلمة " حضارة " كثيرا ، ولطالما استخدمت إحداهما للدلالة على الأخرى.
ما السبب في هذا التطور للكلمة؟؟ بسبب الافتتان الذي ساد بعض الأوساط المثقفة نوعا ما إزاء الفلسفة والآداب الألمانية التي كانت في عزّ تألقها.
تطور الكلمة في اللسان الألماني:
1/ في القرن الثامن عشر:ظهرت كلمة ثقافة بالمعنى المجازي في اللسان الألماني وكأنها نقل حرفي للكلمة الفرنسية,وذلك لسببين: استخدام اللغة الفرنسية الذي كان علامة مميزه للطبقات العليا في ألمانيا آنذاك ,تأثير عصر الأنوار.
2/ في النصف الثاني من القرن الثامن عشر:تطورت الكلمة تطورا سريعا وأصبحت أكثر تحديدا من نظيرتها الفرنسية وحازت على نجاح لم تحظى به من قبل وسبب ذلك يعود إلى تبني الطبقة البورجوازية المثقفة الألمانية لمصطلح الحضارة واستخدامهم لها في معارضة الطبقة الارستقراطية ..فقامت الطبقة البورجوازية بوضع قيم سمّوها روحية قائمة على العلم والفن والفلسفة والدين في مقابل قيم "الكياسة"الأرستقراطية.
كيف كانت العلاقة بين الطبقتين (الارستقراطية و البورجوازية)؟
كان الوضع بين الطبقتين في ألمانيا على العكس مما كان عليه في فرنسا كان هناك تباعد اجتماعي بين الطبقتين وبينهما بغضاء وكانت قصور الأمراء محكمة الإغلاق واستبعد البورجوازيون  بشكل كبير عنها وعن أي عمل سياسي.. وهذه المسافة الاجتماعية غذت شعورا بالمرارة لدى عدد كبير من المثقفين في هذه الطبقة.. وهذا ما دفعهم للانجاز والرفع من مكانتهم...ومنذ ذلك الوقت بدء الصعود التدريجية لهذه الشريحة الاجتماعية وصار لها صوتها في القومية الألمانية.
وقد عد البورجوازيون الألمان أن تلك الطبقة الارستقراطية مفتقرة إلى الثقافة وان كانت تدعي التحضر وذلك بسبب إهمالهم للفن والأدب وتكريس جل وقتهم لاحتفالات  البلاط مقلدين الأساليب المتحضرة للبلاط الفرنسي.   
ولذلك فرقوا بين مصطلحي حضارة وثقافة:فكل ما ينشأ عن الأصالة ويساهم في الإنماء الفكري والروحي يعتبر ناجما عن الثقافة أما المظاهر البراقة والخفة والتهذيب السطحي فينتمي إلى الحضارة.
" تعليق الدكتور "الفرق بين الطبقتين البرجوازيتين في ألمانيا وفرنسا واستخدام كلمة الثقافة في مجتمعنا العربي:.
( في المدرسة الألمانية يختلف الوضع الاجتماعي فالطبقتين البرجوازية والارستقراطية بينهما انفصال لذا انعكس على المجتمع الألماني لان الطبقة الارستقراطية تحتقر الطبقة البرجوازية فأعطت معنى جديد لثقافة ففصلوا بين الكلمتين وأعطوا كل منها معنى معين .
أما المدرسة الفرنسية فرات أن بين الطبقتين توافق وأن بينهما نظرية وحدة الثقافة وأنها استخدمت بمعنى تطوري فكانوا يرون أن مجتمعهم هو المجتمع المتقدم وأنه القمة في المدرسة الفرنسية.
أما مجتمعنا فقد استخدم كلمات جديدة للثقافة وأضاف معنى أخر  وهو" التهذيب – والحذق " ولما جاء العصر الحديث وترجم معنى "culture" إلى العربية أعطت وضع في مقابل كلمه ثقافة لذا فهي مكتسبه من أوروبا وقد ولدت معاني جديدة بسبب هذا الارتباط .
إذن هناك كلمات تحيا وهنا كلمات تموت ومثال على ذلك فقد كان هنا في المجتمع السعودي في نجد كلمات لم تكن منطوقة مثل حرف الكاف كان ينطق بحرف السين والقاف بحرف الزاي فبدأت تزول مع التطور الاجتماعي . وكل ذلك نتج من الاحتكاك بالعالم )
كيف استطاعت النخبة البرجوازية تغيير مجتمعها ؟.
·       شراء الأراضي من الكنيسة وتحرير العبيد الذين فيها .
·       حركة الكشوف الجغرافية ، وقد أسهمت في تطوير الوعي الأوروبي .
·       انتشار التيار العلمي وتضاءل التيار الديني الكاثوليكي .
·       تطوير وسائل الإنتاج وظهور المدن على يد الطبقة البرجوازية[6].
هنا يمكن أن يقال "من أن الطبقة البرجوازية استغلت الوضع الاجتماعي لإسقاط الطبقة العليا وهذه الآلية من آليات النجاح فنرى أن الفكر في مجتمعنا يختلف عما كان قبل سنوات ماضيه لأنه يمثل تحدي للمفكرين والناظرين ويطوروا أفكارهم ويوسعوا مداركهم ."

3/ في القرن التاسع عشر:
أ/ تحولت كلمة ثقافة من كونها علامة مميزه للبورجوازية الألمانية المثقفة إلى علامة مميزة للأمة الألمانية بأكملها.
وأصبحت السمات المميزة للطبقة المثقفة التي كانت تستعرض ثقافتها كالصدق والعمق والروحانية سمات نوعية ألمانية.‏وقد كان ذلك تعبيرا عن وعي قومي يبحث عن السمات المميزة للشعب الألماني في موازاة قوة الدول المجاورة كفرنسا وانجلترا فكانوا يبحثون في ظل انقساماتهم السياسية عن إثبات وجودهم بتمجيد ثقافتهم.
ب/ ثم تطورت الفكرة الألمانية الخاصة بالثقافة وارتبطت  أكثر فأكثر بمفهوم الأمة  وتبدوا الثقافة كمجموعة من الفتوحات الفنية والفكرية والأخلاقية التي تشكل ميراث أمه .
القرن العشرون ((المناقشات الفرنسية-الألمانية حول الثقافة))
أدت المنافسة بين النزعتين القوميتين الفرنسية والألمانية والجدل الذي امتد منذ القرن الثامن عشر إلى العشرين إلى تفاقم الجدل الإيديولوجي بين مفهومين حول الثقافة وهي:
((العبقرية القومية )أو  (النسبية الثقافية ): نتيجة النّزاعات الداخلية والخارجية مع دول الجوار ـ فرنسا وانجلتراـ أدت إلى عدم توحد الولايات الألمانية  ظهرت الدعوة إلى البحث عن السمات المتميزة للشعب الألماني ولتعدد الثقافات في المجتمع الألماني .
وهي ترى أن لكل شعب خصوصية ثقافية ويجب احترامها ولا يمنعه ذلك من إمكانية التواصل مع الشعوب الأخرى[7], ثمّ تطورت لتأثرها بالقومية فارتبطت بمفهوم الأمة فأصبحت الثقافة تبدو وكأنّها جملة من المنجزات الفنية والفكرية والأخلاقية التي تكون تراث الأمة وبالتالي يؤسس ذلك لوحدتها, ولا تدخل الانجازات التقنية فيها بل تقتصر على المنجزات الفكرية ,ثمّ نما تصور آخر للثقافة متوافق مع التصور السابق ومتصل بالعرق فالأمة هي جماعة من أصل واحد ثمّ استخدم كأساس لتكوين الدولة ـ الأمة في ألمانيا(ظهرت النّازية التي تمجد الجنس الآري باعتباره جنس متفوق وترفعه على سائر الأجناس على يد هتلر  ).
هذه النّظرية ظهرت كردة فعل اتجاه نظرية (كونية الأنوار الموحدة) الفرنسية نتيجة النّزاع الفكري والعسكري بين الدولتين حيث كانت فرنسا تؤمن بفكرة (وحدة الجنس البشري) التي حققت لها الوحدة القومية منذ زمن بعيد حيث توجد أسس متشابهة في البنية الاجتماعية عند معظم المجتمعات الإنسانية [8] ومن نتائج ذلك ظهور نظرية الأممية التوحيدية في فرنسا والتي ترفع من شأن الثقافة الفرنسية وأن من ينتمي إلى الأمة الفرنسية ينبغي أن يذوب في ثقافتها مهما كان أصله يقول رينان:" إن من يرى نفسه في الأمة الفرنسية مهما كان أصلة فإنه ينتمي إليها.
وبهذا يكون لدينا نموذجان لمفهوم الثقافة ,وهما في العمق شكلان لتحديد مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية أحدهما تخصيصي والآخر كوني.

[1] بمعنى أنّ  المفهوم العلمي للثقافة كان في البداية معياري يعطي الثقافة معنى محتوي على قيم عليا مرتبطة بالسلوك البشري ثمّ تحول إلى تعريف وصفي يركز على وصف محتوى الثقافة .
[2] مجموعة الآراء الدينية أو الاقتصادية أو السياسية  التي يعتنقها الشخص وتؤثر على صياغة مواقفه. (للاستزادة حول المعنى يراجع المعجم الاصطلاحي من إعداد الزميلات ).
[3] المقصود "بعصر الأنوار" هو القرن 18 الذي ظهرت فيه حركة فكرية في أوربا و  في فرنسا على الخصوص ضد الكنيسة التي تحرم العلم والمعرفة ، واتخذت هذه الحركة من الإنسان و حقوقه أساسا للمواضيع المتناولة سواء في الميدان العلمي أو السياسي أو الإنساني و جعل العقل حكما لرفض أو قبول أي شيء كان و العمل على إنشاء مجتمع جديد يقوم على الديمقراطية و الحرية و المساواة .
[4] طبقة نشأت في عصر النهضة الأوربية بين الأشراف والزراع ونعني بها الطبقة المتوسطة والمثقفة في ذات الوقت والمستبعدة عن أي عمل سياسي مما غذى لديها شعورا بالمرارة والنقمة على طبقة النبلاء.، ثمّ أصبحت دعامة النظام النيابي ، و في القرن التاسع عشر أصبحت هذه الطبقة تملك وسائل الإنتاج في النظام الرأسمالي .
[5] وكان ذلك نتيجة لظهور نظرية التطور والتي أصبحت قضية النّهضة الأوربية الكبرى بعد أن أُرسيت نظرياتها التي تُخضع الوجود كله لمبدأ التطورفهي تقول بالتطور من البسيط إلى الصعب ومن الأسفل إلى الأعلى ،ومن اللا معقول إلى المعقول ، ومن المعقد إلى الأشد تعقيدا  ً وهكذا حتى الدين متطور  فهو إنتاج بشري بحت لامجال لافتراض مصدر خارجي استمده الإنسان منه ,كما أنّه ليس نابع من فطرة أصيلة ,وهناك تصورات عديدة لدى أصحاب هذه النظرية حول كيفية حدوث الدين منها:ما ساد في الدراسات الاجتماعية المعاصرة وهو أنّ: الإنسان في طوره الأول كان يعظم كل شيء يراه , ثمّ ترقى عقله فنقصت آلهته تبعاً لذلك شيئاً فشيئاً حتى انتهى إلى الاعتقاد ببضعة آلهة أو إله واحد كما في الأديان السامية, ثمّ جاء العصر الحديث فوجد أنّه ليس بحاجة لافتراض آلهة أبداً فهو الذي يصنعها ويقدسها فالأولى به أن يقدس ذاته ,أي أن تحل الإنسانية محل الإلهية.
[6] كيف يمكن الاستفادةمن تجربتهم.
[7] إنّ كل ثقافة فريدة بنوعها ولذا يجب أن تُحلل في حد ذاتها , ليس هناك معيار شامل للممارسة الثقافية ومن ثم ينبغي ألا نحكم على عنصر مّا في أي ثقافة إلا في ضوء الثقافة التي ظهر فيها وليس في ضوء معايير مستمدة من ثقافات أخرى  وهذا يجعلنا متسامحين تجاه الثقافات الأخرى , ولكن يولد مشكلة أخرى معقدة وهي هل تعني النسبية قبول الكثير من الأعراف والأفكار التي تظهر في الثقافات الأخرى والتي تتعارض مع قيمنا وديننا .
[8]  ويعبر عنه:(( بالشمولية الثقافية)ومثالها:ظهور العولمة الكونية  أدى للتخلي عن العديد من الخصوصية والانتقال لعصر العولمة الكونية ممّا يعني سرعة انتقال الكثير من المفاهيم والمناشط الاقتصادية والرياضية وهذا يوجد حاجات إنسانية متشابهة .

Previous Post Next Post