أشهر أعلام ورواد النهضة العلمية في القدس:
أنجبت القدس الكثير من الأعلام في مختلف العلوم والفنون, فكانوا رواد النهضة الحديثة وحملة شعلتها,  إذ ظهرت بوادر اليقظة العربية والقومية والتطور الفكري منذ مطلع القرن التاسع عشر, ولاسيّما عند الطبقة المثقفة الآخذة بالتغيير وتبديل الوضع الراهن بعد أن ضاقوا ذرعاً من تخلف بلدهم, ومن هؤلاء الأعلام:
v                        - وفاء العلمي: (توفي سنة 1834).
تولت عائلة العلمي في القدس وظائف إدارية مهمة في القرن التاسع عشر, فقد تولى وفاء بن نجم الدين العلمي مشيخة السادة الصوفية في القدس, ومتولي أوقاف القدس.
كما عُين مرات مدداً قصيرة نقيباً لأشراف القدس, وعُيّن في وظيفة ناظر الحرمين الشريفين منذ سنة 1824-1825 , وكان لهذه الوظيفة أهمية كبيرة من الناحية الاقتصادية ونفوذ واسع. وقد هاجر من القدس سنة 1844 مصطفى بن محمد بن وفاء العلمي إلى غزة, حين عين قاضياً فيها واستقر هناك, كما ظهر من هذه العائلة فرع في اللد باسم الجد سعودي العلمي, وهناك فروع لآل العلمي في دمشق وحلب وحمص وطرابلس الشام.([1])
v                      محمد أبو السعود: (1735 – 1813).
عالم أزهري, مفتي الشافعية, وشيخ مشايخ الطرائق الصوفية الخلوتية والقادرية في القدس, سافر في آخر حياته إلى الأستانة بطلب من شيخ الإسلام فتوفي هناك ودفن فيها.
أصبح محمد أبو السعود أحد علماء القدس ذوي النفوذ وقد برز ذلك في أثناء الحملة الفرنسية على فلسطين, حيث وردت الفرمانات والمراسيم باسم ثلاثة من علماء القدس البارزين وهم المفتي الحنفي حسن الحسيني, والشيخ محمد البديري, والشيخ محمد أبو السعود.([2])
v                      أحمد سامح الخالدي: (1869-1915).
ولد الخالدي في القدس في محلة باب السلسلة, حيث تجَّمع منازل آل الخالدي واشتهرت هذه العائلة بالعلم والخدمة في المحاكم الشرعية في القدس وخارجها عدة قرون.
بدأ الخالدي عمله مفتشاً في إدارة معارف فلسطين, لكن أهميته اتضحت حين عمل في إدارة الكلية العربية (دار المعلمين) منذ عام 1925 – 1948, له مؤلفات كثيرة في التربية وعلم النفس والتاريخ, له كتاب هام عن رجال الحكم والإدارة في فلسطين منذ العهد الراشدي حتى القرن الرابع عشر الهجري طبع في القدس في كتاب, ثم كتاب (أهل العلم بين مصر وفلسطين) وطبع في القدس عام 1946, وقدم لنا كتابه عن (الرحلات من دمشق إلى القدس) الذي نشرته وزارة الثقافة في سورية عام 2009 بمناسبة اختبار القدس عاصمة الثقافة العربية, وهو كتاب رائع نتعرف من خلاله أهمية القدس والأماكن المقدسة فيها.([3])
v                      طاهر الحسيني: (توفي 1866).
مفتي الحنفية في القدس مدة ثلاثة عقود في النصف الأول من القرن التاسع عشر, أحد علمائها ومدرسيها البارزين, درس في الأزهر وتعرف إلى كبار العلماء في القاهرة أمثال عبد الله الشرقاوي وحسن العطار وعبد الرحمن الجبرتي. ومما يدل على سعة علمه اهتمامه بالكتب والمخطوطات وطلبه النادر منها من القاهرة. وقد عُيِّن مدرساً لصحيح البخاري في قبة الصخرة عام 1812.أما وظيفة الإفتاء فانتقلت رسمياً في تلك الحقبة إلى ابنه مصطفى الذي نقلها بدوره إلى ابنه طاهر ومنه إلى ولديه كامل والحاج أمين الحسيني.([4])
v                      - عارف العارف: (1892 – 1973).
مؤرخ وكاتب فلسطيني مثقف وباحث في تاريخ القضية الفلسطينية, له عشرات الكتب عن تاريخ القدس وغزة وبئر السبع, عاصر الدولة العثمانية وشهد سقوطها وواكب أحداث القرن العشرين, ولد عارف بالقدس وأكمل الدراسة الثانوية والجامعية في استانبول, ثم حصل على شهادة في الإدارة والسياسة والاقتصاد من المكتب الملكي وعين في ديوان الترجمة بوزارة الخارجية في استانبول, وقد شارك في إصدار جريدة (سورية الجنوبية), تسلم مناصب عديدة منها قائم مقام في رام الله ورئيساً لبلدية القدس عام 1949, ثم وزيراً للأشغال في الأردن عام 1955, ولكنه استقال ليتفرغ للنضال من أجل فلسطين بالقلم.
أتقن عارف العارف لغات عديدة منها: الإنكليزية والتركية والفرنسية والألمانية والعبرية. وخصّص ثقافته ومعرفته وعلمه للدفاع عن فلسطين أو سورية الجنوبية, كما كان له أن يسميها.([5])
v                      بندلي الجوزي: (1871 – 1942).
رائد علم الاستشراق في روسيا, اشتهر مؤرخاً عربياً وباحثاً لغوياً. تولى كرسي اللغة العربية في جامعة قازان حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. ولد الجوزي في مدينة القدس تلقى علومه الابتدائية وقسماً من دراسة الثانوية في دير المصلبة في القسم الغربي من القدس. وتفوق في دراسته الثانوية فأُرْسِلَ سنة 1891 لاستكمال علومه الدينية في الأكاديمية الدينية في موسكو. ولم يرغب في الاستمرار هناك. فانتقل إلى أكاديمية قازان سنة 1895, وحصل منها على درجة الماجستير في اللغة العربية والدراسات الإسلامية 1899. عاد البندلي إلى القدس سنة 1900 ليقيم فيها لكن السلطات العثمانية أجبرته على مغادرة القدس والعودة إلى روسيا, وهناك تزوج وعمل أستاذاً للعربية, عاد إلى القدس في سنة 1909 في بعثة علمية مدة عام كامل أشرف خلاله على الرحلة العلمية للطلاب الروس إلى فلسطين. نشر بندلي الجوزي الأفكار التحريرية وحرض الناس على كسر القيود, والثورة على أوضاعهم, ومن مؤلفاته كتاب (الحركات الفكرية في الإسلام) الذي نال بفضله درجة الدكتوراه من جامعة موسكو, وله مؤلفات بالعربية والروسية بلغت نحو ستة وعشرين مؤلفاً, وترك تسع مخطوطات بالروسية ومخطوطين بالعربية.([6])
v                      توفيق بشارة كنعان: (1882 – 1964).
ولد توفيق كنعان في بلدة بيت جالا, درس الابتدائية في مدرسة (شنيلر) بالقدس أمضى ثلاث سنوات ونصف في دار المعلمين, ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت فتخرج طبيباً عام 1905, ثم عاد إلى القدس ليعمل مساعداً في المشفى الألماني.
وعمل طبيباً في الجيش العثماني بمدينة الناصرة خلال الحرب العالمية الأولى ثم عاد إلى عمله طبيباً في المشفى الألماني بالقدس (1918 – 1947). وأصبح مديراً لمستشفى أوغستا فكتوريا الألماني في القدس عام 1950. كتب عشرات المقالات التي توضح حقيقة القضية الفلسطينية, ومن مؤلفاته: (الموت أم الحياة) عام 1908م (الطب الشعبي) عام 1914, و(أولياء المسلمين ومقدساتهم) عام 1924, و(الصراع في أرض السلام) عام 1938.([7])
v                      موسى خليل البديري: (1883-1937).
أحد علماء القدس الكبار, ولد بمنزل في القدس القديمة بحي باب خان الزيت غرب الحرم القدسي, درس مختلف العلوم في أروقة المسجد الأقصى, سافر إلى الأستانة حيث أتم دراسته للعلوم الإسلامية فضلاً عن اللغة التركية, حصل على شهادة تؤهله للعمل في سلك القضاء, ولي منصب قاضي محكمة القدس القديمة سنوات طويلة, اشترك بالمقاومة بقيادة الشيخ عز الدين القسام, شكل الشيخ موسى البديري جمعية سرية لمقاطعة البضائع البريطانية والصهيونية, ومنع التجار العرب من معاملة تجار اليهود المهاجرين من أوربا وأمريكا إلى فلسطين, استشهد الشيخ موسى سنة 1937 في القدس عند باب الخليل وهو يدافع لمنع الجنود اليهود من دخول القدس القديمة.([8])
هذه نماذج من علماء القدس ورجالاتها ومثقفيها الكبار على سبيل المثال لا الحصر, أثروا الحياة الثقافية والفكرية في القدس, وقدموا التضحيات في سبيل الوطن, وأسهموا في الحفاظ على التراث المقدسي.
خاتمة:
ألقى هذا البحث الضوء على أهمية الحياة الثقافية والتعليمية في القدس إبَّان الحكم العثماني، وأظهر باختصار دور المدينة في صنع الثقافة بكل أطيافها، كما أوضح البعد التاريخي لمدينة القدس على أساس كونها من أهم مراكز الإشعاع الثقافي في المشرق العربي، والذي امتد تأثيره إلى العالم الإسلامي لما للقدس من أهمية دينية مقدسة.  
خلصت الدراسة إلى أهمية دور المسجد الأقصى في القدس بوصفه مركزاً دينياً وعلمياً في إغناء الحياة الثقافية والتعليمية لدى المجتمع المقدسي، وكانت له أهميته الكبرى في التأثير في الجوانب الاجتماعية الأخرى، فتنامى دور الاهتمام بظاهرة الأوقاف وبناء المؤسسات الخيرية.
ومن الناحية العلمية فإن سيطرة العثمانيين على الأوقاف والمساجد ووظائف التدريس أدى في النهاية إلى انهيار الحركة العلمية بسبب استيلائهم على واردات الأوقاف التي كانت مصدر التمويل الرئيسي للحركة العلمية في عصر المماليك، وبسبب جهل المدرسين العثمانيين بالعلوم الدينية نتيجة عدم تمكنهم من العربية، أضف إلى ذلك التحجر الفكري وطبيعة الحكم الجائر على مدى أربعة قرون.
وإن تطور الوضع الثقافي والتعليمي والوعي الاجتماعي على يد حملة العقول النيرة رواد النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر، وتوفر أدوات المعرفة كالمطابع والصحف والمدارس الرسمية، شكلت القدس سياجاً ثقافياً معرفياً قدمت من خلاله الكثيرين من الأعلام ورواد النهضة في مجالات العلوم المختلفة.



([1]) -  انظر نبيه عبد ربه, التلاقي المبارك في القدس, مجلة المعارج, العدد 107, ص174.
([2]) - المرجع السابق, ص175.
([3]) - أحمد سامح الخالدي, رحلات من دمشق إلى القدس, تقديم خيري الذهبي – وزارة الثقافة, دمشق 2009, ص12.
([4]) - انظر نبيه عبد ربه, مرجع سابق, ص177.
([5])  -  عارف العارف, تاريخ الحرم القدسي 1361 هـ - 1947م, تقديم خيري الذهبي, وزارة الثقافة – دمشق 2009, ص13-15, والموسوعة العربية, م12, ص732.
([6] ) -  انظر نبيه عبد ربه, المرجع السابق, ص183.
([7] ) - المرجع السابق, ص179.
([8]) -  المرجع السابق, ص179.

Previous Post Next Post