من المسائل المتعلقة بالحكم التكليفي

 مسألة توارد الأمر والنهي على الشيء الواحد :
وهذه المسألة حقيقة تعتبر من خواتيم مسائل الحكم التكليفي وإنما أوردها العلماء بعد مسائل الحرام لكون هذه المسألة قد يرد عليها تحريم أو نهي كما أنه قد يرد عليها أمر
.
وقد يُعبر عن هذه المسألة بمسألة اجتماع الحرام والحلال ، وفي هذه المسألة سنتكلم على حالات اجتماع الأمر والنهي أو الحلال والحرام وأحكام الاجتماع في هذه الحالة حيث إن الفعل من الأفعال قد يرد عليه أمر وقد يلتبس بنهي وحينئذ يتوارد الأمر والنهي على هذا الفعل ، فهل هذا الفعل يمكن أن يعتبر باطل مطلقاً؟ أو هو صحيح من وجه وفاسد من وجه؟ أو هو صحيح مع الإثم؟ هذه عدة احتمالات ترد علينا في هذا المقام, لكن قبل أن نتكلم في حالات التوارد أو حالات هذا الاجتماع ننبه إلى أن العلماء يتكلمون في هذه المسائل عن الواحد بالجنس والواحد بالنوع والواحد بالعين , فيجعلون الواحد بالجنس إذا ورد عليه الأمر والنهي فما حكمه , والواحد بالنوع إذا ورد عليه الأمر والنهي فما حكمه والواحد بالعين إذا ورد عليه الأمر والنهي فما حكمه , فحينئذ نحتاج أن نمهد ببيان معنى المراد بالواحد بالجنس والواحد بالنوع والواحد بالعين.

 فالمراد بالواحد بالجنس هو اللفظ الواحد الدال على جنس مثل لفظ العبادة ولفظ الحيوان , فلفظ العبادة يشمل الصلاة والزكاة إلى آخره .. فهو لفظ واحد دال على جنس وهذا الجنس يشمل أنواع مختلفة , كذلك لفظ الحيوان يشمل الإنسان الذي هو حيوان ناطق ويشمل الفرس والخيل والبغال وغيره .. هذه كلها حيوانات أي متصلة بلفظ الحياة ويشمل النبات وهكذا.
• والواحد بالنوع هو اللفظ الواحد الدال على النوع مثل لفظ الإنسان ولفظ الصلاة فالإنسان دال على نوع من أنواع الجنس والصلاة لفظ دال على نوع من أنواع العبادة.
• أما الواحد بالعين فهو اللفظ الدال بمفهومه على شخص معين مثل زيد فهو شخص معين  وهو داخل تحت النوع ولفظ مثلاً صلاة العشاء فهي لفظ دال على أمر معين وهذا الأمر داخل تحت النوع السابق , فالواحد بالجنس يشمل الواحد بالنوع والواحد بالعين , والواحد بالنوع داخل تحت الجنس وهو أعلى مرتبة من الواحد بالعين , والواحد بالعين داخل تحت النوع وهو أخص هذه الأمور , فعندنا أعمها وهو الجنس , وعندنا أخصها وهو العين , وعندنا مرتبة بين الجنس وبين العين وهو النوع , فالعين ليس تحته شيء من الأجناس ، فإذا ثبت هذا فهل يمكن أن يتوارد الأمر والنهي على الشيء الواحد سواء كان جنساً أو نوعاً أو عيناً فيكون حراماً واجباً في وقت واحد من جهة واحدة ؟

الأمر في الحقيقة يحتاج إلى تفصيل , فمثلاً إذا ورد الأمر والنهي على الجنس على العبادة مثلاً فهل يمكن أن تكون العبادة فاسدة وصحيحة في وقت واحد , ومجزئة وغير مجزئة في الوقت نفسه؟ , إذا ورد الأمر والنهي على نوع مثل الصلاة فهل يمكن أن نقول أن هذه الصلاة صحيحة وباطلة أو هل يمكن أن يرد الأمر والنهي عليها ابتداء؟ وإذا ورد فما حكم هذه الصلاة , فإذا ورد الأمر والنهي على صلاة العشاء مثلا في وقت معين أو بصورة معينة فهل يمكن أن يتوارد الأمر والنهي على هذه الصلاة من وجه واحد ؟ فحينئذ يمكن أن يرد عنها الإجزاء والنهي من ناحيتين هذا محل تفصيل, فالسؤال هنا هل يمكن أن يتوارد الأمر والنهي على الشيء الواحد سواء كان جنسا أو نوعا أو عيناً فيكون حراما واجبا في وقت واحد من جهة واحدة الأمر يحتاج إلى التفصيل

بحسب الحالات الآتية:
الحالة الأولى : هي ورود الأمر والنهي على الواحد بالنوع:
فتكون حراماً واجبا مثل الصلاة واختلف العلماء هنا على قولين هل يمكن أن يرد الأمر والنهي على الواحد في النوع :
çالقول الأول : أنه يجوز أن يرد الأمر والنهي على الواحد في النوع وحينئذ يجوز أن يجتمع الوجوب والحرمة فيه فيكون واجباً حراماً طاعة ومعصية , وهذا مذهب الجمهور , وإنما قالوا بذلك بالنظر إلى الإضافة والاعتبارات فيكون الواحد بالنوع واجبا وحراما باعتبار أشخاصه أي واجب باعتبار بعض الأشخاص وحرام باعتبار بعض الأشخاص الآخرين , فاختلاف الإضافات والاعتبارات والنسب و الصفات جعل الواحد بالنوع واجباً باعتبار وحراماً باعتبار , ومثلوا له بالسجود وهو نوع لأنه يدخل تحت جنس العبادة , فالسجود واحد من نوع قد يكون واجباً وقد يكون حراماً , فقد يكون واجباً إذا كان سجوداً لله تعالى , وقد يكون حراماً إذا كان سجوداً لغير الله تعالى فهذا السجود واحد بالنوع أي نوع من الأفعال وأشخاص كثيرة , فيجوز أن ينقسم إلى واجب ومحرم ولا تناقض في ذلك , نظراً لتغايرهما في الشخصية فيكون بعض أفراده واجباً كالسجود لله تعالى وبعضها حرام كالسجود للصنم ودل على ذلك قوله تعالى:"لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن" فيتصور ورود الأمر والنهي على السجود , فالسجود للشمس والقمر محرم , والسجود لله تعالى واجب , فيمكن أن يتصور على رأي الجمهور أن يتوارد الأمر والنهي على الواحد بالنوع فيكون واجباً محرماً.

ç القول الثاني : أنه لا يجوز أن يكون الواحد بالنوع واحداً محرما بمعنى أنه لا يتوارد الأمر والنهي على الواحد بالنوع وذهب إلى ذلك بعض المعتزلة منهم أبو هاشم الجبائي , واستدل على هذا بقوله : لو أننا قلنا بجواز كون الواحد بالنوع واجباً حراما بمعنى لو أجزنا توارد الأمر والنهي على الواحد بالنوع للزم من ذلك التناقض , وذلك لأن السجود نوع واحد مأمور به فيستحيل أن يكون منهياً عنه أي أن السجود واجب فيستحيل أن يكون محرماً والجواب عن هذا أن يُقال هذا الكلام غير صحيح أو هذا الاستدلال غير صحيح لأنه ننظر نحن إلى تغاير تعلق الأمر والنهي فإذا نظرنا إلى تغاير متعلق الأمر والنهي فلا يوجد تناقض فكون الواحد بالنوع وهو السجود واجب باعتبار وحرام باعتبار آخر فلا تناقض , فالسجود للصنم غير السجود لله تعالى بدليل أن المأمور به ليس هو المنهي عنه في قوله تعالى +لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله ..." وقد انعقد الإجماع على أن الساجد للصنم أو الشمس عاص بنفس السجود والقصد جميعاً , وأن الساجد لله تعالى مطيع بالسجود والقصد جميعاً , إذن لا تضاد ولا تناقض بكون الواحد بالنوع حراماً واجبا إنما التضاد يكون بالواحد بالعين وهذا سيأتي الكلام عنه . فإذن الجمهور نظروا إلى توارد الأمر والنهي على الواحد بالنوع باعتبار المتعلقات وما يعرض لهذا الواجب بالنوع . وبعض المعتزلة نظر إلى ذات الواحد بالنوع
فالجمهور نظروا إلى ما يقترن إلى هذا الواحد بالنوع فنعم إذا كان سجود لله يكون واجبا , وإذا كان سجوداً للصنم يكون حراما أو للشمس والقمر وأما بعض المعتزلة فقد نظروا إلى ذات الواحد بالنوع ويظهر حقيقة بحسب النظر أنه لا خلاف بين الفريقين ونحن إذا نظرنا إلى ذات السجود فنعم إما أن يكون السجود واجب وإما أن يكون محرم ولا يمكن أن يكون السجود واجباً ومحرماً في الوقت نفسه إذا نظرنا له إلى ذاته وهذا نتفق فيه كما قال بعض المعتزلة , لكن عندما نأتي إلى قول الجمهور وهم يقولون إن الواحد بالنوع قد يكون واجباً وقد يكون محرماً ليس قصدهم في ذاته بمعنى أن يكون السجود مثلاً واجباً محرماً في ذات السجود نفسه إنما قالوا أنه قد يكون واجباً محرماً باعتبارات يعني بما يعرض له فالسجود إذا عرض له أن يكون لله كان واجباً وإذا عرض له أن يكون للشمس والقمر كان محرماً . فالحقيقة لا خلاف بين الفريقين إنما كلا الفريقين عبر أو نظر إلى الواحد بالنوع من جهة فنسب إليه الحكم بهذا الاعتبار وحقيقة فلا خلاف بين الفريقين والجميع متفق على أن الواحد بالنوع إذا نظرنا له بذاته فنعم لا يمكن أن يكون واجباً حراماً ولا يمكن أن يتوارد عليه الأمر والنهي لذاته , وإذا نظرنا له بحسب متعلقاته وما يعرض له فنعم قد يكون واجباً باعتبار وقد يكون محرماً باعتبار آخر .

الحالة الثانية هي : توارد الأمر والنهي على الواحد بالعين :
ومثلنا له بصلاة العشاء , ويستحيل أن يكون الواحد بالعين حراماً واجباً طاعةً ومعصية من جهة واحدة كما لو فرضنا أنه قال صلِ صلاة الظهر ولا تصل صلاة الظهر , هذا لا يمكن أن يكون أن يرد الأمر والنهي على صلاة الظهر مثلاً , أو يقول اعتق هذا العبد ولا تعتق هذا العبد وهو يشير إلى عبد معين أو رقيق معين فإننا في هذه الحالة نقول يمتنع ويستحيل توارد الأمر والنهي على الواحد بالعين إذا كان من جهة واحدة , وإنما قلنا باستحالة ذلك للتضاد والتناقض والتنافي بين الأمر والنهي في هذه الحالة , فكيف يقول صل الظهر ولا تصلي الظهر لا يمكن أن يكون هذا لأنه سيكون حينئذ في حالة تناقض وتضاد والتنافي من قبيل التكليف بما لا يطاق وهو غير واقعي شرعاً ,,

 أما توارد الأمر والنهي على الواحد بالعين من جهتين فمثاله : الصلاة في الدار المغصوبة وهي أشهر مسألة عرض لها علماء الأصول وهي مسألة توارد الأمر والنهي على الواحد بالنوع من جهتين وهي لها علاقة كما قلنا بمسألة المحرم لغيره , وتعتبر مندرجة تحت نوع من أنواع المحرم لغيره ويعرض لها العلماء في مسألة المحرم لغيره , ويعرضون لها في مسألة اقتضاء النهي الفساد وهي من أشهر مسائل باب النهي الذي يبحثه الأصوليون في موضعه بعد بحثهم لمسائل الأمر فعندنا توارد الأمر والنهي على الأمر الواحد بالعين من جهتين ، نحن قلنا أنه من جهة واحدة كقولنا صل الظهر ولا تصل الظهر يستحيل أن يقع لكن توارد الأمر والنهي على الواحد بالعين من جهتين فهل يمكن أن يكون الواحد بالعين من جهتين واجباً من جهتين أو لا يمكن أن يكون ذلك ؟ إذا نظرنا من هذه الجهة قلنا واجب وإذا نظرنا من هذه الجهة قلنا محرم ! هل يمكن هذا أو لا يمكن, وإذا نظرنا إليه بهذه النظرة المحرم فهذا يترتب عليه الفساد والبطلان لأن من الآثار المترتبة على المحرم أن نقول بفساد أو بطلان الفعل المرتبط به , مثال هذه الحالة الصلاة في الدار المغصوبة , فمثلاً صلاة زيد أو عمر في دار مغصوبة فإن حركة زيد في الصلاة فعل واحد بعينه , وهو واقع في مكان منهي عنه أو في موضع منهي عنه , فتوارد الأمر والنهي على الصلاة , فمن جهة كونها صلاة مأمور بها , ومن جهة كونها في دار مغصوبة من صاحبها محرمة , لأن الفعل هذا غصب وفعل الغصب نهي عنه

 فهنا اختلف العلماء هل يمكن أن يتوارد الأمر والنهي في هذه الحالة ويصبح الفعل واجباً حراما أو لا يمكن ؟
õ اختلف العلماء في هذا على قولين

القول الأول أنه يجوز أن يتوارد الأمر والنهي على الواحد بالعين من جهتين بمعنى أنه يجوز أن يكون الشيء واجباً حراما من جهتين وبناء على هذا القول فإن أصحاب هذا القول يصححون الصلاة في الدار المغصوبة يقولون مأمور بها من جهة كونها صلاة ومنهي عنها من جهة كونها غصبا , فمن جهة كونها صلاة هي صلاة مكتملة الشروط فتكون صحيحة ومجزئة , ومن جهة كونها واقعة في أرض مغصوبة يكون فاعل الصلاة هنا آثم , فيثاب على فعله للصلاة ويعاقب على فعله للغصب , ولا تناقض بينهما لأن النظر هنا إلى جهتين

 وهذا النظر ذهب إليه أكثر الحنفية وأكثر الشافعية وهو قول الإمام مالك وهو قول بعض الحنابلة،
 والدليل على هذا القول يقولون إن فعل الصلاة في مكان مغصوب ـ نجعل الكلام هنا عن الصلاة ويمكن أن يعمم ويبنى على هذا الدليل بما أعم ولكن نفرضه بصورة معينة ـ أن فعل الصلاة في مكان مغصوب هو فعل واحد له جهتان متغايرتان فهو من إحدى الجهتين مطلوب الفعل وهو من جهة الصلاة والأمر بها ,, ومن جهة أخرى مطلوب الترك وهو الصلاة في الدار المغصوبة فإذا كان للفعل الواحد جهتان متغايرتان فيجوز أن يكون مطلوب الفعل من إحدى الجهتين مطلوب الترك من الجهة الأخرى ولا مانع من الصحة في هذه الحالة وليس هذا بأمر محال ولكن المحال إذا كان الشيء مطلوب الفعل ومطلوب الترك من جهة واحدة وهذا سبق الكلام عنه ومعنى هذا أن الصلاة من حيث هي صلاة مأمور بها بقطع النظر عما يلحقها من كونها في مكان معين أو نحو ذلك , والغصب من حيث هو غصب منهي عنه بقطع النظر عن كونه مرتبطاً بأفعال الصلاة أو غير مرتبط بها , وعلى هذا تكون الصلاة معقولة بدون الغصب , والغصب معقول بدون الصلاة فيمكن وجود أحدهما بدون الآخر قياسا على من صلى ولم يغصب أو غصب ولم يصل فكما أن من صلى ولم يغصب له أجر ومن غصب ولم يصلي فعليه الإثم فكذا هاهنا , فإذا جمع المكلف بين الصلاة والغصب أي صلى في مكان مغصوب لم يخرجهما عن حكمهما في حال انفرادهما وهو الأمر بالصلاة وكونها طاعة والنهي عن الغصب وكونه معصية فيجب حينئذ أن يثبت للصلاة وللغصب مجتمعين ما يثبت لهما منفردين فالجمع بينهما لا يقلب حقيقتهما في أنفسهما فحينئذ تكون هذه الصلاة صحيحة ومجزئة من حيث هي صلاة وفاعلها بهذه الصورة آثم من جهة كونه غاصبا
 استدل أصحاب هذا القول بدليل آخر وقالوا إن السيد لو قال لعبده خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار فإذا امتثلت أعتقتك وإن دخلت الدار عاقبتك فخاط العبد الثوب في تلك الدار المنهي عن دخولها فإن العبد يعتبر مطيعاً لسيده من جهة وعاصيا من جهة أخرى فيحصل من السيد عتقه ومعاقبته نظراً للجهتين حيث كان العبد مطيعا بامتثال أمر سيده وهو خياطة الثوب فيستحق العتق من السيد على ذلك , وكان عاصيا من جهة دخوله للدار المنهي عن دخوله فيستحق العقوبة وإذا ثبت هذا فكذلك الصلاة في الدار المغصوبة لأن المكلف جمع بين الصلاة وكونها في الدار المغصوبة كما جمع بين خياطة الثوب ودخول الدار المنهي عنها . الدليل الثالث قالوا لو أن مسلما رمى سهما واحدا إلى كافر فمرق السهم من الكافر فأصاب مسلما فقتله يعني رمى سهما فأصاب الكافر ثم خرج من الكافر فأصاب مسلما والمقصود بالكافر هنا هو الكافر الحربي فيثاب من جهة ويعاقب من جهة أخرى , يثاب ويملك سلب الكافر من جهة قتله كافرا محاربا لإعلاء كلمة الله وقد أمر الله تعالى بذلك ويستحق سلب الكافر الذي قتله ويعاقب أيضاً على رميه السهم للمسلم لأنه قتل مسلما وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن قتل المسلم فيدفع الدية لأنه قتله خطأ فهذا فعل واحد عوقب وأثيب عليه وذلك لتضمنه الأمر والنهي من جهتين مختلفتين فهو مأمور به من جهة قتله الكافر المحارب من غير قصد فإذا ثبت ذلك فالصلاة في الدار المغصوبة مثله لأن المكلف جمع بين الصلاة وكونها في الدار المغصوبة كما جمع بين قتل الكافر المأمور به وقتل المسلم المنهي عنه هذا ما يتعلق بالقول الأول وأدلته .. 

القول الثاني  : أنه لا يجوز أن يتوارد الأمر والنهي على الواحد بالعين من جهتين فلا يجوز اجتماع الحرام والواجب في الواحد بالعين من جهتين وعلى ذلك فالصلاة في الدار المغصوبة لا تصح وذهب إلى ذلك الإمام مالك في رواية عنه ووجه عند أصحاب الإمام الشافعي ورواية عند الإمام أحمد اختارها أكثر الحنابلة وهو مذهب الظاهرية وبعض المعتزلة واستدلوا بأن الوجوب والتحريم إنما يتعلق بفعل المكلف ليس من فعله والأفعال الموجودة من المصلي في الدار المغصوبة أفعال اختيارية محرمة عليه وهو عاصي بها آثم بفعلها وليس له من الأفعال غير ما صدر عنه فلا يتصور أن تكون طاعة ولا يتقرب بها إلى الله تعالى لأن المحرم لا يكون واجبا والمعصية لا تكون طاعة مثاباً عليها ولا تكون متقربا بها مع أن التقرب والنية شرط في صحة الصلاة ,,

يمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال بأن المحكوم بأنه حرام ليس من ذات الفعل من حيث هو فعل ولكن حكم عليه بالحرمة من جهة كونه مثلا غصبا وإذا كان الأمر هكذا فلا يلزم منه امتناع الحكم عليه بالوجوب من كونها صلاة نظرا لاختلاف الجهتين والحقيقة كما قلنا أن هذين القولان في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة العلماء خصوا بها هذه المسألة ولكن قصدهم ما هو أعم منها فقالوا حكم الصلاة في الدار المغصوبة أنه لا يقبل أن يقول هي صلاة صحيحة ومجزئة وآثم صاحبها بالغصب وهؤلاء الذين قالوا بهذا قصدهم أو أرادوا أن يقولوا إنه يجوز أن يتوارد الأمر والنهي على الأمر الواحد بالعين من جهتين فيجوز اجتماع الأمر اجتماع الوجوب والحرمة في الشيء الواحد بالعين من جهتين والذين قالوا إن الصلاة في الدار المغصوبة لا تصح وهم أصحاب القول الثاني قصدهم من ذلك أنه لا يصح ولا يجوز توارد الأمر والنهي على الشيء الواحد بالعين من جهتين فلا يجوز اجتماع الحرام والحلال بالواحد بالعين من جهتين وهذه من المسائل المشهورة عند الأصوليين كما قلنا وكان قصدهم من ذكر هذه المسألة تعميم بحيث تشمل ما هو أعم من ذلك.

ذكرنا فيما سبق عندما تكلمنا عن أقسام المحرم وقلنا أن المحرم محرم لذاته ومحرم لغيره وجعلنا من قبيل المحرم لغيره أن المحرم لغيره ثلاثة أنواع والحقيقة أن المسألة ترجع إلى الكلام على نوع من أنواع المحرم لغيره وهو ما كان المحرم لأمر خارج عنه غير ملازم له وبينا هناك أن الجمهور يقولون بعدم ترتب أي أثر على هذا النوع من المحرم وقلنا إنه ينقل عن الإمام أحمد واشتهر عنه هذا القول بعدم ترتب أي أثر على هذا النوع من المحرم , والجمهور كما قلنا يرتبون بعض الآثار على هذا النوع من المحرم ونقل عن الإمام أحمد أنه لا يرتب أي أثر على هذا النوع من المحرم ونبهنا أن هذا القول ينسب إلى غير الإمام أحمد ولا يقتصر على الإمام أحمد , وأيضا نبهنا إلى أن الغزالي عندما ذكر أن الإمام أحمد عندما خالف .. خالف إجماعا سابقا وخلافه لا يقدح في الإجماع قال لأن العلماء لم يأمروا بقضاء الصلوات مع كثرة وقوعها لأنه يقع من الناس كثيرا غصب الأراضي وغصب الدور ونحو ذلك ومع ذلك يصلون فيها ولم يؤثر عن أحد من العلماء أنه يفتي بأن الظلمة لابد أن يقضوا هذه الصلوات التي يصلونها في هذه الأماكن وهذا إجماع , ومادام أنه إجماع يقول أنه لا يحق للإمام أحمد أن يخالف في هذا لأنه لم يؤثر عن أحد أنه يقول يلزم الظلمة أن يقضوا هذه الصلوات التي أدوها في الأماكن التي غصبوها , لكن كما قلنا أن ابن قدامة عقب لكلام الإمام الغزالي وأشار أنه ليس هناك إجماع في المسألة ونقد هذا الكلام الوارد عن الغزالي في تلك المسألة ونصل إلى نتيجة هنا وهي هل معنى هذا أن كل محرم يلزم منه الفساد أو الإثم , الحقيقة بالنسبة للإثم أمره إلى الله تعالى ولكن نقول في الظاهر أن من فعل محرما يستحق الإثم ويستحق العقاب ثم أمره إلى الله تعالى إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه لكن بالنسبة للفساد أي من فعل محرما يكون فعله فاسدا مطلقا كما قلنا من فعل محرما لذاته نعم فعله فاسد مطلقا وباطل مطلقا من فعل محرم لغيره فهذا على أنواع ثلاثة إن كان محرما لغيره لأجل أنه منهي عنه لوصفه فهذا أيضاً جمهور العلماء يقولون بفساد هذا النوع كما قلنا بصلاة الحائض مثلا باتفاق أنها فاسدة المنهي عنه لغيره لأمر ملازم له فهذا كما قلنا أن الجمهور يقولون بفساده وخالف في ذلك الحنفية وقالوا بعدم الفساد , المحرم لغيره لأمر منهي عنه خارج عنه مثل الصلاة في الدار المغصوبة فالجمهور يقولون بعدم الفساد و صحة هذا الفعل وأثر عن الإمام أحمد وغيره من العلماء بأنهم يقولون بالفساد في هذه الحالة فحقيقة ليس هناك تلازما بين الفساد وبين التحريم إلا في المحرم لذاته ففيه نوع تلازم بين التحريم والفساد , المحرم لغيره في نوع منه هناك اتفاق على التلازم بين الفساد وبين التحريم ,
 النوعان الآخران ليس هناك تلازم عند بعض العلماء وإن كان هناك تلازم عند جملة منهم والإمام أحمد على كل حال قاعدته هي التلازم بين التحريم والفساد في جميع أنواعه سواء المحرم لذاته أو المحرم لغيره فهناك تلازم عنده مطلقا أما غيره من العلماء فيتفاوت مواقفهم بحسب اختلاف أنواع المحرم وخاصة المحرم لغيره .


وفي هذه الحلقة نختم إن شاء الله تعالى الكلام عن مسائل الحكم التكليفي
هذه الحلقة نختم الكلام أيضاً عن مسائل الحكم التكليفي بالكلام على جملة من المسائل منها مثل
ا المسألة الثانية وهي مسألة (الأمر بالشئ المعين هل تعد نهي عن ضده) ويشمل هذا الكلام المراد به هذه المسألة وخلاف الأصوليين فيها وترجيح ذلك وثمرة الخلاف ثم أيضاً مسألة أخرى
 وهي المسألة الثالثة وهي (هل الأحكام الشرعية قطعية أو ظنية) إن شاء الله تعالى أيضاً يكون هو جملة خواتم الأمور التي نختم بها الكلام على الحكم التكليفي .

أحدث أقدم