اللغة عند الهنود
     الحق أن الدرس الهندي للغة تم في إطار رؤية وصفية تتعامل مع الظاهرة اللسانية بوصفها بنية صوتية وصرفية ونحوية ودلالية ، وقد تولد هذا الاهتمام المنقطع النظر في الحضارات القديمة عن شعور ديني أساسة الحفاظ على النصوص الدينية الشفهية التي تمثل الفيدا ذلك الكتاب العقدي الذي ظهر حوالي 1200-1000 ق م والذي يمثل عقيدة وشريعة البراهمية  [1]، ولعل هذا الحرص تولد عن شعور بتلك الفوارق اللهجية الموجودة في بلاد الهند القديمة والتي تظهر في عادات كلامية متباينة من شأنها التأثير في سلامة نطق النصوص المقدسة أو سوء فهمها، غير أن المثير للاندهاش هو تحول الرغبة الدينية إلى درس منهجي يتخذ من اللغة السنسكرية موضوعا للدرس ويجعلها بؤرة في اهتمام التفكير الهندي القديم ، كما أن تلك الآراء الثاقبة التي وصلتنا عن طريق بانيني تنم عن مرحلة جد متقدمة نشأ فيها هذا الاهتمام ،ثم تطور ليصل ناضجا مع قواعد الاصطاد هيا هي أو المثمن (الكتب الثمانية)، بل أن هذه القواعد سرعان ما تركت أثرا في التنظير النحوي للغات أخرى كالتاميلية وهي لغة درافيدية في وسط جنوب الهند (ت2ق م) والتيبيتة.
أما عن مجالات الاهتمام اللغوي عند الهنود فيمكن تفريغها إلى
1-اهتمامات تدخل في صميم النظرية اللسانية العامة
 2- اهتمامات تدخل في علمي الدلالة والمعجم.
3- اهتمامات صوتية .
4-   اهتامات صرفية ونحوية .
فبالنسبة إلى مشكلة نشأة  اللغة سرعان ما تحقق علماء الهنود من الدور المحدود جدا الذي يمكن أن يقوم به عامل المحاكاة الطبيعية في اللغة ،وأن العلاقة العرفية ومبدأ التواضع الاجتماعي هو العلاقة النموذجية في ظهور اللغة وتطورها، ويبدو أن هذا الموقف أسس على شعور باعتباطية العلاقة بين اللفظ ومعناه ،كما تلمس الهنود في اللغة طبيعتها الخلاقة في التعبير عن المعاني اللامنتهية انطلاقا من مصادر محدودة ، كما أن المعاني التي تتخذها اللفظة الواحدة كثيرة بالنظر إلى تعدد السياقات التي ترد فيها تلك اللفظة أو غيرها ،وفي  هذا السياق ناقشوا الفرق بين الحقيقة والمجاز وحدود كل منهما في اللغة. ولعل المهتم في الفكر اللغوي الهندي يصاب بالحيرة العلمية وهو يطالع آراءهم في قضية أولية الكلمة في مقابل أولية الجملة وارتباطهما بالمعن  ففي حين ذهب البعض إلى أن الكلمة هي أصغر وحدة دالة في اللغة،ذهب آخرون وفي مقدمتهم اللغوي الشهير " بهاتر هاري" مؤلف "الفاكيا بيديا" إلى أن الجملة هي الوحدة الدلالية الدنيا في اللغة بوصفها قولا غير قابل للتجزئة دلاليا فجملة كـ: أجلب وقوافا من الغاية لا يمكن أن تفهم من خلال الكلمات وهي منفصلة بل وهي متضامة مركبة وفق هذه العلاقات النحوية  [2].
كما ناقش الهنود الفروق الكائنة بين اللغة والكلام في نظرية السبهوطا أمميزين بين ما هو حدث فعلي وتحقق فردي الظاهرية وبين ما هو موجود دائم غير متجسد .
وفي مجال الصوتيات ترك الهنود ملاحظات جد صائية في وصف نظام لغتهم الصوتي اعتمادا على مبدأ السماع، ويعتقد بعض الباحثين أن هنري سويت مؤسس الصوتيات الإنجليزية قد بدأ  درسه الصوتي من حيث انتهى الهنود ،ويؤرخ لهذه الأعمال ما بين 8 ق م و150 ق م .
ويمكن أن نطّلع في هذا الإطار على وصفهم للجهاز النطقي من خلال تقسيم أعضاء النطق إلى أعضاء فموية(أسنان، لسان، شفتين، أو أعضاء غير فموية (مزمار، رئتين، فراغ أنفي)، ويبدو إدراكهم لأثر هذه الأعضاء في تحديد صفات الصوت اللغوي واضحا فيما وصل من آراء، كما قسموا الأصوات إلى أصوات أنفية وغير أنفية ؛ أما منهجهم في وصف الأصوات فقد انطلق من أقصى الحلق إلى الشفتين ،كما قسموا الأصوات بسبب وضعية الإعاقة التي تعترض الهواء أثناء النطق  مما جعلهم يميزون بين أصوات صوامت وقفية وأنفية واحتكاكية وأشباه صوائت وصوائت.
       وقد تم التمييز بين الجهر والهمس بالرجوع إلى انغلاق أو انفتاح المزمار ،وإلى جانب هذه الاهتمامات الصوتية ألمع الهنود إلى وجود ثلاث نغمات في السنسكريتة الفيدية وهي النغمة العالية والمنخفضة والهابطة ، كما تحدثوا عن المقطع وطول ومدة الصوت أثناء النطق به[3].

  BLOOMFILDE ;language ;p10.- [1]
[2] -روبنز ، موجز تاريخ علم اللغة في الغرب ، ص231.
[3] -عبد الرحمن الحاج صالح ، مدخل إلى علم اللسان الحديث ، ص37-38
Previous Post Next Post