أولا: العدالة في الفكر الرأسمالي.
هي هدفٌ تابع لجوهر هذا الفكرِ (الحرية)، وكذا لا يُعارض هذا الهدفُ هدفًا أساسيًا آخرًا الذي هو تحقيق الكفاءة، فتحقيق العدالة في الفكر الاقتصادي الرأسمالي تدل على إعطاء أصحاب الحقوق حقوقهم سواء المادية أو الفكرية، فيُعطى كلَّ واحدٍ على حسب ما عنده من أصول رأسمالية سابقة، أو على حسب ما عنده من قدرات ومهارات.
وأما تحقيق العدالة بمعنى تقليل التفاوت في الثروة والدخل بين أفراد المجتمع فليست من بُنيةِ النظام الأساسية، وإنما جاءت تحت تأثيرات وضغط المد الاشتراكي في بداية القرن العشرين.
وكنتيجة للأزمات الاقتصادية التي مر بها العالم في بداية القرن الماضي برز ضرورة تدخل الدولة من جديد في الاقتصاد لتحقيق العدالة من خلال مراقبة سَير النشاط الاقتصادي والتدخل فيه عند وجود مشاكل، ومحاولة تخفيف حدة التفاوت في الدخول من خلال الضرائب التصاعدية، أو من خلال الإعانات الاجتماعية المباشرة، أو من خلال قيام الدولة بالمشاريع التي تستفيد منها بصورة أولية الطبقة الفقيرة.
والخلاصة أنَّ العدالة موجودة في أدبيات الفكر الرأسمالي ولكن من خلال رؤية خاصة تتحكم فيه الأسس التي قام عليها هذا الفكر، وتَقْدُمهُ في الأهمية أهدافٌ أُخرى، كما أنَّه عند التحقيق يتضح أنَّ النظام الرأسمالي في خلال سيره الطبيعي لا يحقق العدالة، بل إنَّ ظاهرة التفاوت هي ظاهرة ملازمة للاقتصاد الرأسمالي([1]).
ثانيُا : العدالة في الفكر الاشتراكي.
تحقيق العدالة في الفكر الاشتراكي هي الهدف الأساس له، ولكنه في الجانب التطبيقي يميل إلى المساواة أكثر من العدالة، ولذا يقوم بنزع ملكية عناصر الإنتاج من مالكيها واعتبار الطبقة المالكة (البرجوازية) طبقة لا بد من إزالتها على حسب مفهومه للعدالة رغم أنَّ حقيقة العدالة تُراعي كل فئات المجتمع، وهم نظروا إلى مصلحة طبقة واحدة تُسمى (البرولتاريا) وهي طبقة العمال الفقراء.
وهذا التصور الخاص للعدالة أدى إلى خسارة في جانب الكفاية لضعف الحواجز، وكانت النتيجة أنَّ المساواة تظهر على حساب النمو الاقتصادي([2])، وعلى مستوى العمل حصلت أيضاً خروقات في تقدير الجهود بعدالة؛ لأنَّ التقدير يَقوم به مُقَدِّرُون لا يخضعون لنظام السوق، وإنما إلى تقديراتهم الخاصة، فحصل الخلاف في مقدار الرواتب في الوظائف العامة.
كما أنَّ الجانب التطبيقي كانت فيه خروقاتٌ كثيرةٌ في تحقيق المساواة، فمن الحصول على امتيازات خاصة لذوي السلطة كالحصول على أولوية السكن الجيد والسلع والعلاج الممتاز محليًا، وحقُ الاستخدام الشخصي للثروة العامة كالسيارات الرسمية، إلى الحصول على الوظائف الممتازة ...الخ([3]).

ثالثُا : العدالة في الاقتصاد الإسلامي.
العدالة في توزيع الثروة والدخل في الاقتصاد الإسلامي هي جزء من العدالة التي يقيم عليها  الإسلام مجتمعه؛ لأن عدالة الإسلام تتم على كل المستويات، وتشمل كل جوانب الحياة الإنسانية ومقوماتها، وليست مجرد عدالة اقتصادية محدودة([4]).
ولذا فإنَّ لعملية تحقيق العدالة الاجتماعية في الاقتصاد الإسلامي أهمية كبرى، وتظهر هذه الأهمية من الاهتمام بها من خلال عدة مؤشرات وأدوات دينية ودنيوية.
ففي الجانب الديني هناك عبادات مفروضة تعمل على تحقيق العدالة في الجانب الاجتماعي كالزكاة، والكفارات والنفقات وغيرها، وتعتبر أدوات تحقيق التكافل من أكثر ما دعا إليها الشرعُ وحض عليها، كما أنّ إقامة التكافل وإشباع الحاجات للمحتاجين من مقاصد الشريعة.
وأما الجانب الدنيوي ففي هذه المرحلة يتم معالجة ما حصل من قصور بعد عملية الإنتاج في تخصيص الموارد واستغلالها، أو بسبب سوء التوزيع وعدم مكافأة عنصر العمل بما يستحق من أجور، فيتمُ معالجةَ عدم وصول الدخول إلى حد الكفاية - خلال التوزيع الأولي- بإيجاد مصفاة أخرى للدخول والثروات هي تحقيق العدالة للوصول إلى حد الكفاية، والابتعاد عن خط الفقر من خلال الزكاة، والصدقات والهبات والتكاليف الشرعية الأخرى ([5]).
ويؤكد هذه الأهمية اهتمام الشريعة الإسلامية بالعدالة الاجتماعية من خلال عدة من المظاهر ومنها:
1.    كثرة وشمول أدوات تحقيق العدالة، وتنوعها بين الإلزامية وغير الإلزامية.
2.    التصريح في القرآن الكريم إلى أنَّ من مقاصد الشريعة تخفيف التفاوت بين الناس في المال([6])، وما جاء في السنة من الاستعاذة من الفقرِ، ووجوبِ مدِّ يد العون للفقراء والمحتاجين.
3.    ربط تراتيب شرعية نتجت بسبب التقصير في جوانب عبادية بأدوات التوزيع التكافلي كالكفارات، وكذلك عدد من  الأحكام السلطانية كالفئ وخمس الغنيمة والخراج لنفس الغرض.
ولكن إقامة العدل الاجتماعي في الإسلام تتحقق بشكلٍ رئيسٍ من خلال تحقق العدل الاقتصادي، وذلك بتوفير الظروف الصحية لتوزيع عادل على المستوى الاقتصادي، وكذلك يمكن تحقيق العدالة إنْ لم تكن ممكنة عن طريق التوزيع العادل للدخل عن طريق الصدقة ([7]).
فتحقيق العدالة الاجتماعية كجزئية من جزئيات النشاط الاقتصادي ومرحلة من مراحل التوزيع في الاقتصاد الإسلامي تحقق الأهداف العامة للنشاط الاقتصادي الإسلامي بشكل عام، والتوزيع بشكلٍ أخص.
ولذا فإنَّ أهداف العدالة الاجتماعية في الاقتصاد الإسلامي تتمحور في تحقيق هدفين هما: توفير حد الكفاية لأفراد المجتمع المسلم، والتخفيف من حدة التفاوت في المجتمع المسلم.
والاتجاه في التوزيع الأولي للدخول والثروات ثم في إعادة التوزيع في الاقتصاد الإسلامي هو إعمال أصلين هما: أصل العدل، وأصل المواساة، فإعطاء المكسوب لمكتسبه الواحد أو المتعدد عدل، وإعطاء من لم يكتسب بعضاً مما اكتسبه غيره مواساة، وذلك أصل مشروعية الزكاة، وإخراج خُمس المغنم وإيثاره بما لم يكتسبه هو ولا غيره مواساة أيضاً من مثل إعطاء الفيء لمن عُيَّن له في الآية ([8]).
والعدالة في التوزيع تقوم على أساسينٍ، العدالة في تكافؤ الفرص، والعدالة في استحقاق الحصول على عائد الإنتاج.
فتكافؤ الفرص في العمل والتشغيل أمر ضروري لتحقق العدالة في التوزيع، وهذا يعني أنه لا بد من أن تُكفل فرص العمل والإنتاج للجميع، وتُضمن حرية التعامل والتعاقد. فقد وضع الله كل الموارد الطبيعية التي خلقها الله في خدمة الإنسانية جمعاء([9])، وشَرع الله أنْ تُعطى الفرصة لكل إنسان أن يعمل فيها([10])،
ومن الأمثلة التطبيقية على ذلك ما فعله عمر t مع ولديه عبد الله وعبيد الله y عندما عادا مع الجيش من العراق فقال لهم عامل عمر هناك  ": لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى، ها هنا مالٌ من مالِ الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه، فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق، ثم تبيعانه في المدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون لكما ربحه، فقالا: وددنا، ففعل، فكتب إلى عمر أنْ يأخذ منهما المال، فلما قدما، وباعا، وربحا، فقال عمر: أكل الجيش قد أسلف كما أسلفتما؟ فقالا: لا، فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما؛ أديا المال وربحه، فأمَّا عبد الله، فسكت، وأمَّا عبيد الله، فقال: يا أمير المؤمنين، لو هلك المال ضمناه. فقال: أدياه، فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضاً، فأخذ رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال([11])".
ويُفهم تكافؤ الفرص في الاقتصاد الإسلامي من بُعدين: 1- التمكين، 2- القسمة. أي: التمكين للجميع في المعايش فيما هو جاهز أو فيما هو محصل نشاط أو عمل، أما القسمة فهي مرهونة بقدرة البشر وسعيهم في الحياة الدنيا([12]). أي: أنَّ العدالة تتحقق بتكافؤ الفرص، وبعد ذلك تترك المواهب تعمل في الحدود التي لا تتعارض مع الأهداف العليا للحياة([13]).
والأساس الثاني وهو إقامة العدالة في استحقاق الحصول على عائد الإنتاج، وتظهر في حصول كل مجتهد وكل عامل على المكافأة العادلة المقابلة لجهده وعمله، ومَنعُ أيّ تعدٍ على هذا الحق بأي صورة، ولذا حَرَّم الإسلامُ الاحتكارَ، والربا والغرر والغش والقمار، وكل ما يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل([14]).
وهذه المرحلة لا تظهر ثمرتها إلا بوجود مرحلة العدالة في تكافؤ الفرص. وفي هذه المرحلة يتم توزيع الناتج وفق معايير عادلة، تتناسب مع الجهد المبذول، أو المخاطر المتضمنة، أو التكافل الاجتماعي المنشود([15]).
فيتضح أن المساواة ليست ضرورية، بل ربما يكون عدم المساواة مرغوباً بها لأسباب منها: أنَّ عدم المساواة يكون متماشياً مع عدالة أنَّ كل واحد يُخصِص ما يكسب، وهذا لا يحبط التطلعات، ولا يقتل المبادرة، ويشجع الناس للعمل بجد.
فمِنْ الثابتِ أنَّ العقيدة الإسلامية لا تدعو إلى مثالية المساواة بين الناس المصطنعة، وعلى أيِّ حال فالإسلام يوفر عددًا من الأدوات التي يمكن من خلالها إعادة تحقيق العدالة الاجتماعية وإزالة التفاوت الكبير([16]) كالزكاة والكفارات والنذور وغيرها، والتي تُسهم بشكل فعلي في نقل جزء من الأموال الموجودة لدى الأغنياء إلى الفقراء([17])، وأدوات تؤدي إلى تفتيت الثروات كالإرث والنفقات الواجبة، وعن طريق توسيع دائرة الثروة أيضاً بوسائل غير مباشرة مثل تحريم الربا والقمار والرشوة والاحتكار([18]).
وهذه الأدوات تعمل ضمن القواعد الهادفة إلى ضمان توزيع عادل للمداخيل المبنية على التعويض العادل لعوامل الإنتاج، وإلى تشجيع خَلقِ فرص تشغيل جديدة، وإلى إنشاء نظام حماية اجتماعية بهدف المساعدة المنتظمة للفقراء والمحتاجين والمسنين والمعاقين([19]).
فنظرة الإسلام للعدالة تقتضي أنَّ كل جهة من الجهات الموجودة في المجتمع تنظر إلى صاحب الحاجة، وحقه في إشباع حاجته، وتنظر إلى صاحب الجهد والعمل وحقه في أن ينال جزاء جهده وعمله.
فنخذرج مما سبق بأنَّ الإسلام يقر نتائج أنشطة السوق ما دامت ملتزمة بأحكام الشريعة الإسلامية، ولكن هذا لا يعني أنه لن يقوم بإصلاح هذه النتائج، فهو يتدخل في نتائج توزيع الدخل لصالح الفقراء والأضعف، وكذلك له من الأدوات ما تعمل على إعادة توزيع الثروة، وهذه الحقيقة تظهر من خلال الجمع بين  إقرار الحرية الاقتصادية مع مظاهر أهمية تحقيق العدالة السابقة.


[1] - انظر: نظرية التوزيع. رفعت العوضي. الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية. القاهرة. 1394هـ-1974م، ، ص251، وأصول الاقتصاد للبعلي، ص183. ومقدمة في الاقتصاد للقري، ص102-103.
[2] - انظر: أصول الاقتصاد الإسلامي للبعلي، ص184. ومقدمة في أصول الاقتصاد الإسلامي للقري، ص104.
[3] - نظم التوزيع الإسلامية. محمد أنس الزرقا. مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي. جامعة الملك عبدالعزيز. جدة. 1404هـ- 1984م. مجلد 2/العدد1، ص8.
[4] - حق الفقراء المسلمين في ثروات الأمة الإسلامية. عطية عبدالواحد. دار النهضة العربية-القاهرة. 1992م ، ص 31.
[5] - انظر: عدالة التوزيع والتنمية الاقتصادية، لأحمد منصور، مرجع سابق، ص174.
[6] - نظم التوزيع الإسلامية للزرقا، بتصرف، ص 46.
[7] - انظر: عدالة التوزيع والتنمية الاقتصادية. رؤية إسلامية مقارنة. أحمد إبراهيم منصور. مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت. سلسلة أطروحات الدكتوراه (66). ط 1. يونيو 2007م ، ص25، و138.
[8] - انظر: أصول النظام الاجتماعي، محمد الطاهر بن عاشور، الشركة التونسية للتوزيع- تونس، ط 2، 1985م، ص202.
[9] - انظر: العدالة الاجتماعية والتنمية في الاقتصاد الإسلامي، عبدالحميد براهيمي، مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، ط 1، سبتمبر 1997م، ص32.
[10] - منهج الاقتصاد في القرآن. زيدان عبدالفتاح قعدان. مؤسسة الرسالة- بيروت. ط 1. 1418هـ-1997م ، ص98.
[11] - موطأ الإمام مالك، مالك بن أنس، أبو عبدالله الأصبحي، دار إحياء التراث العربي- مصر، 1406هـ- 1986م، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، ج2/ص687. مسند الشافعي، محمد بن إدريس، أبو عبد الله الشافعي، شركة غراس للنشر – الكويت، ط 1، 1425هـ- 2004م، ترتيب: سنجر بن عبدالله الناصري، وتحقيق: ماهر ياسبن الفحل، ج1/ ص 252.
[12] - انظر: عدالة التوزيع والتنمية الاقتصادية، مرجع سابق، ص26.
[13] - انظر: العدالة الاجتماعية. لسيد قطب. دار الشروق- القاهرة. 1415هـ - ، ص28.
[14] - انظر: مقدمة في أصول الاقتصاد الإسلامي. محمد القري. دار حافظ-جدة. ط 2. 1414هـ - 1993م ، ص102.
[15] - انظر: الإنسان أساس المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية. عبدالحميد الغزالي. إصدار المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب. البنك الإسلامي للتنمية. جدة - المملكة العربية السعودية، ص22.
[16] - انظر: A Macro Model of Distribution in an Islamic Economy, Ausaf Ahmad,  J. Res. Islamic Econ., Vol. 2, No. 1, (1404/1984), P. 5.
[17] - أبحاث في الاقتصاد الإسلامي. محمد فاروق النبهان. مؤسسة الرسالة – بيروت. ط 1. 1406هـ- 1986م، ص39.
[18] - توزيع الدخل في الاقتصاد الإسلامي والنظم الاقتصادية المعاصرة، صالح حميد العلي، اليمامة- دمشق/ بيروت، ط 1، 1422هـ- 2001م، ص148.
[19] - انظر: الحاجات الأساسية وتوفيرها في الدولة الإسلامية. عابدين أحمد سلامة. بحث مقدم للمؤتمر العالمي الثاني للاقتصاد الإسلامي. جامعة الملك عبدالعزيز. جدة.مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي. م1.ع2 1404هـ-1984م، ص45.

Previous Post Next Post