مادة التاريخ الإسلامي
مظاهر الحضارة الإسلامية في العصر الأموي
مدخل:
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول اللّه وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد أخي الطَّالب، سلامُ الله عليكَ ورحمته وبركاته، ومرحبًا بك في الدرس الثاني والعشرين من سلسلة الدُّروس المقرَّرة عليك في إطار مادَّة التاريخ الإسلامي (2)، لهذا الفصل الدِّراسيّ، آملينَ أن تجدَ فيها كلّ المُتعة والفائدة، وكنا قد تناولنا معًا في الدرس السابق الكلام عن (مظاهر الحضارة الإسلامية في العصر الأموي (2))، وإليك هذا الدرس الذي تتعرف فيه على (مظاهر الحضارة الإسلامية في العصر الأموي (3))، فأهلًا وسهلًا بك:
ثمرات الدّرس:
عند نهاية هذا الدرس تستطيع بإذن الله أن:
أولًا: تتعرف على بعض مظاهر الحضارة الأموية في تأسيس المدن الجديدة والعناية بالطرق وتعمير البلدان.
ثانيًا: تتبين أنَّ من مظاهر الحضارة في الدولة الإسلامية الأموية العناية ببناء المساجد الكبرى والحرمين الشريفين.
ثالثًا: تتعرف على الحالة العلمية في عصر الدولة الأموية وكيف كانت النهضة الثقافية في ذلك العصر.
عناصر الدّرس:
22.1 تأسيس المدن الجديدة والعناية بالطرق وتعمير البلدان.
22.2 العناية ببناء المساجد الكبرى والحرمين الشريفين.
22.3 الحالة العلمية والنهضة الثقافية.
التّعريفات:
1      وعثاء الوَعْثُ من الرّمل: ما غابتْ فيه القوائمُ. ومنه اشتُقَّ وَعْثاء السَّفَر، يعني: المشقّة.
22.1 تأسيس المدن الجديدة والعناية بالطرق وتعمير البلدان.
أ- تأسيس المدن الجديدة:
كانت المدنُ العربيةُ الإسلامية من ثمراتِ النهضة الشاملة التي أرسى دعائِمَها الإسلامُ، ودليلًا على السَّبْقِ في ميدان العمارة، وبرهانًا على ما بلغه المسلمون من تقدمٍ علمي وحضاري. وقد ظهرت في الدولة الإسلامية مدن وحواضرُ تمتعت بأهمية كبيرة، إداريةٍ ودينيةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ، وكانت هذه المدن مراكزُ إشعاعٍ حضاريةً وعلميةً تَشِعُّ نورَ العلمِ والمعرفةِ إلى مختلِف جهات العالم، وبمثابةِ القلبِ النابضِ الذي يمدُّ البشريةَ بمادةِ الحياةِ والبقاء.
وفي هذه المدن برز علماءُ ومفكرون ذاعَ صِيتُهم عبر الزمان والمكان، بفضل مساهماتهم في مسيرةِ العلم والإيمان. وإليها كانِ يفِدُ طلابُ العلمِ والعلماء، والرَّحَّالةُ والتجار، يحملون في عودتهم إلى بلادهم حضارةَ الإسلام، ومشاعلَ العلم، وإنجازاتِ المسلمين. ومن الحقائق المسلَّم بها في تاريخ العمارة الإسلامية أن تشييدَ المدنِ العربيةِ الإسلاميةِ كان يسير وَفْقَ نظامٍ مدروسٍ وخُطط مُحكمة، وتصميمٍ دقيق، وشروطٍ مُحدَّدة، ليتسنى لها النموُّ والبقاءُ، كاختيار الموقع المناسب للمدينة، وتوفيرِ الحماية الطبيعية لها، ووسائلِ الدفاع عنها وتحصينِها إلى خُطط وأحياءَ، وطرقاتٍ وميادين، والعنايةِ بمرافقها العامة كالمساجدِ والأسواقِ والحمَّاماتِ والخانات، وتوصيلِ مياه الشربِ والرعايةِ الصحيةِ والاجتماعيةِ، وغير ذلك من أسسِ الإنشاء والعمارة.
وقد ساهم الأمويون في تأسيس وإنشاء عدد من المدن الإسلامية في الشرق والغرب، لا يزال معظمها قائمًا ومعروفًا حتى اليوم، ومن أهمها:
1- مدينة القيروان: (وتقع في الجمهورية التونسية) أسسها عقبة بن نافع الفهري في "إفريقية" (سنة 50-55هـ) في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان (41-60هـ) وهو أحد القادة الفاتحين لبلاد المغرب. وقد أصبحت هذه المدينةُ عاصمة الشمال الإفريقي كلِّه في عهد الأمويين، ومركزًا من أعظم المراكز الحضارية الإسلامية.
2- مدينة تونس (في الجمهورية التونسية أيضًا) أسسها حسان بن النعمان سنة (84هـ) وهو أحد القادة الكبار الذين شاركوا في فتح بلاد المغرب، ويُعدُّ الفاتحَ الحقيقي لهذه البلاد؛ لأنَّه قام ببعض الأعمال الإنشائية والإدارية المهمة كان لها الأثر البعيد في تثبيت الفتح الإسلامي في بلاد المغرب.
وقد سبق الحديثُ عن تأسيس مدينتي القيروان وتونس في الدروس التي خصصناها للفتوحات الإسلامية في عصر الخلافة الأموية.
3- مدينة واسط: في العراق أسسها الحجاج بن يوسف الثقفي (سنة 83هـ)، وتقع بين البصرة والكوفة. وبني وسطها قصرًا فخمًا بجوار المسجد الجامع، وجعل للقصر قبة خضراء كبيرة وعالية، وكان الاهتمام بتحصين المدينة واضحًا في الرؤية التخطيطية لها، فأنشئت الأسوار والخندق. ويكشف التوزيع الداخلي لخطط المدينة عن الرؤية الهادفة لإنشاء مركز حضاري متكامل، يصلح ليكون مركزًا إداريًّا يمكِّن الحجاج من فرض السلطة الأموية على العراق، ويقضي على الفتن والثورات التي كانت تهدد الأمويين في هذه البلاد.
ومن المدن التي أنشأها الأمويون -بالإضافة إلى ما ذكرنا- مدينة "الرُّصافة" بالقرب من "الرَّقّة" في العراق، أنشأها الخليفة "هشام بن عبد الملك" (105-125هـ) وأنشأ عبد العزيز بن مروان مدينة حلوان في مصر وأنشأ "الحكم بن عوانة الكلبي" –وهو من المجاهدين الفاتحين– مدينة "المحفوظة" في السند. وأنشأ عُمر بن محمد بن القاسم الثقفي "مدينة المنصورة" في السند أيضًا. وأبوه "محمد بن القاسم" هو الذي أتم فتح هذه البلاد كما مر سابقًا.
ب- العناية بالطرق وتعمير البلدان:
اهتمت الدولة الأمويةُ اهتمامًا كبيرًا بإنشاء الطرق لربط أجزائها التي امتدت في الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا، ولتيسير الاتصالِ ببعضها، ولتحقيقِ كثيرٍ من الأغراض، منها ما هو عسكري لتيسير حركة الجيوش، ومنها ما هو اقتصادي لتيسير حركة التجارة، ومنها ما هو إداري لتسهيل وصول الأخبار عن طريق البريد، ومنها ما هو ديني لتسهيل وصولِ حُجَّاجِ بيت الله الحرام من كل أنحاء الدولة إلى مكةَ المكرمة، لأداءِ فريضة الحج، وإلى المدينة المنورة لزيارةِ مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد عُمِّرت هذه الطرق بالخانات والاستراحات ليستريح الناس من وعثاء السفر، فوق ما كانت تتمتع به من أمن وأمان.
ومن بين الخلفاء الأمويين الذين أعطوا اهتمامًا كبيرًا للتعمير والبناء: الوليد بن عبد الملك (85-96هـ) فقد أنشأ عددًا من الطرق ومهَّدها، وبخاصة الطرقِ المؤدية للحجاز، كما حفر الآبارَ على طول هذه الطرق، ووظَّف لها مَن يهتم بها ويمدُّ الناسَ بمائها، واتجه بهمةٍ إلى بناء المساجد، وحَشَدَ لأعمالِ العمران آلافَ العمالِ الذين استقدمهم من مصر، ومن مناطقِ الشام المختلفة، ومن الهند وبلاد فارس.
وقد أولى الخلفاءُ وولاتُهم رعايةً كبيرةً لمشروعات الري وتطويرِها، كحفرِ الأنهار، وشقّ القنواتِ والجداول، وتوسيع شبكات الري، وإقامةِ السدود والقناطر، ومَسْحِ الأراضي الزراعية وإحيائها.
ففي خلافة معاوية (41-60هـ) قام زيادُ بن أبي سفيان -الوالي على البصرة- بحفر العديد من الأنهار فيها، منها: نهرُ مَعْقِل، ونهرُ أم حبيب، ونهرُ مُسْلم. وقد انتعشت الحياة الزراعية في البصرة بسبب ذلك، ووصلت وارداتها في ولاية زياد إلى ستين مليون درهم.
كما قام زياد بإنشاء قنطرة في الكوفة. وبذل الحجَّاج بن يوسف الثقفي (75-95هـ) جهودًا كبيرة في هذا الميدان، فقد أتم حفر نهر الأنبار، وقام بحفر أنهارٍ عديدة في المنطقةِ الواقعة بين الكوفة وواسط والبصرة، مِثْلَ نهرِ الصين (نسبة إلى بليدة تقع جنوب واسط يقال لها الصينية) ونهرِ الزابي، وغيره من الأنهار. 
ولما تولى خالدُ بن عبد الله القَسْري العراقَ (105-120هـ) أظهر مواهبَه في استصلاح الأراضي، وشقّ الأنهارِ والتعميرِ والبناء، فحفر بالعراق أنهارًا عديدة، ومن أشهرها: نهرُ المبارك، ونهرُ خالد، ونهر الجامع وغيرها. كما قام ببناء أسواقٍ جديدة، وجعل لكل أهل حِرْفةٍ مكانًا خاصًّا بهم. وقد بلغت نفقات حفر نهر "المبارك" اثني عشر مليون درهم، وكان هذا النهرُ يَسْقي مساحاتٍ واسعةً من أراضي السواد، وهي المناطق الواقعة بين واسط والبصرة.
وكان أعظمَ إنجاز قام به مَسْلمة بن عبد الملك في منطقة الجزيرة الفراتية (شمال العراق) بناءُ أكبرِ مشروع إروائي على نهر "البُليخ" وهو الذي عُرِف بسدّ مَسْلمة، ويقع بين مدينتي "رأس العين" و"الرَّقَّة"، وكان الماءُ الذي يتجمع في هذا السدّ في كل سنة مرةً حتى يملأَه يكفي أهلَه بقيةَ عامهم.
وفي مصر تولى عبدُ العزيز بن مروان أمرَها نحو عشرين عامًا (64-85هـ) فكانت له فيها إنجازات واضحة، وأدخل ضروبًا من الإصلاح، وبنى مقياسًا للنيل؛ وزاد في جامع عمرو بن العاص من ناحية الغرب، وأدخل في شماله رَحْبةً فسيحةً، وأقام على خليج أمير المؤمنين قنطرةً بطرف الفسطاط سنة 69هـ. وبنى مدينة حلوان واتخذها عاصمةً لولايته سنة 73هـ بعد أن تفشى وباء الجذام بالفسطاط، ونقل إليها بيتَ المال، وأنشأ بها بِركةً كبيرةً ساق إليها الماءَ من العيون القريبة من جبل المقطم على قناطِرَ معلقةٍ مُشَيَّدةٍ على أعمدةٍ تصِل عيونَ الماء بالبركة، وغَرَسَ عبدُ العزيز في حلوان الأشجارَ والنخيل، وبنى بها المساجدَ وغيرَها من البنايات الفخمة، حتى قيل: إنه بذل في سبيل ذلك مليونَ دينار.
ومن آثار الأمويين الخالدة في دمشق مجاري مياهها، فقد بلغ نظامُ مجاري الماء من الدقة بحيث أصبح لكل دار في دمشق نافورة خاصة بها، وذلك بفضل القنوات السبع الرئيسة التي شقها الأمويون لتوصيل الماء إلى أنحاء المدينة، والقناطرِ الكثيرة المقامة على الأعمدة التي شيدوها لتوصيل ماء الشرب إلى البيوت.
نشاط: 22.1
لكي تعمّق فهمك لهذا الدرس، قم بهذا النّشاط، ثمّ قارن ما تتوصل إليه بالإجابات النموذجية أدناه.
اختر الإجابة الصحيحة:
1- مدينة .......في العراق أسسها الحجاج بن يوسف الثقفي سنة 83هـ وتقع بين البصرة والكوفة وبنى وسطها قصرًا فخمًا بجوار المسجد الجامع (واسط - تونس- القيروان).
2- مدينة ...... وتقع في الجمهورية التونسية أسسها عقبة بن نافع الفهري في "إفريقية" (سنة 50-55هـ) في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان 41-60هـ (واسط - تونس- القيروان).
3- مدينة ........ أسسها حسان بن النعمان سنة (84هـ). (واسط - تونس- القيروان).
4- ........   تقع بالقرب من الرَّقّة في العراق، أنشأها الخليفة هشام بن عبد الملك 105-125هـ. (الرُّصافة – تونس - القيروان).
5- مدينة ....... في السند أنشأها الحكم بن عوانة الكلبي وهو من المجاهدين الفاتحين. (المحفوظة – الرّصافة - تونس).
الإجابات النموذجية:
1- واسط.
2- القيروان.
3- تونس.
4- الرّصافة.
5- المحفوظة.
22.2 العناية ببناء المساجد الكبرى والحرمين الشريفين
- العناية ببناء المساجد الكبرى والحرمين الشريفين:
وقد ازدهرت حركة بناء المساجد الكبرى في عهد الأمويين ازدهارًا كبيرًا، فوسَّعوا المساجد التي كانت موجودة من قبل، كالمسجد الحرام في مكة، والمسجد النبوي في المدينة النبوية، وجامع عمرو بن العاص في الفسطاط، والمسجد الكبير في صنعاء باليمن، كما أقاموا العديدَ من المساجد الجديدة، من أشهرها مسجدُ قُبة الصخرة الذي أنشأه عبدُ الملك بن مروان (65-85هـ) في القدس، و"المسجد الأقصى" الذي أعاد إعماره ابنه الوليد (85-96هـ)، و"المسجدُ الأموي" في "دمشق" الذي أنشأه الوليد أيضًا. وإليك الحديث عن عناية الوليد بن عبد الملك بالمساجد الثلاثة، وبناء المسجد الجامع بدمشق:
1- فأما المسجد الحرام: فقد اشترى الوليدُ كثيرًا من الدُّور التي كانت تقع حول الكعبة وهدمها وضمَّها إلى المسجد، وأرسل إلى خالد بن عبد الله القَسرْى عاملِه على مكة ثلاثين ألف مثقال ذهبًا فصفَّح باب الكعبة والميزاب والأساطين، وذلك لمزيد من التحسين والتجميل، وبنى سور المسجد على أعمدة من الرخام.
2- وأما المسجد النبوي: فقد أمر الوليدُ ابن عمه عمرَ بن عبد العزيز -وكان واليًا على المدينة النبوية (من 87 – إلى 93هـ) أن يهدَم المسجدَ النبوي، ويعيدَ بناءَه وتوسعتَه، وأرسل إليه أموالًا كثيرةً لهذا الغرض، وثمانين عاملًا من عمال البناء، من الشام وقِبْط مصر، وكمياتٍ كبيرةً من الفُسيفساء، وقد عَهِد عُمَرُ بالإشراف على البناء إلى واحد من كبار الفقهاء التابعين، وهو "صالح بن كيسان" (المتوفى في حدود 140هـ) وكان مؤدبًا لعمر بن عبد العزيز ثم لأولاده، وكان ثقةً، صالحًا، فقيهًا، مُحدثًا.
روى ابن جرير الطبري في أحداث (سنة 87هـ) أنه في شهر ربيع الأول من هذه السنة قدم كتاب الوليد بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز يأمره بهدم المسجد النبوي، وإضافة حُجَر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وأن بوسعه من قبلته وسائر نواحيه، حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع، وقال له "فمن باعك ملكه فاشتره منه، وإلَّا فقومه له قيمة عَدْل ثم اهدمه، وادفع إليهم أثمان بيوتهم، فإن لك في ذلك سَلَفَ صدق "عمر وعثمان".
ويروى أن سعيد بن المسيب -رحمه الله- أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد، "كأنه خشي أن يُتخذ القبرُ مسجدًا" كما يقول الحافظ ابن كثير.
وقد استمر العملُ في البناء نحو ثلاث سنوات. وفي سنة 91هـ حج الخليفة الوليد بن عبد الملك، وزار المسجد النبوي، فلما قرب من المدينة، أمر عمرُ بن عبد العزيز أشراف المدينة أن يتلقوه، فرحب بهم وأحسن إليهم، فلما دخل المدينة أخلى له المسجد النبوي ليتجول فيه. وفي يوم الجمعة خطب الوليد على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف من صلاته فرَّق على الناس من أهل المدينة ذهبًا كثيرًا، وفضةً كثيرة -أي دنانير ودراهم- ثم كسا المسجد النبوي من كسوة الكعبة التي معه، وكانت من ديباج غليظ.
3- وأما المسجد الأقصى: فقد أعاد إعماره الوليدُ بالقرب من مسجد قُبة الصخرة، وهو المسجدُ الذي بناه أبوه عبد الملك (سنة 72هـ) فوق الصخرة التي عُرج بالرسول صلى الله عليه وسلم من فوقها ليلة الإسراء والمعراج. وقد زين الوليد المسجدَ الأقصى بالفُسَيْفسُاء والرخام، واحتفل ببنائه كاحتفاله بالمسجد الحرام والمسجد النبوي.
4- بناء الجامع الأموي بدمشق: ومن أعظم المساجد التي أنشأها الوليدُ بنُ عبد الملك هو "المسجد الأموي" في دمشق. "ولا يُعرف في الآفاق أحسنَ بناءً منه"، كما يقول المؤرخ ابن كثير في تاريخه وقد شرع في بنائه في ذي الحجة من سنة (86هـ)، واستمر في بنائه وتحسينه مدة خلافته (86-96هـ) وهي عشر سنين، فلما أنهاه انتهت أيام خلافته.
وقد كان موضعُ هذا المسجد كنيسةً يقال لها: كَنيسة يوحنا، فلما فتح الصحابةُ دمشق (13هـ) جعلوها مناصفةً، فأخذوا منها الجانبَ الشرقي، فحوَّلوه مسجدًا، وبقي الجانب الغربيّ كنيسةً بحاله، منذ سنة أربع عشرة إلى سنة 86هـ، فعزم الوليدُ على أَخْذ بقية الكنيسة منهم، وعوَّضهم عنها كنيسةَ مريم، وقيل: عوَّضهم عنها كنيسة تُوما، وهدم بقية هذه الكنيسة، وأضافها إلى مسجد الصحابة، وجعل الجميعَ مسجدًا واحدًا على هيئة بديعة، لا يعرِفُ كثيرٌ من الناس أو أكثرُهم لها نظيرًا في البنيان والزينات والآثار العمارات.
وقد بُني المسجدُ الأموي مستطيلَ الشكل، له ثلاثةُ مداخل، وأربعُ مآذن، وفي وسطه صحنٌ مكشوف، تُحيطُ به أربعةُ أَرْوِقة، أكبرُها رُوَاقُ القبلة، وغُطِّيتْ أرضيتُه بالرُّخام والمرمر، وكذلك جدرانهُ وأعمدته إلى قامة الإنسان وفوق الرخام زخارفُ من الفُسَيْفُساء المذهَّبة، وجُعِل سَقْفُه من الرُّصاص، وبه ستمائةُ سلسلة من الذهب تتدلى منها قناديلُ للإنارة. وقد أُنفِقَ على بناء الجامع (خمسةُ ملايين وستمائة ألف دينار) وقيل: (أحد عشر مليون ومائتا ألف دينار) وقيل: (أكثر من ذلك بكثير).
وبسبب هذه الأموال الطائلة تعرض الوليد للانتقاد، وشاع بين الناس أنه أنفق بيوت الأموال في غير حقها، فأمر بأن يُجمع له الناس، فخطب فيهم قائلًا: "إنه بلغني عنكم أنكم قلتم: أنفق بيوت الأموال في غير حقها. ثم قال: يا عمرو بن مُهاجر، قم فأحضر أموال بيت المال"، فحُملت على البغال إلى الجامع، ثم بُسط لها الأنطاع تحت قبة النسر، ثم أفرغ عليها المال ذهبًا صبيبًا، وفضة خالصة، حتى صارت كومًا، حتى كان الرجل إذا قام من الجانب الواحد لا يرى الرجلَ من الجانب الآخر، وهذا شيء كثير، ثم جيء بالقبانين (عمال الموازين) فوزنت الأموال، فإذا هي تكفي الناس ثلاث سنين مستقبلة -وفي رواية: ست عشرة سنة مستقبلة- لو لم يدخل للناس شيء بالكلية. فقال لهم الوليد: "والله ما أنفقت في عمارة هذا المسجد درهمًا من بيوت المال. وإنما هذا كله من مالي" ففرح الناس وكبروا، وحمدوا الله عز وجل على ذلك، ودعوا للخليفة وانصرفوا شاكرين داعين.
وقد استمر الخليفة سليمان بن عبد الملك (96 - 99هـ) يعمل في تكملة الجامع الأموي بعد موت أخيه الوليد، وجدد مَقْصُورتَه. فلما ولي عمر بن عبد العزيز (99-101هـ) رأى أنَّ الخليفة الوليد قد بالغ في الإنفاق على بناء المسجد، فعزم على أن يجرده مما فيه من الذهب، وأن يقلع السلاسلَ الذهبية، ويردَّ ذلك كلَّه إلى بيت المال، فشق ذلك على أهل دمشق، واجتمع أشرافُهم إليه، ونقل خالدُ بن عبد الله القَسري شكواهم، وقال له: يا أمير المؤمنين بلَغَنا عنك كذا وكذا. قال: نعم. فقال خالد: ليس ذلك يا أمير المؤمنين. قال: فلِمَ قلتَ ذلك ؟ قال: "لأنَّ غالبَ ما فيه من الرخام، إنما حمله المسلمون من أموالهم من سائر الأقاليم، وليس هو لبيت المال" فأطرق عمر -أي: سكت.
ويُعدُّ المسجد الجامع بدمشق من مفاخر بني أمية، ولما دخله الخليفة المهدي -العباسي (156-169هـ) قال لكاتبه أبي عبيد الله الأشعري: "سبقنا بنو أمية بثلاث: بهذا المسجد الذي لا أعلم على وجه الأرض مثله. وبنُبْل الموالي، وبعمر بن عبد العزيز، لا يكون –والله- فينا مثله أبدًا". فلما زار المهدي بيت المقدس ونظر إلى قبة الصخرة -وكان عبد الملك بن مروان هو الذي أمر ببنائها- قال: "وهذه رابعة". ولما دخل الخليفة المأمون العباسي (المتوفى 218هـ) دمشق ونظر إلى جامعها -وكان معه أخوه المعتصم وقاضيه يحيي بن أكثم- قال: ما أعجبُ ما فيه؟ فقال أخوه: هذه الأذهاب. وقال يحيي: الرخام وهذه العُقد. فقال المأمون: "إني إنما أعجب من حسن بنيانه على غير مثال متقدم".
والحاصل -كما يقول ابن كثير- "أن الجامع الأموي لما كمُل بناؤه لم يكن على وجه الأرض بناء أحسنَ منه، ولا أبهى ولا أجملَ منه، بحيث إنه إذا نظر الناظرُ إليه أو إلى جهةٍ منه، أو إلى بقعة أو مكانٍ منه تحيرَّ فيها نظرهُ لحسنه وجماله، ولا يملُّ ناظره، بل كلما أدمن النظرَ بانت له أعجوبة ليست كالأخرى".
هذا، وقد عقد ابن كثير في تاريخه فصلًا طويلًا -في أحداث سنة 96هـ وهي السنة التي تكامل فيها بناء الجامع الأموي بدمشق- فذكر قصة البناء، وتاريخ المكان الذي بُني عليه منذ عصر اليونان، ثم الرومان، إلى أن فتح المسلمون دمشق، وحوَّلوا النصف الشرقي من كنيسة يوحنا إلى مسجد، إلى أن جاء الوليد بن عبد الملك (85 - 96هـ)، وأمر بتوسعته وبنائه، كما ذكر كيفيةَ بنائه، والأموالَ التي أُنفقتْ، والموادَّ التي استُخدمت في البناء، وقصَّ ما حدث من النصارى في مشهد هَدْم الجزء الغربي من الكنيسة وإدخالهِ في المسجد، وتعويضهم بديلًا عنها كنيسةً أخرى. وذكر جانبًا من أقوال العلماء والإخباريين عن روعة المسجد وبهائه، وما قيل في شأنه من أشعار ومدائح، كما أنه أرخ لبعض الوقائع التي تعرض لها المسجد، كالهدم والحرائق في سنوات لاحقة، مثل سنة 461هـ، 745هـ، 770هـ وغيرها. وكذلك الإضافات التي أضيفت إليه وألحقت به. كما أنه أشار إلى الساعات المعلقة على بعض أبوابه وطريقة عملها، وما ورد في فضل هذا المسجد من الآثار والأخبار.
نشاط: 22.2
لكي تعمّق فهمك لهذا الدرس، قم بهذا النّشاط، ثمّ قارن ما تتوصل إليه بالإجابات النموذجية أدناه.
ضع علامة (√) أمام العبارة الصحيحة وعلامة (×) أمام العبارة الخاطئة:
1- أقام الأمويون العديدَ من المساجد الجديدة، من أشهرها مسجدُ قُبة الصخرة في القدس الذي أنشأه عبدُ الملك بن مروان.
2- استمر العملُ في إعادة بناء المسجد النبوي نحو ثلاث سنوات كان المشرف على ذلك صالح بن كيسان في فترة ولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة المنورة.
3- المسجد الأموى بدمشق كان أولًا موضع كنيسةٍ يقال لها: كَنيسة يوحنا.
4- عقد ابن كثير في تاريخه فصلًا طويلًا -في أحداث سنة 196هـ وهي السنة التي تكامل فيها بناء الجامع الأموي بدمشق.
الإجابات النموذجية:
1- (√)، 2- (√)، 3- (√)، 4- (×).
22.3 الحالة العلمية والنهضة الثقافية.
- الحالة العلمية:
كانت الحركةُ العلميةُ بمختلَف اتجاهاتِها في العصر الأموي امتدادًا للحركة العلمية التي بدأتْ منذ عهدِ النبي صلى الله عليه وسلم، ونَمتْ في عهد الخلفاء الراشدين، وأخذت العلوُم تتمايز وتنفرد عن بعضها، ويصبح لكل منها مدارسُه ورجالهُ، بعد أن كانت العلومُ ممتزجةً ومتداخلة بعضُها في بعض، فالرسولُ صلى الله عليه وسلم كان يُعلِّم المسلمين أمورَ دينهم ودنياهم، ويفسِّرُ لهم ما أُلهِم عليهمِ من القرآن الكريم، وبعد وفاته أصبح أصحابُه همُ المعلمين للتابعين.
ولم يكن الصحابةُ –رضوان الله عليهم– على درجة واحدة من العلم والفقه، بل كانوا متفاوتين في ذلك، ولعل أفضلَ ما صوَّر اختلاف الصحابة وتباينهم في درجات العلم قول "مسروق" (المتوفى 62هـ) وهو أحد التابعين: "جالست أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فوجدتُهم كالإخاذ –أي مثل غدير الماء– فالإخاذُ يروي الرجلَ والإخاذُ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض صَدَرَهم" أى لرواهم جميعًا.
وهذا يعنى أن الصحابة ليسوا جميعًا على درجة واحدة من العلم والفقه، وإنما كان بعضهم أعلم من الآخر، ويكون عند بعضهم من العلم والفقه ما ليس عند البعض الآخر.
وقد اشتَهَر عدد من كبار الصحابة بالعلم دون غيرهم، كالخلفاء الراشدين الأربعة، وأمِّ المؤمنين "عائشة"، و"ابن عباس"، و"ابن مسعود"، و"زيد بن ثابت الأنصاري"، و"أَبي الدرداء"، و"أَبي هريرة"، و"معاذِ بن جبل" رضوان الله عليهم  جميعًا. غير أن هؤلاء الصحابةَ بقي بعضُهم في "المدينة المنورة" و"مكةَ المكرمة"، وتفرق بعضُهم الآخرُ في الأمصار والأقاليم المفتوحة، ولم يكن الواحد منهم يُعلِّم علمًا واحدًا، وإنما يتكلّم في علوم كثيرة، وربما تحدث في جلسة واحدة في الفقه، والحديث، والتفسير والسيرة والمغازي، والأدب شعرِه ونثره.
وكانت المراكزُ الرئيسةُ للحركة العلمية عندئذ هي المساجد، ثم نشأت المكاتب لتحفيظ الصبيان القرآن الكريم، وتعليمهم مبادئَ العلوم الإسلامية، ثم بدأت العلومُ يمتاز ويتميز بعضُها عن بعض، وعُرِف رجالٌ بالتفسير، وآخرون بالحديث، واختُصَّ غيرُهم بالفقه. ولا يعني هذا أنَّ المفسرَ أو الفقيهَ لا يَعرِفُ غيرَ ما تخصص فيه من العلم واشْتُهِر به، وإنما يوضع الرجل بين رجال العلم الذي تميز فيه، وأصبح حجةً وإمامًا، فالإمام "مالك بن أنس" (ت 179هـ) اشتهر بالفقه، وصار صاحبَ مذهبٍ فقهي معروف، لكنه من رجالِ الحديث الكبار، ويعرف التفسير؛ فلو لم يكن كذلك ما استطاع أن يضعَ القواعدَ الفقهيةَ ويستنبطَ الأحكام من أدلتها التفصيلية؛ لأنَّ الفقهَ يقوم على الاستنباط من القرآن والسنة.
- تدوين العلوم:
ثم خطت الحركة العلمية خطوة كبيرة في ذلك الوقت، ببدء حركة تدوين العلوم، ولم يكن المسلمون يفعلون ذلك من قبل، وإنما اعتمد الصحابةُ على الذاكرة في الحفظ، والذين عُرف عنهم أنهم دَوَّنوا بعضَ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة عدد قليل، كأبي هريرة، و"عبد الله بن عمرو بن العاص" الذي سمح له النبي صلى الله عليه وسلم بتدوين أحاديثه؛ فدوَّنها في صحيفة كان يقول عنها: "الصادقة"، وهذه الصحيفة اشتملت على ألف حديث. وكان عبد الله بن عمرو يفخر أن ليس بين الرسول وبينه فيها أحد.
ومنذ منتصف القرن الأول للهجرة تقريبًا بدأت حركة التدوين بداية متواضعة، فيُروى أن "معاوية بن أبي سفيان" (المتوفى سنة 60هـ) أمر بتدوين ما يرويه له في مجلسه "عُبيد بن شَريّة" من تواريخ ملوك "اليمن" القدامى وغيرهم، وكان "معاوية" مولعًا بمعرفة تواريخ الأمم السابقة، وأن "عبد العزيز بن مروان" الوالي على "مصر" (65-85هـ) أرسل إلى "كثير بن مرة الحضرمي" أن يكتب له ما سمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أحاديث "أبي هريرة رضي الله عنه " فإنها موجودة عنده.
ثم جاءت الخطوة الحاسمة في التدوين، حين أمر "عمر بن عبد العزيز" أثناءَ خلافته (99-101هـ) "أبا بكر بن حزم" الوالي على "المدينة" –وكان من العلماء– أن يدوِّن أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، خوفًا من ضياع العلم وذَهَابِ العلماء، ثم تتابعت حركة التدوين، فدوَّن "محمد بن مسلم بن شهاب الزُّهْري" (ت 124هـ) و"يزيد بن أبي حبيب المصري" وغيرهما، وانتقل التدوين إلى العلوم الأخرى، فدوِّن علمُ الفقه والتفسير وغيرهما.
وشجع الخلفاء الأمويون الحركة العلميةَ بصفة عامة، وحركةَ التدوين بصفة خاصة، وبدأ في عصرهم ظهورُ طبقة المعلمين؛ لأنَّ الخلفاءَ أنفسَهم كانوا مهتمين بتعليم أولادهم، وبخاصة العلومَ الإسلامية، فاختاروا لهذه المهمة أصلحَ المعلمين الذين كانوا يسمون أيضًا بالمؤدبين، ولم تكن مهمتهم تعليمية فحسب، بل كانت تربوية أيضًا.
ومن أشهر هؤلاء المعلمين: "دِغْفَلُ بن حَنظلة الشيباني"، اختاره "معاويةُ بن أبي سفيان" لتعليم ابنه "يزيد" وتهذيبه. و"الضحاكُ بن مُزاحم" (المتوفى 102هـ) و"عامرُ بن شَراحبيل الشَّعْبي" (المتوفى 104هـ) و"إسماعيلُ بن عُبيد الله بن أبي المهاجر" (المتوفى 132هـ)، وهؤلاء الثلاثةُ من كبار علماء التابعين، واختارهم "عبد الملك بن مروان" لتعليم أولاده وتأديبهم. وقد حذا أشرافُ الناس والأغنياء حَذْوَ الخلفاء في تعليم أولادهم على أيدي مربين ومؤدبين، مما أعطى دفعةً للحركة العلمية في ذلك العصر.
وعلى الرغم من ضياع المدوَّناتِ والمؤلفاتِ التي كُتبت في العصر الأموي، فإن معظمَ محتوياتها وصلت إلينا في المؤلفات الكثيرة التي ألفت في العصر العباسي الذي يبدأ سنة 132هـ فمرويات "الطبري" (ت 310هـ) عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرتِه أخذها ممن رواها عن كُتَّاب المغازي والسيرة الأوائل الذين ضاعت مؤلفاتهم، كـ "أبان بن عثمان بن عفان" (ت 105هـ)، و"عروة بن الزبير" (ت 93هـ)، وغيرهما.
العلوم التي تطورت في عهد الأمويين؛ منها علم التفسير، وعلم الحديث النبوي، والفقه، وعلوم اللغة العربية، وعلم السيرة النبوية والمغازي والتاريخ.
1- علم التفسير: هو العلم الذي يبحث في بيان معاني آيات القرآن وأسلوبه وبيانه، إلى غير ذلك مما حفلت به كتب التفسير من مصطلحات هذا العلم؛ كالمجمل والمفصّل، والمحكَم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول. ومع كون الصحابة –رضوان الله عليهم– أقدرَ الناسِ على فهم القرآن الكريم، فإنهم اختلفوا في فهمه على حسب اختلاف قُدراتهم العقلية، واشتهر منهم بالتفسير وفهم القرآن الكريم: الخلفاء الراشدون، و"ابنُ مسعود" و"ابنُ عباس"، و"أبيُّ بن كعب"، و"زيدُ بن ثابت" -رضي الله عنهم.
وعن هؤلاء وغيرهم تلقى التابعون، وعلى رأسهم: "مجاهدُ بن جبر" (ت 102هـ) و"عطاءُ بن أبي رَباح"، و"عِكْرمةُ مولى ابن عباس"، و"سعيد بن جُبَيْر" (ت 95هـ)، و"سعيدُ بن المسيِّب" (ت 93هـ)، و"الحسنُ البصري" (ت 110هـ)، و"محمد بن سيرين" (ت 110هـ)، وبعض هؤلاء ألفوا كتبًا في التفسير، لكنها ضاعت ولم تصل إلينا، كما ضاعت كتبُ التفسير أُلِّفت بعد عصر التابعين، ومنها ما نُسب إلى "سفيانَ بن عُيينة" (ت 198هـ)، و"وكيع بن الجَرَّاح" (ت 197هـ)، و"عبد الرزاق بن هَمَّام الصنعاني" (ت 111هـ)، وكثيرٍ غيرهم.
والخلاصة: أنه لم يصل إلينا كتابٌ في التفسير يرجع إلى العصر الأموي، وأولُ كتاب في التفسير وصل إلى أيدي الناس هو كتاب "معاني القرآن" للفرَّاء المتوفى سنة (207هـ)، ثم توالت بعده مُطوَّلات كُتب التفسير، لعل من أشهرها تفسير الإمام "الطبري" المتوفى سنة (310هـ)، المعروف باسم "جامعُ البيان عن تأويل آي القرآن".
2- علم الحديث: وقد حَرَص الصحابةُ على حفظ كل ما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يٍسألونه ليبينَ لهم ما غَمُضَ عليهم فَهْمُه من القرآن، وهذا من وظائفه لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وقد أمرهم الله تعالى باتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يقول أو يفعل، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، وحذَّرهم من مخالفته صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وسار المسلمون على نَهْج الرسول صلى الله عليه وسلم، وتلقَّفُوا كلَّ ما يتلفظ به يحفظونه عن ظهر قلب، ويعملون به. وكان الحديثُ هو أولُ العلوم التي اشتغلوا بها، لكنهم لم يدوِّنوه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا القليل النادر ويُروى أنه هو نفسُه نهاهم عن ذلك، لئلا يختلطَ بالقرآن، فقال: «لا تكتبوا عني، فمن كتب عنيَ غير القرآن فَلْيَمْحُه». [صحيح مسلم]، بالإضافة إلى أن الصحابةَ أنفسَهم كانوا يتحرَّجون من الإكثار في رواية الحديث، تهيبًا وخوفًا من الخطأ والنسيان.
وقد ظلت أحاديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناقلها العلماءُ مشافهةً جيلًا بعد جيل حتى نِهايةِ القرنِ الأول الهجري، وإن دوَّن بعضُ الناس أحاديثَ رسولِ الله كعبد الله بن عمرو بن العاص الذي أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث في حياته، وما رواه البخاري من أنَّ (أبا شاه اليمني)، التمس من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتبَ شيئًا من خطبته عام الفتح، فقال: «اكتبوا لأبي شاه»، ثم أمر الخليفةُ "عمر بن عبد العزيز" بتدوين الحديث، خوفًا من ضياعه بموت العلماء الذين يحفظونه، فكتب إلى "أبي بكر بن حزم" (والي المدينة) وغيرِه من ولاة الأقاليم، وطلب منهم جَمْعَ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتدوينهِا، ومن ثَمَّ بدأ المسلمون يُقْبِلون على ذلك، وبمُضِيِّ الزمن تضاعفتْ جهود العلماء في هذا الميدان، ومن أشهر الرجال الذين اشتغلوا بجمع الحديث وروايته وتدوينه في العصر الأموي: "محمدُ بن مسلم بن شهاب الزُّهْرِي" المتوفَّى سنة (124هـ)، و"ابن جُرَيْج المكي" المتوفى سنة (150هـ)، و"ابنُ إسحاق" المتوفى سنة (151هـ)، و"مَعْمَرُ بن راشد اليمني" المتوفى سنة (153هـ)، و"سفيانُ الثوري" المتوفى سنة (161هـ)، و"مالكُ بن أنس" المتوفى سنة (179هـ)، غير أن هؤلاء كلهم عدا "ابن شهاب الزهري" عاشوا صَدْرَ حياتهم في العصر الأموي وبقية حياتهم في العصر العباسي.
لكنَّ الخطواتِ الحاسمةَ في تدوين الحديث، ووَضْع المنهجِ العلمي الدقيق لتوثيقه، وقَبول روايتهِ، وتصنيفه إلى صحيح وحسن وضعيف، ووَضْعِ علومه، وقواعدِ الجَرْح والتعديل -أي نقد رجال السند- جاء في القرن الثالث الهجري، بظهور أئمة الحديث كالبخاري، و"مسلم"، و"الترمذي"، و"النسائي"، و"أبي داود" وغيرهم، وذلك في العصر العباسي.
نشاط: 22.3
لكي تعمّق فهمك لهذا الدرس، قم بهذا النّشاط، ثمّ قارن ما تتوصل إليه بالإجابات النموذجية أدناه.
أكمل ما يأتي:
1- لم يصل إلينا كتابٌ في التفسير يرجع إلى العصر ........، وأولُ الكتب التي وصلت إلى أيدي الناس هو كتاب ....... القرآن للفرَّاء ثم توالت بعده مُطوَّلات كُتب التفسير في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين لعل من أشهرها تفسير الإمام ......... المعروف باسم ...... البيان عن تأويل آي القرآن.
2- لم يكن المسلمون يدونون العلوم وإنما اعتمد الصحابةُ على ....... في الحفظ، والذين عُرف عنهم أنهم دَوَّنوا بعضَ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة عدد قليل مثل ........... و ..........
3- أمر عمر بن عبد العزيز في أثناءَ خلافته 99 - 101هـ ........ الوالي على المدينة أن يدوِّن أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، خوفًا من ضياع ........ وذَهَابِ العلماء.
4- الخطواتِ الحاسمةَ في ...... الحديث، ووَضْع المنهجِ العلمي الدقيق لتوثيقه، وقواعدِ الجَرْح والتعديل جاء في القرن ....... الهجري، بظهور أئمة الحديث كالبخاري، ومسلم، و...... ، والنسائي، وأبي داود وغيرهم، وذلك في العصر ........
الإجابات النموذجية:
1- الأموي - معاني - الطبري - جامعُ.
2- الذاكرة - أبي هريرة - عبد الله بن عمرو بن العاص.
3- أبا بكر بن حزم – العلم.
4- تدوين - الثالث - الترمذي - العباسي.
ملخّص الدّرس:
- كانت المدنُ العربيةُ الإسلامية من ثمراتِ النهضة الشاملة التي أرسى دعائِمَها الإسلامُ، ودليلًا على السَّبْقِ في ميدان العمارة، وبرهانًا على ما بلغه المسلمون من تقدمٍ علمي وحضاري. وقد ساهم الأمويون في تأسيس وإنشاء عدد من المدن الإسلامية في الشرق والغرب، لا يزال معظمها قائمًا ومعروفًا حتى اليوم، ومن أهمها:
1- مدينة القيروان: (وتقع في الجمهورية التونسية) أسسها عقبة بن نافع الفهري في "إفريقية".
2- مدينة تونس (في الجمهورية التونسية أيضًا) أسسها حسان بن النعمان سنة 84هـ.
3- مدينة واسط: في العراق أسسها الحجاج بن يوسف الثقفي (سنة 83هـ) وتقع بين البصرة والكوفة.
- اهتمت الدولة الأمويةُ اهتمامًا كبيرًا بإنشاء الطرق لربط أجزائها التي امتدت في الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا وقد أولى الخلفاءُ وولاتُهم رعايةً كبيرةً لمشرعات الري وتطويرِها، كحفرِ الأنهار، وشقّ القنواتِ والجداول، وتوسيع شبكات الري، وإقامةِ السدود والقناطر، ومَسْحِ الأراضي الزراعية وإحيائها.
ازدهرت حركة بناء المساجد الكبرى في عهد الأمويين ازدهارًا كبيرًا، فوسَّعوا المساجد التي كانت موجودة من قبل، كالمسجد الحرام في مكة، والمسجد النبوي في المدينة النبوية، وجامع عمرو بن العاص في الفسطاط، والمسجد الكبير في صنعاء باليمن.
- كانت الحركةُ العلميةُ بمختلَف اتجاهاتِها في العصر الأموي امتدادًا للحركة العلمية التي بدأتْ منذ عهدِ النبي صلى الله عليه وسلم، ونَمتْ في عهد الخلفاء الراشدين, تدوين العلوم: وخطت الحركة العلمية خطوة كبيرة في ذلك الوقت، ببدء حركة تدوين العلوم، ولم يكن المسلمون يفعلون ذلك من قبل, وقد تطورت العلوم في عهد الأمويين، من هذه العلوم علم التفسير، وبعده علم الحديث النبوي، ثم الفقه، ثم علوم اللغة العربية، وأخيرًا علم السيرة النبوية والمغازي والتاريخ.
تمارين الدّرس:
لكي تعمّق فهمك لهذا الدرس، قم بهذا النّشاط، ثمّ قارن ما تتوصل إليه بالإجابات النموذجية أدناه.
ضع علامة (√) أمام العبارة الصحيحة وعلامة (×) أمام العبارة الخاطئة:
1- تشييد المدن العربية الإسلامية لم يكن يسير وَفْقَ نظامٍ مدروسٍ وخُطط مُحكمة.
2- بلغ نظامُ مجاري الماء من الدقة عند الأمويين بحيث أصبح لكل دار في دمشق نافورة خاصة بها.
3- كان من بين الخلفاء الأمويين الذين أعطوا اهتمامًا كبيرًا للتعمير والبناء: الوليد بن عبد الملك.
4- ازدهرت حركة بناء المساجد الكبرى في عهد الأمويين ازدهارًا كبيرًا، فوسَّعوا المساجد التي كانت موجودة من قبل.
5- أكثر الصحابةَ في تدوين الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
6- من أشهر الرجال الذين اشتغلوا بجمع الحديث وروايته وتدوينه في العصر الأموي: محمدُ بن مسلم بن شهاب الزُّهْرِي.
الإجابات النموذجية:
1- (×)، 2- (√)، 3- (√)، 4- (√)، 5 -(×)، 6- (√).
مراجع الدّرس:
1- البداية والنهاية، لعماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، د: دار الغد العربي، القاهرة، الطبعة الأولى.
2- تاريخ الرسل والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ط: دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
3- طبقات المفسرين، لشمس الدين محمد بن علي بن أحمد الداوودي ت954هـ، ط: مطبعة الاستقلال الكبرى، ومكتبة وهبة بالقاهرة، 1972م.
4- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي: أحمد بن علي، ت463هـ، ط: دار الكتب العلمية، بيروت.
5- الفهرست، لابن النديم البغدادي، (ت 385هـ) ط: دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت 1978م.
6- الدولة والمجتمع في العصر الأموي، للدكتور حمدي شاهين، ط: دار الوفاء، القاهرة، 2001م.
7- حضارة العراق (موسوعة من عشرة أجزاء) ط: بغداد 1985م.
8- الرسالة المستطرقة، لمحمد بن جعفر الكتاني، ط: دار البشائر الإسلامية بيروت 1986م.
9- موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي (الجزء الثاني: العصر الأموي) ط: شركة سفير بالقاهرة 1998م.
10- المدينة الإسلامية، للدكتور محمد عبد الستار عثمان، ط: الكويت، سلسلة عالم المعرفة، رقم 128 سنة 1988م.
11- تاريخ فنون الحديث النبوي، لمحمد عبد العزيز الخولي، ط: دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى 1988م.
خاتمة:
بهذا نكون قد وصلنا أخي الدارس إلى ختام الدرس الثاني والعشرين، فإلى لقاءٍ يتجدّد مع الدَّرس الثالث والعشرين، والّذي ينعقدُ بإذن الله، حول: (تابع الحياة الفكرية، وأسباب سقوط الدولة الأموية).
هذا، والله وليُّ التَّوفيق. وصلى الله على سيِّدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أحدث أقدم