قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة:
المراد بهذا القسم : (أن المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف من داعية هواه؛ حتى يكون عبداً لله اختياراً, كما هو عبد لله اضطراراً)  ومما يدل على ذلك قوله تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)).
الفرق بينه وبين القسم الأول: القسم الأول معناه : أن الشارع وضع نظاماً كافلاً للسعادة في الدنيا والآخرة لمن تمسك به. وهذا القسم (الرابع) معناه: أن الشارع يطلب من العبد الدخول تحت هذا النظام والانقياد له، لا لهواه.
الأدلة الدالة على أن قصد الشارع دخول المكلف تحت أحكام الشريعة:
1/النص الصريح الدال على أن العباد خُلقوا للتعبد لله, والدخول تحت أمره ونهيه؛ كقوله تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون)) وقوله تعالى: ((وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك)), وقوله: ((يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون)) ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة كقوله تعالى: ((ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن) إلى قوله : ((وأولئك هم المتقون) وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام. وقوله : ((واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)) إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق, وبتفاصيلها على العموم, فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال, والانقياد إلى أحكامه على كل حال, وهو معنى التعبد لله.
2/ما دل على ذم مخالفة هذا القصد : من النهي أولاً عن مخالفة أمر الله, وذم من أعرض عن الله, وإبعادهم بالعذاب العاجل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات, والعذاب الآجل في الدار الآخرة. وأصل ذلك اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة, والشهوات الزائلة. فقد جعل الله اتباع الهوى مضاداً للحق وعدّ قسيماً له؛ كما في قوله تعالى: ((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) وقال تعالى: ((َأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39))). وقال: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)). وقال: ((وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)). فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة, والهوى, فلا ثالث لهما. وإذا كان كذلك فهما متضادان, وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده. فاتباع الهوى مضاد للحق. وقال تعالى: ((أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ)) وقال: ((وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)). وقال: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)). وقال: ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)). وتأمل فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه. وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس أنه قال : "ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه". فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى, والدخول تحت التعبد للمولى.  
3/ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى, والمشي مع الأغراض؛  لما يلزم في ذلك من التهار ج والتقاتل والهلاك, الذي هو مضاد لتلك المصالح. وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة. ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته, وسار حيث سارت به؛ حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها, أو كان له شريعة درست, كانوا يقتضون المصالح الدنيوية, بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي. وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم, واطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا, من إقامة صلاح الدنيا, وهي التي يسمونها السياسة المدنية, فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة, وهو أظهر من أن يستدل عليه. وإذا كان كذلك لم يصح لأحد أن يدعى على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة, أما الوجوب والتحريم فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار إذ يقال له افعل كذا كان لك فيه غرض أم لا, ولا تفعل كذا كان لك فيه غرض أم لا, فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق وهوى باعث على مقتضى الأمر أو النهي فبالعرض لا بالأصل, وأما سائر الأقسام وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره فهى راجعة إلى إخراجها عن اختياره, ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض وقد لا يكون فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار بل فى رفعه مثلا, كيف يقال إنه داخل تحت اختياره فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعاً حتى إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه كما يطرأ للمتنازعين فى حق وعلى تقدير أن اختياره وهواه فى تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه ثم قد يصير الأمر فى ذلك المباح بعينه على العكس فيحب الآن ما يكره غداً وبالعكس, فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق, وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشئ الواحد فينخرم النظام بسبب فرط اتباع الأغراض والهوى, فسبحان الذى أنزل فى كتابه: ((ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن)) فإن إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف إلا من حيث كان قضاء من الشارع, وإذ ذاك يكون اختياره تابعاً لوضع الشارع, وغرضه مأخوذاً من تحت الإذن الشرعى لا بالاسترسال الطبيعي, وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله.
فصل : فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد, منها ما يلي:
1/أن كل عمل كان المتبّع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير فهو باطل بإطلاق, لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه وداع يدعو إليه, فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة. وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق؛ لأنه خلاف الحق بإطلاق, فهذا العمل باطل بإطلاق. وتأمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه في – الموطأ "إنك في زمان كثير فقهاؤه, قليل قراؤه, تحفظ فيه حدود القرآن, وتضيع حروفه, قليل من يسأل, كثير من يعطي, يطيلون في الصلاة ويقصرون في الخطبة يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده, كثير من يسأل, قليل من يعطي, يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة, يبدءون فيه أهواءهم قبل أعمالهم". والشاهد هنا قوله في الفريق الأول: "يبدؤون أعمالهم قبل أهوائهم" وفي الفريق الثاني:   يبدأون فيه أهواءهم قبل أعمالهم" : والمراد أن عمل الفريق الأول يبدأ قبل ظهور شهوتهم وهواهم فيه, فإذاً عملهم يحمل عليه شيء آخر غير الهوى, وهو انقيادهم إلى ما شرعه الله, أما هواهم فمرتبته متأخرة عن البدء في العمل, فليسوا فيه متبعين للهوى بخلاف الفريق الآخر الذي لا يبدأ في العمل إلا بعد ظهور الهوى فيه, فإن المتغلب عليه في العمل هواه, وشتان بين الفريقين. فأما العبادات فكونها باطلة ظاهر, إذا كان المتبع فيها هو الهوى بإطلاق. وأما العادات فذلك من حيث عدم ترتب الثواب على مقتضى الأمر والنهي فوجودها في ذلك وعدمها سواء وكذلك الإذن فى عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به. وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر أو النهي أو التخيير فهو صحيح وحق؛ لأنه قد أتى به من طريقة الموضوع له, ووافق فيه صاحبه قصد الشارع, فكان كله صواباً, وهو ظاهر.
وأما إن امتزج فيه الأمران فكان معمولاً بهما, فالحكم للغالب والسابق. فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل نيل غرضه من الطريق المشروع فلا إشكال في لحاقه بالقسم الثاني, وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصة.إلا أن هنا شرطاً معتبراً وهو أن يكون ذلك الوجه الذي حصَّلَ أو يحصِّل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض, وإلا فليس السابق فيه أمر الشارع. وإن كان الغالب والسابق هو الهوى وصار أمر الشارع كالتبع, فهو لاحق بالقسم الأول, أي المتبع فيه الهوى بإطلاق.
وعلامة الفرق بين القسمين تحرّي قصد الشارع وعدم ذلك, فكل عمل شارك العامل فيه هواه فانظر, فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع, فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع, وهواه تبع. وإن لم يكن, فالغالب والسابق له الهوى والشهوة, وإذن الشارع تبعٌ لا حكم له عنده. فمن اعتاد أكل اللحم من مكان معين فيحتمل أن يكون في ذلك تابعاَ لهواه, ويحتمل أن يكون تابعاَ لإذن الشارع, فإن علم أن هذا اللحم حرام فانكف دل أن هواه تبع, وإن لم يمتنع دل على أن هواه سابق. ومنها : أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم, وإن جاء في ضمن المحمود؛ لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة, فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفاً.



الأدلة على ذلك:
1/ أنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي, لأنه مضاد لها.
2/ أنه إذا اتبع واعتيد ربما أحدث للنفس ضراوة وأنساً به, حتى يسري معها في أعمالها, ولاسيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج, فقد يكون مسبوقاً بالامتثال الشرعي فيصير سابقاً له, وإذا صار سابقاً له صار العمل الامتثالي تبعاً له وفي حكمه, فبسرعةٍ ما يصير صاحبه إلى المخالفة, ودليل التجربة حاكمُ هنا.
3/أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه, فتصير كالآلة المعدّة لاقتناص أغراضه كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سلماً لما في أيدي الناس. وبيان هذا ظاهر ومن تتبع مآلات الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيراً.
ولعل الفرق الضالة المذكورة في الحديث أصل ابتداعها اتباع أهوائها, دون توخي مقاصد الشرع.
Previous Post Next Post