رضاء المجني عليه
ـ تعريف رضاء المجني عليه ومكانة هذا الرضاء في نظرية أسباب التبرير:
يُعرَّف رضاء المجني عليه (أو رضاء الضحية) بقبول هذا الأخير بأن يقع عليه فعل مجرَّم قانوناً، كأن يقبل بضربه أو جرحه أو قتله أو مس جسده. فهل هذا القبول يبرر الفعل ويخلي الفاعل من مسؤوليته ويعفيه من العقاب؟ وهذا التساؤل يطرح سؤالاً آخر هو: هل من حق الإنسان أن يتصرف في جسده وحياته إلى الحد الذي يجعل الفعل الذي يقع عليه برضائه مبرراً أو مباحاً؟ 
من المتفق عليه أن الإنسان ـ من حيث المبدأ ـ حر في التصرف في جسده. فمن يجرح نفسه قصداً، أو يقطع جزءاً من أعضاء جسده، أو يحاول الانتحار، أو يقيم علاقة جنسية مع شخص آخر، لا يجوز أن يعاقب لأنه مالك لجسده. ولكن سياسة التجريم والعقاب لم توضع لمصلحة الفرد فقط وإنما وضعت لمصلحة المجتمع والدولة أيضاً. ففي الشريعة الإسلامية لا يحق للإنسان أن يتصرف بجسده وحياته بصورة مطلقة، لأن حياة الإنسان وسلامته الجسدية منحة من الله تعالى، ومرجعها إليه، والمحافظة على النفس هي من المصالح الخمس الأساسية للفرد والمجتمع.
وكذلك الحال في التشريعات الوضعية. فهذه التشريعات وضعت على تصرف الفرد في جسده قيوداً لا يحق له تجاوزها تحت طائلة دخوله دائرة التجريم والعقاب. فأغلب التشريعات تجرِّم العسكري الذي يشوِّه نفسه قصداً ليتهرب من واجباته العسكرية، وإجهاض المرأة الحامل لنفسها في حالات معينة، وعمليات التجميل والتعقيم إذا تمت بغير قصد العلاج، والتحريض أو المساعدة على الانتحار، والعلاقات الجنسية إذا لم تتوافر فيها شروط معينة...
ـ هل يعد رضاء المجني عليه سبباً من أسباب التبرير في التشريع السوري؟
عدّ المشرع السوري رضاء المجني عليه سبباً عاماً من أسباب التبرير بنص صريح في المادة 186 من قانون العقوبات التي جاء فيها ما يلي:
«إن الفعل الذي يعاقب عليه لتعرضه لإرادة الغير لا يعد جريمة إذا اقترف برضى الغير قبل وقوع الفعل أو أثناء وقوعه».
والواقع أن هذا الموقف غير سديد، لأن أسباب التبرير تتعلق بفعل مجرّم في الأصل، أي بمعنى آخر، لو جرد الفعل عن سبب التبرير لظل جرماً جزائياً معاقباً عليه قانوناً، أما رضاء المجني عيه فلا يبرر كل الأفعال التي يؤخذ فيها الرضاء، وإنما يبرر بعضها فقط. ومن المعروف أن وجود الرضاء في بعض الحالات ينفي وجود الجريمة أصلاً، لأنه يفقدها ركناً من أركانها.
ونحن لا نشك في أن عدم قيام الجريمة وتبريرها ينتهيان إلى نتيجة واحدة، وهي انعدام الجريمة، إلا أن التكييف القانوني يختلف في الحالتين. فإذا قلنا بعدم وقوع الجريمة أصلاً، فلا مبرر لعدّ رضاء المجني عليه في هذه الجريمة مبرراً لها، فهي زيادة مورثة لعيب في الصياغة وفي وضع قواعد نظرية الجريمة، لا يجوز وجودها في التشريع.
وسنبين فيما يلي موقف المشرع السوري من الحالات التي يصلح وجود الرضاء أن يكون فيها سبباً من أسباب التبرير، والحالات التي يعدم فيها وجود الرضاء وجود الجريمة لغياب ركن من أركانها. ولإكمال دراستنا حول رضاء المجني عليه، فسوف نبين في فقرة ثالثة موقف المشرع السوري من رضاء المجني عليه في جرائم الدم.
أولاً ـ رضاء المجني عليه سبب تبرير:
نصت المواد 725 ـ 727 من قانون العقوبات على جرائم سمتها «جرائم التعدي على المزروعات والحيوانات والآلات الزراعية». ومن طبيعة هذه الجرائم أن الفعل «يتعرض لإرادة الغير»، وقد جاء نص التجريم لحماية هذه الإرادة إذا ارتكبت الأفعال المكونة للجرائم المذكورة برضى المالك، وذلك لأن رضاءه يكون بمثابة الإجازة بالتصرف بالحق أو بالشيء محل الملكية، فيبرر الرضاء فعل الفاعل، ويمحو عنه صفة الجريمة.
ولا ينحصر وصف رضاء المجني عليه بأنه سبب تبرير في الجرائم المذكورة فقط، وإنما يمكن أن يكون في كل جريمة يعاقب عليها لتعرض الفعل لإرادة الغير، ويعطي هذا الغير رضاءه على الفعل.
ولا يشترط المشرع في رضاء المجني عليه ليكون سبب تبرير سوى أن يكون قد تم قبل وقوع الفعل أو أثناء وقوعه. أما الرضاء اللاحق فلا يعد سبب تبرير، وإن ساغ أن يعدّ صفحاً، ويؤدي إلى إسقاط الدعوى العامة أو إسقاط العقوبة.
ثانياً ـ رضاء المجني عليه يفقد الجريمة ركناً من أركانها:
عدّ المشرع السوري عدم رضاء المجني عليه ركناً في عدد من الجرائم، فإذا ما وجد الرضاء انعدم وجود الجريمة. وسنضرب عدداً من الأمثلة على هذه الجرائم:
السرقة: تنص المادة 621 من قانون العقوبات على أن «السرقة هي أخذ مال الغير المنقول دون رضاه» .فإذا وجد رضاء من يؤخذ ماله ينتفي الركن المادي للسرقة، لأن عدم الرضاء عنصر في هذا الركن، وبالتالي ينعدم وجود الجريمة.
الاغتصاب والفحشاء: يقوم الاغتصاب والفحشاء حسب نص المادتين 489 و493 من قانون العقوبات على الإكراه. أما إذا وقعا برضاء الطرفين، انتفى الركن المادي عندئذ، وبالتالي لا اغتصاب ولا فحشاء.
الخطف: يقوم الركن المادي في الخطف حسب نص المواد 500 -502 من قانون العقوبات على الخداع أو العنف. أما إذا كان الرضاء حاصلاً فلا سند لهذا الركن وبالتالي لا يقع الخطف.
خرق حرمة المنزل: يقوم الركن المادي في خرق حرمة المنزل المنصوص عليه في المادة 557 من قانون العقوبات على عدم رضاء صاحب المنـزل. أما إذا وجد الرضاء فلا جريمة لانتفاء الركن المادي لهذه الجريمة.
ففي هذه الجرائم جميعاً لا يعد رضاء المجني عليه سبباً من أسباب التبرير، لأن عدمه يشكل ركناً من أركانها، وبالتالي ينفي وجوده وجود الجريمة.
ثالثاً ـ رضاء المجني عليه في جرائم الدم:
لا أثر لرضاء المجني عليه في جرائم الدم، حسب أحكام القانون السوري، على الجريمة، ولا أثر له أيضاً على المسؤولية الجزائية، وأثره يقتصر على العقوبة في بعض الحالات فيخفف منها. والمشرع السوري يعالج ثلاث حالات من حالات رضاء المجني عليه في جرائم الدم وهي: القتل بدافع الشفقة، والانتحار، والمبارزة، وسندرس هذه الحالات على التوالي:
ـ القتل بدافع الشفقة:
عندما يصاب الإنسان بمرض عضال لا يرتجى شفاؤه، ويسبب له آلاماً يصعب احتمالها، قد يطلب من صديق أو قريب أو زوج وضع حد لحياته، فيقدم هذا الأخير على قتله إشفاقاً عليه، وتخليصاً له من عذابه المقيم.
والقتل بدافع الشفقة قد يمتد إلى أكثر من ذلك، ويقع دون رضاء أو إذن المجني عليه. كما هو الأمر بالنسبة للمعتوهين أو المشوهين أو العجزة. فقد يولد طفل مشوه غير قادر على النطق أو الفهم أو الإدراك، فيقرر الأطباء عدم جدوى علاجه، وأن حياته ستستمر على هذا المنوال، فيقدم أحد أقربائه، أو يقدم الطبيب بتكليف من أقربائه على قتله. وإن كان هذا النوع من القتل لا يتحقق فيه رضاء المجني عليه لعدم الأهلية القانونية لدى الضحية، إلا أنه لا يبتعد عن موضوع القتل الذي يحدث برضاء المريض وبناء على طلبه.
وقد وضع قانون العقوبات السوري في المادة 538 نصاً خاصاً للقتل بدافع الشفقة، عدّّ فيه هذا القتل جريمة معاقباً عليها، ولكن عقوبتها أخف من عقوبة القتل القصد. وهذا هو نص المادة 538:
«يعاقب بالاعتقال عشر سنوات على الأكثر من قتل إنساناً قصداً بعامل الإشفاق بناء على إلحاحه بالطلب».
ـ الانتحار والاشتراك فيه وإصابة الشخص نفسه:
لا يعاقب القانون السوري على الانتحار أو إصابة الشخص نفسه لعدم ورود نص قانوني يجرم هذين الفعلين. ولا يستثنى من ذلك سوى نص المادة 66 من قانون خدمة العلم، الذي يُجرِّم إصابة المكلف أو الاحتياطي نفسه بقصد التخلص من خدمة العلم. ونص المادة 146 من قانون العقوبات العسكري الذي يُجرِّم الإصابات التي يحدثها العسكري في نفسه لكي يصبح غير صالح للخدمة في الجيش تهرباً من الواجبات العسكرية القانونية.
ولا يرجع موقف المشرع السوري هذا إلى أنه يسمح لكل إنسان بالتصرف بحياته كيف شاء، إذ هو على العكس من ذلك، يؤكد في شتى المناسبات، على أن حياة الإنسان تتعلق بالمجتمع والصالح العام، ولا يجوز التفريط فيها مهما كانت الأسباب. ولكن عدم تجريم الانتحار راجع إلى عدم جدوى العقاب عند وقوعه أو الشروع فيه. فإذا مات المنتحر فأي عقاب يمكن فرضه عليه؟ أما إذا وقف فعله عند حد الشروع وأمكن إنقاذه قبل موته، فمن العبث القول أن عقوبة السجن أو الغرامة ستكون رادعة له لكي لا يعود إلى فعلته مرة أخرى. إن من يقدم على الانتحار أو يصيب نفسه بأذى، هو في غالب الأحوال إنسان مريض، واجهته ظروف اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية، سببت له انهياراً عصبياً، أو اكتئاباً شديداً انتهى به إلى الانتحار. وهذا الشخص جدير بالعلاج، وغير صالح للعقاب.
أما الذي يحرض على الانتحار أو يتدخل فيه فلم ينج من سلطان القانون، لأنه في وضع مختلف كلياً عن وضع المنتحر. وقد جاء حكمه في المادة 539 من قانون العقوبات التي ورد فيها ما يأتي:
«1ـ من حمل إنساناً بأية وسيلة كانت على الانتحار، أو ساعده بطريقة من الطرق المذكورة في المادة 218 ـ الفقرات آ و ب و د ـ على قتل نفسه، عوقب بالاعتقال لعشر سنوات على الأكثر إذا تم الانتحار.
2ـ وعوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين في حالة الشروع في الانتحار إذا نجم عنه إيذاء أو عجز دائم.
3ـ وإذا كان الشخص المحمول أو المساعد على الانتحار حدثا دون الخامسة عشرة من عمره أو معتوهاً طبقت عقوبات التحريض على القتل أو التدخل فيه».
ومن الواضح في هذا النص أن المشرع السوري إذا كان قد سكت عن الشخص الذي يحاول الانتحار للأسباب التي أوضحناها قبل قليل، فلم يكن في وسعه السكوت عن التحريض أو المساعدة على الانتحار، لأن محل الاعتداء بالنسبة للمحرض أو المتدخل متعلق بحق إنسان آخر في الحياة وفي السلامة الجسدية، ولا يجوز لأي شخص، مهما كانت أسبابه ودوافعه، أن يمس بهذا الحق. وعلى ذلك فقد اتجه المشرع إلى تجريم أفعال التحريض والمساعدة على الانتحار، ولكن ضمن قيود تأخذ بالحسبان الظروف والأسباب التي تدفع إلى هذه الأفعال، والتي غالباً ما تكون ذات طابع إنساني قريبة الشبه بحالة القتل بدافع الشفقة.
ـ المبارزة:
المبارزة تقليد قديم عرفته أكثر دول العالم، حيث يقبل الرجل بالتضحية بنفسه دفاعاً عن شرفه وكرامته إذا أُهين علناً. والمبارزة تعني ضمناً رضاء الضحية بنتيجة المبارزة مهما كانت. ولكن هذا الرضاء لا يشكل سبب تبرير في غالبية القوانين الحديثة ويعدّ جريمة لأن فيه قتل أو إيذاء لنفس دون وجه حق. كل ما في الأمر أن هذه القوانين أخذت بالحسبان مشاعر المبارز في الدفاع عن شرفه وكرامته وخففت العقاب عليه.
وهذا ما سار عليه التشريع السوري، إذ عدّ المبارزة جريمة، ونظم العقاب عليها في المواد 422 وحتى 426. فإذا لم ينجم عن المبارزة أي ضرر فالعقوبة على المبارزين هي الحبس من شهر إلى سنة (م 422).
ومجرد الدعوة إلى المبارزة، وإن رُفضت، عقوبتها الغرامة من مائة ليرة إلى مائتين (م 423). ويعاقب بالعقوبة ذاتها من أهان آخر علانية أو استهدفه للازدراء العام لأنه لم يتحد امرءً للمبارزة أو لم يلب من تحداه (م 424). وإذا أفضت المبارزة إلى الموت كانت العقوبة الاعتقال من ثلاث إلى سبع سنوات، أما إذا أفضت إلى تعطيل دائم فقط فالعقوبة هي الحبس من سنة إلى ثلاث سنوات (م 425). ويعفى من العقوبة الطبيب أو الجراح الذي يسعف المتبارزين (م 426)  .
ومن القوانين الحديثة التي تقف موقف المشرع السوري حيال المبارزة، اللبناني والسويسري والإيطالي والبولوني...
ومن الجدير بالذكر أن تيار «الردة عن التجريم»، الذي بدأ بالظهور منذ الخمسينات من القرن الماضي، ينادي بإلغاء النصوص القانونية المتعلقة بالتجريم على المبارزة، لا لأن المبارزة لا تستحق التجريم، ولكن لأنها أصبحت عملياً غير موجودة في الواقع، بعد أن عفى عليها الزمن. وعلى افتراض أن مبارزة حصلت في وقت من الأوقات ـ وهي نادرة جداً ـ فتطبق عليها القواعد العامة في قانون العقوبات المتعلقة بالجرائم الواقعة على الأشخاص.
ـ أوجه الاختلاف بين أسباب التبرير وموانع المسؤولية الجزائية:
تختلف أسباب التبرير عن موانع المسؤولية الجزائية في الجوانب الأربعة الآتية:
أولاً ـ لا جريمة مع أسباب التبرير، وهذا يعني عدم وجود مكان للمسؤولية الجزائية وللعقوبة. أما موانع المسؤولية الجزائية فترفع المسؤولية الجزائية عن الفعل وبالتالي ترفع العقوبة، ولكنها لا تمحو الصفة الجرمية عنه، إذ يظل هذا الفعل جريمة.
ثانياً ـ تبرير الفعل يعني مشروعيته. وهذا الوصف يعدم المسؤولية المدنية، لأن هذه المسؤولية تقوم على العمل غير المشروع. أما موانع المسؤولية الجزائية فلا تمنع من قيام المسؤولية المدنية إذا توافرت عناصرها في العمل.
ثالثاً ـ نظراً لأن أسباب التبرير موضوعية، وتؤدي وظيفة اجتماعية فإنه يستفيد منها كل من يساهم في الفعل، من فاعلين وشركاء ومحرضين ومتدخلين، أما موانع المسؤولية الجزائية فهي شخصية، أي مرتبطة بشخص من توافرت فيه، ولا يستفيد منها غيره من المساهمين بارتكاب الجريمة.
رابعاً ـ يستطيع القاضي في موانع المسؤولية أن يفرض التدابير الاحترازية على الجاني، أما في أسباب التبرير فلا تفرض هذه التدابير لانعدام الجريمة كلياً.

* * *
Previous Post Next Post