اسلوب فض المنازعات الحدودية في القانون الدولي:
لقد حرص ميثاق الأمم المتحدة على جعل النزاع الحدودي على انه لا يعد مسألة تخص الأطراف المتنازعة فقط, بل يعتبر ان هذا النزاع يهم الأسرة الدولية بأسرها, لذلك حرص ميثاق الأمم المتحدة بدعوة الأطراف المتنازعة الى اتباع الوسائل السلمية في حل هذه المنازعات, بالرجوع الى المبدأ السياسي كالمفاوضات الدبلوماسية من أجل تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة, أو الذهاب الى مبدأ الوساطة لإيجاد حلول مناسبة ترضي أطراف النزاع.
ان تسوية الحدود الدولية، باتت تخضع لقوانين ثابتة، تدفع بالأطراف المتنازعة الى تسوية خلافاتهما من دون اللجوء الى استعمال القوة، او السعي الى تشكيل لجان مهمتها التوفيق أو التحقيق, ومن المعروف ان جميع هذه الاجراءات غير ملزمة لقبول أطراف النزاع بها, بل منوطة برضي الطرفين عليها.
واذا لم يتوصل الطرفان الى حل نزاعاتهما الحدودية بالاجراءات  السابقة,  فمجلس الأمن في هذه الحالة يحث طرفي النزاع لعرض نزاعهما على محكمة العدل الدولية, استنادا الى نص الفقرة(3) من المادة (36) من ميثاق الأمم المتحدة, كما ان المحكمة لا يمكنها النظر في النزاع الحدودي من دون موافقة الطرفين على التقاضي امامها(1).
اما مجلس الأمن فلا يحق له التدخل إلا بعد رفض أحد الطرفين المتنازعين قبول حكم المحكمة, وامتناعه الانصياع في تطبيق الحكم الذي أصدرته المحكمة, فلا يجوز لأحد الأطراف رفض قرار المحكمة لأنه وافق على التقاضي سابقا أمامها وقبل صدور قرار المحكمة.

(1) السيد, د. رشاد عارف, مصدر سابق, ص227

 ففي هذه الحالة يستطيع الطرف الثاني الاستنجاد بمجلس الأمن لحمل الطرف الأول للانصياع لقرار المحكمة, كما أن لمجلس الأمن صلاحيات خوله فيها ميثاق الأمم المتحدة في إصدار القرارات التي تساعد في تطبيق حكم المحكمة على أساس أن حكم المحكمة هو حكما نهائيا لا رجعة فيه. أما في حالة إصرار الطرف الأول على عدم الأمتثال لقرار مجلس الأمن, عندئذ يشرع مجلس الأمن في تطبيق الاجراءات المنصوص عليها في الفصل السابع من الميثاق(1).
كذلك من الطرق الاساسية في حل الخلافات الحدودية هو اللجوء الى أسلوب التحكيم الذي نصت عليه المادة (37) من اتفاقية لاهاي, وهذا الاسلوب يدعو الدول المتنازعة الى اختيار قضاة لتسوية النزاع وفق مبادئ القانون الدولي, وفي حالة فشل التحكيم في حل النزاع الحدودي ففي هذه الحالة يحال النزاع الى محكمة العدل الدولية, واستنادا للمادة (59) من نظام المحكمة الاساسي فأن قراراتها تكون الزامية لطرفي النزاع, ووفقا للمادة (60) من نظامها الأساسي فأن قراراتها قطعية لا تقبل الاستئناف(2).
أما في حالة العراق, فقد عد تدخل مجلس الأمن في ترسيم الحدود العراقية- الكويتية سابقة خطيرة في عمل المجلس, فمجلس الأمن بدلا من استنفاد الأساليب المتبعة في ترسيم الحدود بالطرق السلمية ومساعدة الطرفين في تسوية مشاكلهما الحدودية عمد الى تطبيق أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في آليات عمل تعتبر غريبة بالنسبة للمهام التي كلف بها مجلس الأمن من قبل ميثاق الأمم المتحدة في حفط الأمن والسلم الدوليين.
واذا كانت صلاحيات مجلس الأمن طبقا للمادة (39) في تكييف ما اذا كان وقع يمثل تهديدا للسلم أو اخلالا به أو عملا من أعمال العدوان حيث للمجلس في هذا المجال سلطة تقديرية, لكن سلطته في هذه الحالة لم تكن سلطة تقديرية مطلقة, وطبقا لنص المادة (24) من الميثاق ان سلطة مجلس الأمن محددة بالمبادئ التي نص عليها الميثاق, كما انها مقيدة بفكرة الأنابة القانونية التي تجعل مجلس الامن ينوب عن بقية الأعضاء في حفظ السلم والأمن الدوليين(3).
واذا كان للمجلس صلاحية التكييف وقد عد غزو العراق للكويت عملا من اعمال العدوان, وتهديدا للسلم الدولي فسارع في تطبيق احكام الفصل السابع من الميثاق واعلان الحرب لأخراج القوات العراقية من الكويت, لكنه هل يملك هذه الصلاحية نفسها في تطبيق البند السابع في ترسيم الحدود بين البلدين وفرض امر واقع على العراق باعتباره الطرف الخاسر في الحرب؟.



(1) العطية, د. عصام, مصدر سابق, ص623
(2) توفبق, د. سعدي حقي, مصدر سابق, ص368 وما بعدها 
(3) جاء في الفقرة (1) من المادة (24) " رغبة في أن يكون العمل الذي تقوم به الأمم المتحدة سريعا وفعالا يعهد أعضاء تلك الهيئة الى مجلس الأمن بالتبعات الرئيسية في أمر حفظ السلم والأمن الدولي, ويوافقون على ان هذا المجلس يعمل نائبا عنهم في قيامه بواجباته التي تفرضها عليه هذه التبعات ".

عند العودة للظروف التي صاحبت اصدار قرارات مجلس الأمن على العراق,  والتي أبعدته عن مهامه المخولة له من ميثاق الأمم المتحدة , حيث جاء متزامنا مع التحول الذي طرأ على النظام الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة. فالنظام الدولي كان يحكمه  قطبان رئيسيان هما الولايات المتحدة وحليفاتها, والاتحاد السوفيتي وحلفاؤه من المنظومة الاشتراكية, لكن عند تفكك الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينات القرن الماضي, أدى الى انفراد الولايات المتحدة الامريكية بالهيمنة على النظام الدولي, وقد استطاعت مع حليفاتها بسط نفوذها على منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الدولية الاخرى, وقد تحكمت بسير عمل مجلس الامن وبجلساته والقرارات التي يتخذها, بما يلائم مصالحها القومية في اقامة نظام عالمي يدين لها بالولاء والطاعة, ونتيجة لذلك ظهرت تفسيرات جديدة في فقرات الميثاق تتلائم مع الأرادة الأمريكية في السيطرة على المنظومة الدولية من خلال تطبيق جديد لمفهوم الأمن والسلم الدوليين.
لقد أعتمد مجلس الأمن في هذا الاطار معيارا مرنا عند الاجتهاد في تكييف الأزمات والتوترات والمنازعات الدولية, حتى أنه أخذ يتدخل في مواضيع تعد من صميم صلاحيات الدول وسلطانها الداخلي, كما انها خارجة عن نطاق صلاحياته الممنوحة له بموجب ميثاق الأمم المتحدة, مثل قضايا حقوق الانسان, ونشر الديمقراطية ومكافحة الأرهاب وغيرها.
وهكذا ضعفت سلطات مجلس الأمن وحلت الولايات المتحدة محله في تسيير أعماله لا سيما في تطبيق الفصل السابع من الميثاق(1), أو في بقية الأحكام المتعلقة بالمجلس المنصوص عليها في الفصلين السادس والثامن(2). كما أن دور منظمة الأمم المتحدة قد الغي تدريجيا من خلال التحكم بآليات عملها, أو بالتدخل في انتخاب رئيسها الذي يجب أن يخضع لإرادة الولايات المتحدة.
كما ان صلاحيات مجلس الأمن باعتباره الهيئة التي تكون مهمتها تحديد الخروقات التي تصيب القانون الدولي, ومهمته أيضا اتخاذ الآليات المناسبة في مواجهة هذه الأخطار, الا انه قد فقد هذه الصلاحية بالتدخل السافر من قبل الولايات المتحدة وحليفاتها من الدول الغربية , وأصبحت أداة رئيسية في توجيه مجلس الأمن في اتخاذ القرارات لمعاقبة الدول التي لا تسير في فلك الولايات المتحدة.
ففي ظل هذه المتغيرات الدولية, وبروز الولايات المتحدة الامريكية كلاعب دولي حيث تحول النظام الدولي الى نظام القطب الواحد, صدرت قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالعراق.





(1) أحكام مواد الفصل السابع ( 39- 51) من الميثاق تتعلق بأعمال تهديد السلم والاخلال به ووقوع العدوان.
(2) تتعلق مواد الفصل السادس ( 33- 38 ) من ميثاق الأمم المتحدة في حل المنازعات حلا سلميا.
أما مواد الفصل الثامن (52- 54 ) تتعلق بخصوص التنظيمات الأقليمية, " أنظر ميثاق الأمم المتحدة"

 ولم يقتصر الأمر على قرارات تحرير الكويت وإنما تعداه الى قرارات ترسيم الحدود طبقا لأحكام البند السابع التي تعتبرهذه الحالة سابقة خطيرة في عمل المجلس, حيث تجاوز بعمله هذا الصلاحيات التي خولها له ميثاق الأمم المتحدة في ترسيم الحدود الدولية, فعمل المجلس هذا كان خلافا لمبادئ الأمم المتحدة التي تدعو الى توطيد عرى الصداقة والتعاون وحل الخلافات بالطرق السلمية.
لقد واجهت قرارات مجلس الأمن انتقادات حادة سواء من داخل المجلس نفسه, أو من بقية دول العالم الأخرى التي شاطرت العراق في التنديد بقراراته الجائرة لاسيما القرار 833 الخاص بترسيم الحدود الذي الحق اضرارا جسيمة بمصالحه الحيوية. وقد تعامل مع العراق خلافا كما يجري عليه التعامل مع الدول الأخرى لأن ترسيم الحدود بين الدول يجب ان ينال رضى الأطراف المعنية.
فقرارات مجلس الأمن في هذا الاتجاه انما جاءت لرغبة الولايات المتحدة, التي لم تسهم أصلا في استتباب الأمن والاستقرار في المنطقة , فعلى رغم من تغيير النظام السياسي في العراق لكن الأوضاع لا زال يشوبها التوتر وعدم ثقة الاطراف في اقامة علاقات متينة بين البلدين.
وخلاصة القول ان تدخل مجلس الأمن في ترسيم الحدود بين العراق والكويت  تعتبر حالة شاذة طبقها  المجلس حيال العراق, وكان تدخله في موضوع مهم وحساس يعتبر من صميم سلطان الدولة الداخلي, كما انه يعد تدخلا في سيادة دولة عضو في منظمة الامم المتحدة, وقد عد هذا التدخل تجاوزا لحدود صلاحياته المنصوص عليها في الميثاق, وكان يتعين على مجلس الأمن ان يتقيد في تطبيق الصلاحيات الممنوحة له, لا ان يصار الى تفسير نصوص الميثاق حسب ما تمليه ارادة الولايات المتحدة بحجة انها واقعة ضمن مفهوم الحفاظ على السلم الدولي, حتى اصبحت قراراته بعيدة حتى عن العرف  ولا يقرها الفقه الدولي. فالتفسير الضيق لنصوص الميثاق الحقت بالعراق ضررا جسيما, ولم يتوخ المحلس  تحقيق العدل والانصاف عند القيام بهذه المهمة الخطيرة.

اذن ووفق القانون الدولي لا يملك الأمين العام صلاحية ما لتقديم توصية الى مجلس الأمن لترسيم الحدود، إلا بعد استكمال المراحل القضائية او السياسية التي نصت على اجرائها المعاهدات والمواثيق الدولية. كما ان عملية ترسيم الحدود لا يمكن ان تتم بمعزل عن طرف واحد من الأطراف المتنازعة.

اما دعوى احتلال العراق لأراضي كويتية، فلم يطرح هذا الأمر حتى من قبل الكويت نفسها، إلا بعد ترسيم الحدود من قبل لجنة الأمم المتحدة عام 1993. ولم تسجل الكويت يوما ما اية احتجاجات رسمية ضد العراق حول ترسيم الحدود، لدى جامعة الدول العربية او محكمة العدل الدولية او حتى منظمة الأمم المتحدة(1).
أحدث أقدم