التكليف بما فيه مشقة
والمشقة في اللغة: بمعنى الجهد والشدة والعناء.
أما في الاصطلاح فلها معنيان: معنى عام وهي ما يكون شاملاً للمقدور وغير المقدور عليه .
معنى خاص: وهي المشقة الخاصة بالمقدور عليه, وهي ما يمكن فعله مع وجود عناء وجهد في ذلك الفعل, وهذا المعنى هو المراد هنا.
ويعلل الشاطبي رفع الحرج عن المكلفين بوجهين:
الأول : الخوف من بغض العبادة : فعدم رفع الحرج يسبب بغض العبادة وكراهية التكليف ويخشى دخول الفساد على المكلف في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله. وهذا ما جعل الشريعة المباركة تأتي على الحنفية السمحة سهلة المأخذ تقصد حفظ قلوب الخلق من النفرة عنها بل حُببت الشريعة إليهم, بحيث لو يعملوا على خلاف سماحة الشريعة وسهولتها يكونون بذلك قد تكلفوا ما به قد لا تقبل أعمالهم, وفي الحديث: "عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا". يقول ابن عاشور في بيان سماحة الإسلام بوصفها أحد أهم أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها: "السماحة سهولة المعاملة في اعتدال, فهي ربط بين التضييق والتساهل, وهي راجعة إلى معنى الاعتدال والعدل والتوسط". وهناك نصوص كثيرة تؤكد هذا المعنى منها قوله تعالى "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ " وقوله "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ " وقوله "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه". وقوله لعلي ومعاذ رضي الله عنهما حين بعثهما إلى اليمن: "يسرا ولا تعسرا, وبشرا ولا تنفرا". إلى نصوص أخرى متظافرة تؤكد المعنى نفسه. وقد أشار الشاطبي إلى معنى دقيق لخصه في قوله : "إن النهي لعلة معقولة المعنى مقصودة للشارع, وإذا كان كذلك, فالنهي دائر مع العلة وجوداً وعدماً, فإذا وجد ما علل به الرسول صلى الله عليه وسلم كان النهي متوجهاً ومتجهاً وإذا لم توجد فالنهي مفقود". وهذه القاعدة في الحقيقة كفيلة بحل الإشكال الذي يبدو بين ظواهر النصوص الشرعية التي تنهي عن طلب المشقة في التكاليف الشرعية, وبين بعض التطبيقات العملية من الصحابة والتابعين وأهل الصلاح والتقوى والفضل الذين أخذوا أنفسهم بالشدة وعزائم الأمور. فالنهي هنا معلل وهو معقول المعنى وهو دائر مع العلة وجوداً وعدماً. فطائفة من الناس يسبب لها دخولها في المشقة الزائدة ضجراً أو مللاً وفتوراً, فمثل هؤلاء لا ينبغي أن يرتكبوا من الأعمال ما فيه تلك المشقة الزائدة, بل عليهم أن يترخصوا بحسب ما شرعه الشارع من الرخص, وهناك طائفة أخرى لا يدخل عليهم الملل ولا الكسل لوازع هو أشد من المشقة لما لهم من حب الله وحب العمل له, ولما يشعرون به من اللذة في العبادة بحيث صارت المشقة في حق أحدهم غير مشقة, بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء نوراً وراحة أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش بها في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره ما جاء في الحديث : "أرحنا بها يا بلال", وقوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة", وعلى هذا المعنى تحمل سائر الأحوال التي نقلت عن الصحابة والتابعين وأهل الصلاح, ويعلل الشاطبي ذلك بأن "ما ذكر عن الأولين من الأعمال الشاقة التي لا يطيقها إلا الأفراد هيأهم الله لها وهيأهم لها وحببها إليهم, ولم يكونوا بذلك مخالفين للسنة, بل كانوا معدودين في السابقين, جعلنا الله منهم, وذلك لأن العلة التي لأجلها نهى عن العمل الشاق مفقودة في حقهم فلم ينتهض النهي في حقهم".
الثاني: الخوف من التقصير : وهو الوجه الثاني الذي يبرر رفع الحرج عن المكلفين, وذلك لتعلق كثير من الوظائف المختلفة بالعبد, فقد يقصر فيها ولا يؤديها لانشغاله بكثرة التكاليف "فإن المكلف مطلوب بأعمال ووظائف شرعية لابد له منها, ولا محيص له عنها, يقوم فيها بحق ربه تعالى, فإذا أوغل في عمل شاق فربما قطعه عن غيره ولاسيما حقوق الغير التي تتعلق به, فتكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعاً عما كلفه الله به فيقصر فيه, فتكون بذلك ملوماً غير معذور, إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها ولا بحال من أحواله فيها".
ثالثاً : المشقة الخارجة عن مقدور المكلف : ما تقدم من أنواع المشقات الحاصلة بطلب التكاليف الشرعية تتعلق بأوامر الشارع ونواهيه, والمكلف يتلبس بالتكليف وتحصل له المشقة اختياراً, ولكن قد تحصل المشقة الداخلة على المكلف من خارج لا بسببه ولا بسبب دخوله في عمل تنشأعنه, هاهنا ليس للشارع قصد في بقاء تلك المشقة والصبر عليها كما أنه ليس له قصد في التسبب في إدخالها على النفس, وإذا لم يكن الشارع قاصداً ذلك كانت تلك المشاق والآلام موضع ابتلاء وتمحيص من العبد, لجملة مقاصد شرعية أرادها الله تعالى, وإذا كان الأمر كذلك جاز للعبد دفع تلك المشاق ورفعها والتحرز منها, وذلك حفظاً على حظوظه التي أذن الله تعالى لعباده فيها "وتكملة لمقصود العبد وتوسعة عليه, وحفظاً على تكميل الخلوص في التوجه إليه والقيام بشكر النعم". ومن ذلك دفع الم الجوع والعطش والحر والبرد والتحرز من الأمراض قبل وقوعها والتداوي منها عند وقوعها.