موقف العلماء من القراءة الجماعية  في افريقية
ومهما يكن فإن مناطق إفريقية لا بد أن تكون قد تعرفت على أسلوب "الدراسة" باعتباره نمطا تعليميا جديدا، وربما أسهمت فيها بنصيب قليل أو كثير عن طريق من دخلها من قراء الشام ممن أخذوا بهذا النمط، أو من قراء بلاد مصر بفعل الاحتكاك وقرب الجوار، أو بسبب هجرة من هاجر منهم إليها.
ولعل أهل إفريقية قد توسعوا في الأخذ بذلك تأثرا بأهل الشام والاسكندرية قبل أن يسود فيهم مذهب مالك، وأن يكثر أتباعه في القيروان والمنطقة، وأما بعد ذلك فقد ناقشوا المسألة وحاولوا في زمن سحنون (ت 240 هـ) أن يبثوا فيها على مذهب مالك بالمنع منها والأخذ على يد من سعى في ترويجها، وفي هذا السياق يقول سحنون فيما حكاه عنه ابنه في الرسالة التي دونها عنه في آداب المعلمين:
"ولقد سئل مالك عن هذه المجالس التي يجتمع فيها للقراءة، فقال: بدعة، وأرى للوالي أن ينهاهم عن ذلك ويحسن تأديبهم"[1].
لكن يبدو أن في قول سحنون وتعبيره بلفظ "هذه المجالس" ما يشعر بأنها أمست في هذه الجهة أيضا أمرا واقعا شائعا، وان كان أهل العلم ما يزالون يتوقفون في إباحته والإذن فيه.
ولقد زاد في الأمر ما ظهر في أثناء النصف الثاني من المائة الرابعة من احداث ما عرف فيما بعد بـ"الحزب الراتب"[2]، وقد ذكروا أن الشيخ المقرئ أبا محمد محرز بن خلف المؤدب (ت 413) هو "أول من سن قراءة القرآن بعد صلاة الصبح بافريقية"[3].
ولم يذكروا لنا شيئا عن الكيفية التي كان يتم بها القيام بهذه الوظيفة التي "سنها" أهي الطريقة الجماعية في الأداء أي "الدراسة"، أم هي تلاوة قارئ واحد والناس يستمعون بعد الفراغ من صلاة الصبح؟ الظاهر أن المراد قراءة الجماعة من القراء دفعة واحدة، ولذلك ظل الأمر محل استشكال، وبقيت الأسئلة حوله تتردد في الميدان الفقهي، ولكن الجواب عنها كما نجده عند الإمام القابسي قد بدأ يأخذ اتجاها جديدا، فقد سئل أبو الحسن علي بن خلف القابسي (ت 403) "عن المجتمعين بعد صلاة الصبح يقرأون الحزب من القرآن متفقين فيه، هل يجوز أم لا؟ فأجاب: ان كان لما يجدون في ذلك من القوة والنشاط في الحفظ والدراسة فلا بأس"[4].
ولا شك أن هذا فقه جديد للقضية المعروضة أملاه الواقع العملي أكثر مما أملاه النظر الفقهي  والمذهبي وأقره الشيخ القابسي ـ وهو أحد أساطين المالكية في زمنه ـ ناظرا إلى ما لمس فيه من مصلحة راجحة في الحفز على الاستذكار والاستظهار، وهذا توسط منه في الفتيا بين مذهب المنع ومذهب الترخيص.
ويهمنا من هذا هنا ما يكون لابن أبي المهاجر ـ والي عمر بن عبد العزيز ـ من أثر في وضع اللبنات الأولى لهذه الدراسة المحدثة، لأنه ما من شك عندنا في أن لها تأثيرا كبيرا في توحيد القراءة والأداء على نمط واحد ولا تتأتى مع تباين القراءات، لما يؤدي إليه ذلك من التفاوت في الأداء بسبب الخلاف في أصول القراءات وفرشها. وسواء كانت القراءة التي اعتمدت في هذه القراءة الجماعية قراءة ابن عامر تبعا لما رأينا من المؤثرات الشامية، أم قراءة نافع من رواية ورش أو غيره تبعا لوصول طلائع الرواة عنه إلى افريقية في زمنه ـ كما سيأتي ـ وظهور مدرسة ورش القوية في مصر بعد منتصف المائة الثانية، فان ذلك يفيدنا في تقدير اجتماع كثير من الناس على بعض قراءات السبعة المطابقة لمصحف الجماعة، وقد اختاروها على غيرها لهذا الاعتبار، وسيأتي الحديث عن وصول طائفة أخرى من الروايات عن السبعة وغيرهم إلى افريقية وغيرها لهذا العهد وتلاقحها جميعا ثم تنافسها على الحظوة بالمكانة الأولى في المساجد الجامعة والتعليم والإقراء إلى أن كانت الغلبة لقراءة نافع.


أما باقي رجال البعثة العمرية فهم:
3- أبو ثمامة بكر بن سوادة الجذامي المصري الشامي الأصل

"كان رجلا فاضلا جليلا، روى عن جماعة من الصحابة، منهم عقبة بن عامر وسهل بن سعد الساعدي وسفيان بن وهب الخولاني وأبو ثور الفهمي، وروى عن جماعة من التابعين، منهم سعيد بن المسيب وابن شهاب الزهري، قال أبو سعيد بن يونس:
"كان فقيها مفتيا سكن القيروان، وكانت وفاته بها سنـة 128 ـ رحمه الله تعالى ـ، ويقال انه غرق في مجاز الأندلس، وكان أحد العشرة التابعين"[5]
4- جعثل بن عاهان بن عمير أبو سعيد الرعيني المصري

"هو أحد العشرة الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز من التابعين، وولي قضاء الجند بافريقية لهشام بن عبد الملك، ذكره ابن يونس وقال: كان أحد القراء الفقهاء"[6].
وقال ابن حجر وغيره: "بعثه عمر بن عبد العزيز إلى المغرب ليقرئهم القرآن"[7].
روى من التابعين عن أبي تميم عبد الله بن مالك الجيشاني[8] وأخرج له النسائي في سننه عن عقبة بن عامر2 أما الرواة عنه فمنهم عبد الله بن زحر[9] وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم[10] وبكر بن سوادة زميله في البعثة[11] ومن الطريف أنه وحده من بين أفراد البعثة نعت بـ"القارئ"، وقد جاء عن شيخه أبي تميم الجيشاني أنه كان من المختصين بمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ، وأنه تعلم عليه القرآن[12].
2-   حبان بن أبي جبلة القرشي المصري ـ من موالي بني عبد الدار ـ
كان "من أهل الدين والفضل روى  عن جماعة من الصحابة منهم عبد الله بن عباس وعمرو بن العاص وولده عبد الله، وروى عنه زياد بن أنعم وأبو شيبة عبد الرحمن بن يحيى الصدفي وعبيد الله ابن زحر، سكن القيروان وانتفع به أهلها"[13].
دخل افريقــية مع رجال البعثة العمـــرية وبقي بها حتى توفي بالقيـــروان سنة (125-122)[14]، وقد وهم فيه بعضهم فعده من الصــحابة[15]، كما وهم بعضـهم في جعل مرسله إلى مصر لتفقيه أهلها عمر بن الخطاب[16].
6-  سعد بن مسعود التجيبي المصري
"كان رجلا فاضلا مشهورا بالدين والفضل .. وهو من العشرة الذين بعثهم عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله تعالى عنه ـ ليفقهوا أهل القيروان"[17].
صحب جماعة من الصحابة وروى عنهم، منهم أبو الدرداء وغيره، وروى عنه جماعة منهم عبد الرحمن بن زياد ابن أنعم7 وقد ذكروا  أنه بث في القيروان علما كثيرا[18].
7-  طلق بن جابان الفارسي

وهو معدود في العشرة من التابعين[19]، إلا أن المصادر التي ترجمت له لا تذكر أحدا من  شيوخه في الرواية، إلا أن ابن يونس ذكر أنه يروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن المدني من التابعين[20].
أما الرواة عنه فمنهم عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وموسى بن علي بن رباح، ومن المصريين سعيد بن أبي أيوب[21]، ويظهر أن قدومه في البعثة إلى القيروان كان بعد إقامة طويلة في مصر حتى تفقه عليه أهلها[22] .
8- عبد الرحمن بن رافع أبو الجهم التنوخي المصري

"من فضلاء المؤمنين، روى عن جماعة وروى عنه جماعة، سكن القيروان وانتفع به خلق كثير، وهو أول من استقضي بها بعد فتحها، ولاه عليها موسى بن نصير سنة 80 هـ، وهو أحد العشرة التابعين، توفي بالقيروان سنة 113 هـ رحمه الله"[23].
ومن الرواة عنه عبد الرحمن بن زيــاد بن أنعم وولده إبراهيـم بن عبد الرحـمن وبكر بن سوادة الجذامي. ـ أحد رفاقه في البعثة ـ[24].
9- عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن الحبلي المعافري
"من فضلاء التابعين، بعثه عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله تعالى عنه ـ إلى افريقية ليفقههم في الدين، فانتفع به أهل افريقية، وبث فيها علما كثيرا، توفي بالقيروان سنة 100"[25].
روى عن أبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وعقبة بن عامر وفضالة بن عبيد وغيرهم"[26]. ويظهر من كثرة شيوخه ووفرة رواياته أنه كان من أهم أفراد البعثة في هذا الشأن، ولعله قد عاش في افريقية منذ أول الفتح ثم انتدب مع رجال البعثة الرسمية للتعليم والتوجيه، ولهذا زاد عدد الرواة عنه زيادة ملحوظة بالقياس إلى رفاقه، مع تقدم وفاته، ومن الرواة عنه أبو عقيل زهرة بن معبد القرشي وعبيد الله بن هبيرة وعمرو بن سعيد المعافري وإسماعيل بن زيد الأبلي وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم وأبو كريب جميل بن كريب المعافري القاضي وزميله في البعثة بكر بن سوادة الجذامي[27].
ويظهر أنه أخذ القراءة خاصة عن عقبة بن عامر الصحابي الجليل، لأنه يصفه بأنه "كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن"[28]، وقد وقفت له على حديث مسلسل[29] يرويه عن المنيذر الافريقي.
10- موهب بن حي المعافري
"من أهل الفضل والدين، وهو أحد العشرة التابعين، صحب ابن عباس وروى عنه وعن غيره من الصحابة، وسكن القيروان، وبث فيها علما كثيرا، وفيها كانت وفاته"[30].
ومن الرواة عنه عبد الرحمن بن زياد وعياش بن عباس القتباني[31] ومن روايتهما عنه هذا الحديث قال موهب: "سألت ابن عباس فقلت له: انا لنغزو المغرب وليسوا بأهل كتاب، فنجد في آنيتهم السمن والعسل وفي قربهم، أفنأكل ذلك وننتفع به؟ فقال: لا بأس بذلك، لأن الدباغ طهور لها"[32].
أولئك هم العشرة أعضاء البعثة العمرية، وأولئك هم طليعة الرعيل الأول من القراء والمقرئين بافريفية والمغرب بعد الفاتحين الأولين من الصحابة والتابعين، وقد ترجح لدينا من خلال ما عرضنا من سيرهم وأخبارهم أنهم كانوا يمثلون الجسر الأول الذي مرت عبره القراءة في هذه الجهات من طور القراءة الفردية كما كان يؤديها رجال الفتح دون تقيد أو التزام بقراءة شخص معين أو مصر معين أو رجوع لشيء غير الرواية والسماع، بقطع النظر عن كون المقروء به محل اتفاق أو اختلاف مع قراءة الجماعة كما تضمنها المصحف الإمام ـإلى طور الاختيار بين القراءات المأثورة عن السلف، واستصفاء ما هو موافق من حروفها لقراءة الجماعة ومصحفها المجتمع عليه على غرار ما تحقق في باقي الأمصار الإسلامية في الحجاز والشام والعراق على أيدي كبار الأئمة المتجردين للقراءة خاصة كما رأينا في الطور الثاني من نص أبي عبيد القاسم بن سلام.
واستكمالا منا للصورة عن هذه الحقبة بافريقية نرى أن نتحدث قليلا عن الجيل الأول الذي مثل الطبقة الأولى من قراء افريقية والجهات التابعة لها، من أبناء المنطقة أو من نشأوا فيها أو الواردين عليها ممن نسب إليهم إسهام في القراءة والإقراء أو عرف لهم تأثير ما في مجال الإقراء والتعليم على ما نجده في الكتب التاريخية من قلة الحفل بأخبار هذا الشأن والعناية بتفاصيل كافية فيه، مما ضاع معه تاريخ القراءة في المنطقة، وضاقت معه مساحة الاستفادة من تراجم العلماء المذكورين في كتب التراجم، إذ لا يكاد أحد من أصحابها يتجاوز الحديث عن العموميات والعبارات العامة المقتضبة. على أننا أيضا لا نريد بعملنا تقديم إحصاء عن شخصيات العصر ممن يعزون إلى نقل العلم والرواية، وإنما غرضنا الإلمام بذكر بعض الشخصيات التي كان لها شفوف وتفوق على أهل العصر بتنصيص المصادر على نشاط لها في القراءة أو رحلة مهمة في طلب العلم إلى مصر من الأمصار التي تزدهر فيها، أو رحلة من هذا المصر إلى بعض الجهات الافريقية، مما نرجو أن يساعدنا على تمثل سليم قريب من الواقع التاريخي الذي عرفه تطور القراءات بهذه الجهات.

[1] - رسالة آداب المعلمين لابن سحنون 105.
[2] - سيأتي الحديث عن ترسيمه في زمن الموحدين.
[3] - الفوائد الجميلة للشوشاوي.
[4] - المعيار 11/169.
[5] - رياض النفوس للمالكي 1/112-113 ترجمة 36.
[6] - نقله في رياض النفوس 1/114 ترجمة 37.
[7] - تهذيب التهذيب: 2/79  ومعالم الإيمان: 1/202 وحسن المحاضرة: 1/298.
[8] - سنن النسائي 3/233-234 المطبعة التجارية الكبرى بمصر.
[9] - رياض النفوس 1/114.
[10] - معالم الإيمان 1/202 وكذا 1/230-237.
[11] - رياض النفوس 1/114.
[12] - أسد الغابة لابن الأثير 5/152 طبعة طهران (في خمسة أجزاء) 1980.
[13] - رياض النفوس 1/111-112 ترجمة 35.
[14] - رياض النفوس 1/111-112 وتهذيب التهذيب 2/271.
[15] - حسن المحاضرة 1/190.
[16] - نفس المصدر والصفحة.
[17] - رياض النفوس 1/102 ترجمة 39 – معالم الإيمان 1/184-187 – تهذيب التهذيب 12/115.
[18] - معالم الإيمان 1/184.
[19] - طبقات علماء افريقية لأبي العرب 20.
[20] - نقله في رياض النفوس 1/118 ترجمة 39.
[21] - رياض النفوس 1/117-118.
[22] - القراءات بافريقية 147.
[23] - رياض النفوس 1/100. ترجمة 33.
[24] - تهذيب التهذيب 6/168 – الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/232. معالم الإيمان 1/198.
[25] -  رياض النفوس 1/100 ترجمة 30.
[26] - رياض النفوس 1/1-1 وتاريخ رواة العلم بالأندلس لابن الفرضي 1/368-369 ترجمة 631.
[27] - ذكر له المالكي حديثا منثورا في ترجمته منه استنفدنا أسماء بعض الرواة عنه رياض النفوس 1/99-100.
[28] - تاريخ الإسلام للذهبي 2/306.
[29] - حديث مسلسل أكثر رجال سنده  أئمة من أهل فاس والمغرب ذكره الشيخ عبد الباقي الأيوبي في كتابه "المناهل المسلسلة " 163 رقم الحديث 155.
[30] - رياض النفوس 1/110 ترجمة 34 ومعالم الإيمان 1/213.
[31] - من  رجال الحديث من المصريين توفي سنة 133 هـ ترجم له ابن حجر في تقريب التهذيب 2/95.
[32] -  رياض النفوس 1/111.
Previous Post Next Post