الدفاع
ـ مفهوم الدفاع ومدلوله:
الدفاع فعل أو امتناع عن فعل يقوم به الشخص المعتدى عليه أو الشخص المهدد حقه بالعدوان، أو يقوم به الغير، وذلك لرد عدوان أو دفع خطره.
وفعل الدفاع يمكن أن يتخذ صورة إيذاء المعتدي أو قتله أو حبسه إلى حين وصول رجال القوة العامة. كما يمكن أن يتخذ صورة قتل الحيوان المستخدم في الهجوم أو إيذائه. ويمكن أن يكون دفاع من سلبت حريته بكسر باب مكان الحجز أو تحطيم نافذته للخروج منه. ومن وسائل الدفاع المثيرة للجدل إمكانية استعانة صاحب الحق بوسائل الدفاع الآلي لحماية حقه، ولا سيما ما يتعلق بالمال، كمن يضع فخاً في بستانه، أو جهازاً في خزانته يطلق عيارات نارية بمجرد فتح باب الخزانة، أو يحيط مزرعته بحفرٍ مجهزة بنابض يقذف بعيداً بمن يحاول اقتحام المزرعة... الخ. وفي تقديرنا أن قبول هذه الوسائل جائز إذا توافرت فيها شروط الدفاع كاملة. إلا أنه لابد من التأكيد على ضرورة معالجة هذه المسائل بمزيد من الدقة والحذر، وذلك خشية إساءة استعمال حق الدفاع، وهدر حقوق أشخاص حسني النية.
ومن المفيد الإشارة إلى أن القضاء الفرنسي رفض تبرير الدفاع عن المال بإحاطة مكان المال (منزل أو مزرعة أو مخزن...) بوسائل الدفاع الآلي، كنصب فخ أو مصيدة أو جهاز يطلق آلياً سهماً أو مقذوفاً نارياً بمجرد الاقتراب من منطقة معينة. وحجته في ذلك، أن الدفاع لا يقبل إلا إذا صدر عن الإنسان مباشرة وساعة وقوع الاعتداء، ليتمكن من تقدير حجم الخطر والرد عليه بفعل يتناسب معه.
ويلحق بوسائل الدفاع الآلي استعانة صاحب الحق بحيوان للدفاع عن نفسه أو ماله. كمن يدرب كلباً على الحراسة فيفتك الكلب بلص دخل إلى المنزل أو المزرعة بقصد السرقة.
وأخيراً فإن الدفاع حق منحه الشارع للغير أيضاً حتى لو لم تكن بينه وبين المعتدى عليه أي صلة سابقة. فالدفاع حق اجتماعي للكافة، ولهم استعماله عندما يقع عدوان على أحد الناس. ويبنى على ذلك أنه لا يشترط أن يكون دفاع الغير بطلب من المعتدى عليه أو بعلمه، بل يصح الدفاع حتى عندما يرفضه المعتدى عليه أو يستنكره.
ـ شروط الدفاع:
يوجب المشرع السوري في الدفاع توافر شرطين:
الأول ـ أن يكون الدفاع لازماً.
الثاني ـ أن يكون الدفاع متناسباً مع الاعتداء.
وسنبحث في هذين الشرطين على التوالي:
الشرط الأول ـ أن يكون الدفاع لازماً
يكون الدفاع لازماً عندما تكون القوة المادية المستعملة فيه هي الوسيلة الوحيدة لدفع الاعتداء. فالدفاع وسيلة احتياطية لا يجوز اللجوء إليها إلا إذا تعذر رد الاعتداء بوسائل أخرى غيرها. فمن يتوافر لديه الوقت الكافي لإبلاغ الاعتداء إلى السلطات العامة والاحتماء بها فعليه أن يفعل ذلك، وإلا فإن دفاعه لا يكون مشروعاً. وينطبق هذا الحكم أيضاً على من يضرب شخصاً صغيراً أو ضعيف الجسم يتوجه نحوه بعصا، في الوقت الذي يستطيع فيه انتزاع العصا من يده من غير ضربه، ومن يستطيع رد المعتدي على أعقابه بالتهديد أو بالصراخ فيلجأ إلى الضرب، ومن يقتل لصاً وهو يهم بدخول منزله، في الوقت الذي يستطيع فيه رده بمجرد أن ينتهره أو يصيح عليه.
وقد عالج الفقه والقضاء مسألة الهرب كوسيلة من وسائل النجاة من الاعتداء، فاتجه الرأي الغالب إلى عدم مطالبة المعتدى عليه بالهرب، لما ينطوي عليه الهرب من جبن وضعف وتخاذل ماس بكرامة الإنسان واعتباره. وهذا ما يطلق عليه اسم «الهرب المشين». ولكن إذا كان الهرب «غير مشين»، أي لا يحمل المعاني المتقدمة، كهرب شخص أمام اعتداء صادر عن أبيه أو عن طفل أو عن مجنون، فيتوجب على من يتعرض للخطر أن يلجأ إلى الهرب إذا كان ممكناً.
الشرط الثاني ـ أن يكون الدفاع متناسباً مع الاعتداء
ـ أعطى المشرع للفرد حق رد العدوان الواقع عليه، ولكنه قيد هذا الحق في الوقت ذاته بضرورة التزام قواعد ممارسته. فلكل عدوان خطر معين، ويتوجب على المدافع أن يرد هذا الخطر بفعل يتناسب معه. وذلك أمر بديهي مادامت الحكمة من الدفاع الشرعي هي دفع الخطر لا عقاب المعتدي أو الانتقام منه. فما يمكن دفعه بالقليل لا يجوز دفعه بالكثير، وما يمكن دفعه بعصا خفيفة لا يجوز دفعه بعصا غليظة، وما يمكن دفعه بإتلاف عضو لا يجوز دفعه بالقتل. كما لا يجوز لمن يتعرض لصفعة على خده أن يتناول خنجراً ويغمده في صدر المعتدي ليرد اعتداءه، ولا يجوز لمن يتعرض لضرب بعصا خفيفة أن يرد على العدوان بإطلاق النار على المعتدي.
وفي جميع الأحوال فإنه يمكن وضع معيار محدد لتناسب الدفاع مع الاعتداء أساسه سلوك الرجل المعتاد. والسؤال الذي يطرح عادة في مثل هذه الحالات هو التالي: إذا وضع الرجل المعتاد (أو القاضي) نفسه مكان المدافع، فهل يتصرف على النحو الذي تصرف به المدافع؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب، أي نعم، ما كان بإمكان الرجل المعتاد (أو القاضي) أن يتصرف ـ لو وضع نفسه مكان المدافع ـ إلا على النحو الذي تصرف به المدافع، فإن سلوك المدافع يكون صحيحاً.
وعند تطبيق هذا المعيار الموضوعي، فإنه لا يمكن إغفال بعض العوامل الشخصية، مثل سن المدافع، وجنسه، وقوته البدنية، وسعة حيلته، وهدوء أعصابه، وتأثير ظروف الزمان والمكان عليه.
ولابد في جميع الأحوال من أن تُؤخذ بالحسبان الوسيلة المتاحة بين يدي المدافع لتجنب الخطر. فمن لا يتوافر لديه غير سكين ليرد عدواناً يمكن رده بعصا، فإن له أن يستعمل السكين، ومن لا يستطيع دفع عدوان شخص شديد البأس بيديه أو بأداة قليلة الضرر فإن له أن يستعمل سلاحاً نارياً.
والتناسب بين الدفاع والاعتداء لا يعني التناسب المطلق. فوجود تفاوت مقبول منطقياً بين حجم الدفاع وحجم الاعتداء لا ينفي التناسب. كما لا ينفي التناسب وجود اختلاف بين طبيعة الاعتداء وطبيعة الدفاع. وفي جميع الأحوال فإن قاضي الموضوع هو الذي يوازن بين الاعتداء والدفاع، ويبحث عن التناسب بينهما.
ـ قرينة قيام حالة الدفاع الشرعي:
رغبة من المشرع في عدم اصطدام المدافع بعبء إثبات توافر شروط الدفاع الشرعي ـ وهو عبء ثقيل ـ فقد خص حالات معينة بـ «قرينة» توافر هذه الشروط، لما في هذه الحالات من عدوان سافر على حق الحياة وحق الملكية، يستحق معه المدافع نيل إعفاء من إثبات أن دفاعه كان لازماً ومتناسباً مع حجم الاعتداء الذي تعرض له، إذ يكفي أن يثبت بأنه كان في إحدى الحالات المذكورة في المادة 549 من قانون العقوبات، والتي تنص على الآتي:
«1ـ تعد الأفعال الآتية من قبيل الدفاع عن النفس:
آ ـ فعل من يدافع عن نفسه أو عن أمواله، أو عن نفس الغير أو عن أمواله تجاه من يقدم باستعمال العنف على السرقة أو النهب.
ب ـ الفعل المقترف عند دفع شخص دخل أو حاول الدخول ليلاً إلى منزل آهل أو إلى ملحقاته الملاصقة بتسلق السياجات أو الجدران أو المداخل أو ثقبها أو كسرها أو باستعمال مفاتيح مقلدة أو أدوات خاصة.
وإذا وقع الفعل نهاراً فلا يستفيد الفاعل إلا من العذر المخفف عملاً بالمادة 241.
2ـ وتزول القرينة الدالة على الدفاع المشروع إذا ثبت أن المجرم لم يكن على اعتقاد بأن الاعتداء على الأشخاص أو الأموال كان غرض المعتدي المباشر أو بنتيجة ما قد يلقاه من المقاومة في تنفيذ مآربه».
ويتطلب هذا النص الإيضاحات الآتية:
1ـ إن علة إسباغ المشرع على الحالتين المذكورتين في الفقرتين آ و ب قرينة توافر حالة الدفاع الشرعي هي ـ بالإضافة إلى ما ذكرناه قبل ذلك ـ ما يحمله هذا النوع من الاعتداء من خطورة على الأمن العام وسلامة الناس وطمأنينتهم، المتمثلة في استعمال العنف، والاستيلاء على أموال الغير بالقوة أو نهبها، وانتهاك حرمة المنازل المسكونة ليلاً. وهذه العلة تستدعي ضرورة التفريق بين مجرد ارتكاب السرقة بالوسائل العادية، وبين ارتكابها بالعنف، كحمل السلاح وتهديد صاحب المال بالقتل، أو ضربه أو جرحه أو تكبيله أو حجز حريته أو قطع الطريق عليه..
2ـ إذا وقع فعل انتهاك حرمة المنازل المسكونة في النهار فلا يستفيد الفاعل إلا من العذر المخفف المنصوص عليه في المادة 241 من قانون العقوبات. فقد حصر المشرع قرينة الدفاع الشرعي بفترة الليل، لما لليل من طبيعة خاصة، حيث يجد الناس فيه ـ وبخاصة حينما يلجؤون إلى منازلهم ـ مبعثاً على الهدوء والسكينة والطمأنينة والراحة، ويجد فيه المجرم ستاراً لاعتداءاته على منازل هؤلاء الناس وأموالهم.
3ـ إن قرينة توافر حالة الدفاع الشرعي هي قرينة بسيطة أو نسبية وليست مطلقة، أي تقبل إثبات العكس. فإذا ثبت أن المدافع كان يعلم بأن القادم نحوه أو المتسلل إلى مسكنه لا يريد إلحاق الأذى به أو بملكه، وإنما جاء في شأن آخر (كأن يعلم الوالد بأن الشخص المتسلل إلى منزله هو عشيق ابنته، وجاء لمقابلتها...)، ومع ذلك قام المدافع بقتل المعتدي المزعوم، أو جرحه أو أوقع به أي إيذاء آخر، فإنه لا يستفيد من سبب تبرير.
ومن الجدير بالذكر أنه في حال ثبوت علم المدافع بالغرض الحقيقي للشخص المتسلل، وأقدم مع ذلك على قتله أو جرحه، فإنه يسأل عن جريمة مقصودة.
ومن ناحية ثانية، فإذا كان اعتقاد المدافع غير مبني على أسباب معقولة، أي أن الظروف المحيطة بالواقعة لم يكن من شأنها أن تدفع إلى الاعتقاد بنوايا المتسلل الإجرامية، وأنه تسرع في قتل المتسلل أو جرحه قبل أن يتبين حقيقة الأمر، فإن فعله يكون مشوباً بقلة الاحتراز، ويسأل عن جريمة غير مقصودة.