الإمام سحنون بن سعيد التنوخي وأثره في ترسيم مذهب أهل المدينة بإفريقية والمغرب في الفقه والقراءة:
وقد تحدث عياض عن جهود أولئك الرواد في الميدان الفقهي وما تكللت به من نجاح في هذا الميدان فقال: "ان افريقية وما وراءها من المغرب كان الغالب عليها في القديم مذهب الكوفيين، إلى أن دخل علي بن زياد وابن أشرس والبهلول بن راشد وبعدهم أسد بن الفرات وغيرهم بمذهب مالك، فاخذ به كثير من الناس ولم يزل يفشو إلى أن جاء سحنون[1] فغلب في أيامه، وفض حلق المخالفين"، واستقر المذهب في أصحابه فشاع في تلك الأقطار"[2].
وتعبير عياض بقوله "فض حلق المخالفين" لا يعني بالضرورة أنهم منعوا من إقامة حلقهم ونشر مذاهبهم في الفقه والقراءة وعلوم الرواية عموما، لأن الدولة كانت يومئذ لهم، وكان أمراء بني الأغلب في أول دولتهم يناصرون مذاهبهم ـ كما أسلفنا ـ ويختارون منها "أطر" القضاء والإمامة وغيرها، الأمر الذي أدى إلى وقوع صراع حميم بين فقهاء المالكية أو "المدنيين" كما كانوا يسمون: وبين أولئك "العراقيين" في النحلة والمذهب الفقهي، حيث "كان فقهاء المالكية في جميع أقطار الشمال الافريقي وقفوا ضد تسرب مبادئ المعتزلة، بل انهم اتخذوا موقف عداء من الدولة الأغلبية لانحيازها لفقه أهل العراق ومبادئ المعتزلة"[3].
وإنما يريد بفض حلق المخالفين استقطابه مع هؤلاء "المدنيين" لجمهور طلاب العلم بصورة صرفت الأنظار إليهم، وزهدت بشكل عام في المذاهب الوافدة من العراق، إيثارا لمذاهب أهل المدينة دار الوحي والهجرة. ولقد بلغت هذه الحلق في مسجد القيروان الجامع أوجها في عهد سحنون على أيدي أولئك الرواد حتى قال فيهم الشاعر أبو القاسم الغنزاري من قصيدة طويلة نقتطف منها هذه الأبيات:
فهل للقيروان وساكنيهـــــا عديل حين يفتخر الفخــور
عراق الشرق بغداد وهـــذي عراق الغرب بينهما كثــــير
ولست أقيس بغدادا إليهــا وكيف تقاس بالسنة الشهور
-------------------------------
بها حلق العلوم لهـــا دوي يجاوبها الكتاب المستنــــير[4].
قائمة بأسماء أهم علماء الأندلس الذين رحلوا للأخذ عن سحنون بالقيروان وغيره
ولإعطاء صورة عن مبلغ الإقبال على الأخذ عن سحنون وعظم حاشيته العلمية في مسجد القيروان نورد فيما يلي هذه القائمة التي جمعناها من تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي وغيره مرتبة على الهجاء دون توسع في الحديث عن أولئك الرواة وما يمكن أن يتحملوه من آثار عن "المدرسة القيروانية" وما ينقلون إليها عن "المدرسة الأندلسية".
ـ إبراهيم بن زرعة مولى قريش يكنى أبا زياد روى عنه سحنون بن سعيد – تاريخ علماء الاندلس 1/33 ترجمة 2.
ـ إبراهيم بن يزيد بن قلزم من أهل قرطبة سمع من يحيى بن يحيى وغيره، ورحل فسمع من سحنون 1/34/35.
ـ إبراهيم بن شعيب الباهلي من أهل البيرة، روى عن يحيى بن يحيى وغيره، ورحل إلى سحنون ـ 1/35 ترجمة 6.
إبراهيم بن خالد من أهل البيرة، وهو أحد السبعة الذين اجتمعوا فيها. من رواة سحنون في وقت واحد ـ 361.
إبراهيم بن خـلاد اللخمي من أهل البيرة أحد السبعة المذكورين من رواة سحنون ـ 1/36 ترجمة 8.
ـ إبراهيم بن محمد بن باز يعرف بابن القزاز من أهل قرطبة ـ سيأتي في مدرسة ورش بالأندلس ـ 1/37 ترجمة 10.
ـ إبراهيم بن قاسم بن هلال القيسي من أهل قرطبة، رحل حاجا فسمع من سحنون بن سعيد ـ 1/38 ترجمة 12.
ـ إبراهيم بن النعمان أندلسي سكن القيروان سمع من سحنون توفي بمدينة سوسة سنة 283هـ 1/39 ترجمة 13.
ـ إبراهيم الزاهد الأندلسي كان خياطا، وكان له سماع من سحنون ـ 1/44 ترجمة 22.
ـ أبان بن عيسى بن دينار الغافقي من أهل قرطبة يكنى أبا القاسم، رحل فلقي سحنون ـ 1/58 ترجمة 51.
ـ أحمد بن الوليد بن عبد الخالق الباهلي من أهل طليطلة، سمع من سحنون وولي قضاء طليطلة ـ 1/62 ترجمة 59.
ـ أحمد بن محمد بن عجلان من أهل سرقسطة له رحلة ولأخيه سمعا فيها من سحنون ـ 1/1/62 ترجمة 60.
ـ أحمد بن سليمان بن أبي الربيع من أهل البيرة وهو أحد السبعة أصحاب سحنون ـ 1/65 ترجمة 67.
ـ إسحاق بن عبد ربه من أهل باجة، سمع من يحيى بن يحيى ورحل فسمع من سحنون ـ 1/40 ترجمة 224.
ـ إسحاق بن إبراهيم بن عبد الكريم من قرية يالش يعرف بالشاري، سمع من سحنون وغيره ـ 1/141 ترجمة 225.
ـ أصبغ بن خليل من أهل قرطبة من أصحاب الغازي بن قيس ويحيى بن يحيى – 1/150-151 ترجمة 245.
ـ بقي بن مخلد القرطبي ـ 1/169 ترجمة 281.
ـ بشر بن جنادة أبو سعيد 1/178 ترجمة 296.
ـ تمام بن موهب القبري 1/180 ترجمة 300.
ـ حرم بن غالب الرعيني 1/213 ترجمة 359.
ـ زكرياء بن قطام الطليطلي 1/271 ترجمة 444.
ـ سعيد بن النمر الغافقي 1/296 ترجمة 472.
ـ سعيد بن عياض الطليطلي 1/293 ترجمة 477.
ـ سعيد بن مسعدة الحجاري 1/293 ترجمة 479.
ـ سعيد بن حسان الجمحي 1/293 ترجمة 480.
ـ سليمان بن نصر المري 1/325 ترجمة 543.
ـ الصباح بن ابي عبد الرحمن 1/352 ترجمة 605.
ـ عبد الله بن الفرج النمري 1/372 ترجمة 639.
ـ عبد الله بن مسعود الطليطلي 1/273 ترجمة 641.
ـ عبد الله بن إبراهيم بن وزير 1/373 ترجمة 642.
ـ عبد الله بن حمدون الأسلمي 1/ 375 ترجمة 649.
ـ عبد الله بن أبي عطاء الأندلسي 1/377 ترجمة 651.
ـ عبد الرحمن بن عيسى بن دينار 1/442 ترجمة 781.
ـ عبد الأعلى بن وهب القرطبي 1/474 ترجمة 835.
ـ عبد الجبار بن محمد بن عمران 2/485 ترجمة 839.
ـ عبد الوهاب بن عباس بن ناصح 2/486 ترجمة 841.
ـ عبد الملك بن محمد ـ الذيل والتكملة للمراكشي 5/37.
ـ محمد بن أيمن ـ الذيل والتكملة 6/135.
ـ يحيى بن أيوب ابن الفرضي 2/904.
ـ عبد المجيد بن عفان البلوي 2/498 ترجمة 864.
ـ عبد البصير بن إبراهيم من قرية أنطليش 2/501 ترجمة 780.
ـ عثمان بن أيوب بن أبي الصلت 2/512 ترجمة 887.
ـ عمر بن موسى الكناني 2/541 ترجمة 939.
ـ عمر بن زيد من أهل طليطلة 2/541-542 ترجمة 940.
ـ عميرة بن عبد الرحمن العتقي 2/553 ترجمة 967.
ـ عيسى بن عاصم بن مسلم الثقفي 2/557 ترجمة 974.
ـ عيسى بن الأشج من أهل أستجة 2/557 ترجمة 975.
ـ علكدة بن نوح الرعيني 2/576 ترجمة 1009.
ـ فرج بن أبي الحزم من أهل وشقة 2/587 ترجمة 1030.
ـ محمد بن أحمد بن عبد العزيز القرطبي 2/634 ترجمة 1102.
ـ محمد بن عامر القيسي 2/630 ترجمة 1103.
ـ محمد بن عبد الواحد الطليطلي 2/638 ترجمة 1106.
ـ محمد بن عبد الله بن قنون 2/638 ترجمة 1107.
ـ محمد بن يوسف بن مطروح 2/639 1111.
ـ محمد بن إدريس بن أبي سفيان 2/641 ترجمة 1115.
ـ محمد بن عميرة العتقي 2/242 ترجمة 1117.
ـ محمد بن عجلان 2/243 .
ـ محمد بن محمد التطيلي 2/650.
ـ محمد بن سليمان 2/658.
ـ محمد بن الأبح 2/648.
ـ محمد بن وضاح 2/650.
ـ محارب بن قطن 2/810.
ـ مطرف من قيس 2/833.
ـ وليد بن قزلمان 2/871.
ـ وهب بن نافع 2/875.
ـ هارون بن سالم 2/884.
ـ هاشم بن محمد اللخمي 2/887.
ـ يحيى بن حجاج 2/802.
ـ يحيى بن قاسم 2/904.
ـ يحيى بن عمر 2/906.
إلا أن سحنون قد استطاع فيما يبدو بحسن تأتيه للأمور أن يلطف من عداء المالكية للدولة، واستطاع أن يفرض لهم اعتبارا خاصا لدى ولاة الأمور، وسلاحه في ذلك حاشيته العلمية الممتازة التي كانت تقود وراءها قاعدة واسعة من طلاب العلم بالقيروان وتستأثر بإعجاب ولاة الأمر والعامة على حد سواء، ولذلك قيل في سحنون:
"كان أيمن عالم دخل المغرب، كان أصحابه مصابيح في كل بلدة، عد له نحو سبعمائة رجل ظهروا بصحبته، وانتفعوا بمجالسته"[1].
وعلى الرغم من تعدد المناهل والمصادر التي كانت المنطقة الافريقية تستقي منها لأزيد من قرن ونصف فإنه مع حاشيته العريضة هذه قد استطاع أن يحول الاهتمام إلى مذاهب أهل المدينة تحويلا سريعا وعاما، وأن يرسخ في ضمن ذلك الميل إلى جميع ما هو مدني والنفور مما سواه، بما في ذلك الأخذ بقراءتهم وتفضيلها على غيرها ولقد قيل عنه خاصة "أخذ بمذهب أهل المدينة في كل شيء"[2] ، وأنه "تأدب بأدب أهل المدينة حتى في العيش"[3].
ففي عهد تصدره إذن - ما بين عودته من رحلته سنة 191 وبين وفاته سنة 240هـ تمت النقلة العظيمة في افريقية والجهات المغربية التابعة لها إلى مذاهب أهل المدينة، وتم وضع الأسس العتيدة لها بالمنطقة.
ونحن وإن كنا لا نجد من ربط بين هذا التحول وبين آثاره على المدرسة القرآنية هنالك، فإننا باستقراء الأحداث والاستعانة ببعض الشذرات من الإشارات في المصادر نستطيع تقدير هذه الآثار وتمثل معالمها جلية واضحة بذلك.
وأول ما ينبغي أن نستحضره هنا تلك الرسالة التعليمية التي أملاها سحنون على ولده محمد وحررها بقلمه في "آداب المعلمين"، فهذه الرسالة في نظرنا تشكل "برنامج عمل" أو المنهاج التربوي الذي رسمه سحنون وسعى بمعرفة حاشيته العلمية إلى تطبيقه وتعميمه والدعوة إليه بكل سبيل.
ـ وثاني ملاحظة يمكن أن نقف عندها هي هذه الدعوة من سحنون إلى اعتماد قراءة نافع في التعليم حتى نكاد نشم من عبارته أنه يريد قصر القراء والمتعلمين عليها، فها هو حين يذكر واجبات القائم بالتعليم يقول:
"وينبغي أن يعلمهم إعراب القرآن، وذلك لازم له، والشكل والهجاء والخط الحسن، والقراءة الحسنة والتوقيف والترتيل، ويلزمه ذلك ... ويلزمه أن يعلمهم ما علم من القراءة الحسنة وهو مقرأ نافع، ولا بأس إن أقرأهم لغيره"[4].
فالقراءة الحسنة إذن على رأي سحنون هي قراءة نافع، وتوصيته هذه بها دليل على أنها قراءته المختارة وقراءة أصحابه، وإلا ما كان لتوصيته بها ما يزكيها من واقع الحال، وفي هذا ما يدل على أن هذه القراءة قد أصبح لها جمهور معتبر في أيام سحنون، إلا أن المنافسة ما تزال بينها وبين غيرها من القراءات، وبالأخص بينها وبين قراءة حمزة، وطالما أن الأمر كذلك فإن ما تقدم ذكره من نسبة الريادة في قراءة نافع إلى محمد بن خيرون الذي قدم من رحلته إلى مصر فنزل القيروان ـ قال ابن الفرضي ـ: "وهو الذي قدم بقراءة نافع على أهل افريقية وكان الغالب على قراءتهم حرف حمزة، ولم يكن يقرأ لنافع إلا خواص الناس .."[5].
[1]- ترتيب المدارك 4/74.
[2]- نفسه 4/53.
[3]- رياض النفوس 1/364.
[4]- رسالة آداب المعلمين ص 102. وقد أبقيت لفظ "القراءة الحسنة" كما هو في النص، وأحسب أن اللفظ محرف عن "القراءة السنية" إشارة إلى ما سيأتي من قول مالك بن أنس: "قراءة نافع سنة".
[5]- تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي 2/799 ترجمة 1393 ـ وتبعه ابن الجزري في الغاية 2/217 ت 3314.
[1]- هو عبد السلام بن سعيد التنوخي القيرواني، رحل في طلب العلم إلى مصر سنة 178 مقتصرا عليها، ثم عاد إلى بلده، ورحل بعد موت مالك بنحو عشر سنين سنة 188هـ فسمع بمصر والمدينة من كبار أصحابه، وانصرف إلى افريقية سنة 191هـ، وهو صاحب "المدونة الكبرى" على مذهب مالك توفي سنة 240. ترجمته في طبقات أبي العرب 101-104 ورياض النفوس 1/345-375 ترجمة 126 ـ وترتيب المدارك 4/45-104 ـ والمعالم 2/77.
[2]- ترتيب المدارك 1/25-26.
[3]- أسباب انتشار المذهب المالكي للدكتور عباس الجراري ـ ندوة القاضي عياض 1/180.
[4]- رياض النفوس 2/490-493.