- المصحف العقباني:
على أن هنالك ذكرا أيضا لمصحف الفاتح  الأول للمغرب عقبة بن نافع، وقد عرف مصحفه بالمصحف "العقباني" في مقابل المصحف "العثماني"، "وكان الملوك يتوارثونه بعد المصحف "العثماني" "[1].
ومن الراجح أن مصحفه قد انتسخه بالقيروان من المصحف الامام "العثماني"، وظل تتداوله الأيدي وتترامى به الأحداث إلى أن وقع إلى الأشراف الزيدانيين، ثم إلى المولى عبد الله بن المولى إسماعيل العلوي، فغربه إلى المشرق مرة أخرى "ورجع الدر إلى صدفه، والإبريز إلى معدنه".
ومن الراجح أيضا حصول افريقية على نسخة أو أكثر من المصحف الامام على عهد بني أمية، فقد رأينا كيف أرسل الحجاج بنسخة منه إلى المسجد الجامع بمصر. ولا يقال هنا انه لو كان لاشتهر وبقي متداولا، إذ أن كثيرا من ذخائر التراث المغربي في هذه الجهات قد ضاع، لا سيما في مدينة تعرضت لما تعرضت له كالقيروان من الحرائق المريعة والفتن الهائلة لعهود طوال، ثم كانت نهايتها الخراب العام.
ويقوي ما ذهبنا إليه ما أفاده العلامة العبدري في رحلته من وقوفه بالقيروان لما زارها سنة 688هـ على ما يشبه أن يكون نسخة من مصحف عثمان، وفي ذلك يقول: "ودخلنا بيت الكتب، فأخرجت لنا مصاحف كثيرة بخط مشرقي ... ورأيت بها مصحفا كاملا مضمونا بين لوحين مجلدين غير منقوط ولا مشكول، وخطه مشرقي بين جدا مليح، وطوله شبران ونصف، في عرض شبر ونصف، وذكروا أنه الذي بعثه عثمان ـ رضي الله عنه ـ إلى المغرب، وأنه بخط عبد الله بن عمر رضي الله عنهما"[2].
 وما قيل عن المصحف العثماني بالنسبة للقيروان يقال مثله بالنسبة للأندلس، فقد ذكر المقري ما يفيد وجود نسخة منه بجامع قرطبة في أيام الأمويين، وذلك إذ يقول: "وفي الجامع المذكور في بيت منبره مصحف أمير المؤمنين عثمــان بن عفان ـ رضي الله تعالى عنه ـ الذي خطه بيده، وعليه حلية ذهب"[3].
وما تزال في بعض ذخائر القيروان التي أفلتت من النهب، بقايا من المصاحف التي خطها بعض رجال السلف في الصدر الأول، ومنها "مصحف شريف بقلم مغربي، كتبه خديج بن معونة بن سلمة الأنصاري سنة 47 هـ بمدينة القيروان، كتبه للأمير عقبة بن نافع الفهري"[4].
وإلى جانب هذه المصاحف الرسمية، فإن الأخبار كثيرة عن وجود مصاحف فردية كثيرة كانت بأيدي التابعين، وأنها كانت ترافقهم في الحل والترحال، "فعندما هبت على الأسطول الإسلامي في فتح الأندلس ريح عاصفة وضربت المراكب بعضها ببعض، دعا الجنود الله، وتقلدوا المصاحف"[5].
وكان التابعي الجليل حنش بن عبد الله الصنعاني إذا أراد الصلاة من الليل "أوقد المصباح وقرب المصحف" .. وإذا تعايا في آية نظر في المصحف"[6].
وقيل عن إسمـاعيـل بن عبيـد الأنصــاري  الذي غزا صقليـة مع من غزاها سنــة 107هـ انه "غـرق في البـحر ـ رضي الله تعــالى عنه ـ وهو متقلـد المصحــف"[7].
ويدل على استعمال المعلمين والمتعلمين لمثل هذه المصاحف وشيوع ذلك بين العامة: ما جاء في رسالة "آداب المعلمين" لابن سحنون من تعليمات في شأن ما ينبغي أن يأخذ به المتعلم" أن لا يمس المصحف إلا على وضوء"[8] وتقريره أن "قراءة الصبي القرآن في المصحف مع معرفة حروفه وإقامة إعرابه توجب "الختمة" للمعلم وان لم يستظهر الصبي القرآن"[9].
والقول في ما يخص البلاد الأندلسية كالقول في افريقية والمغرب، فمن المفروض أنها عرفت العدد الوفير من مثل هذه المصاحف العامة والخاصة على أيدي الولاة والفاتحين ثم على أيدي الأمواج البشرية التي هاجرت إليها من مصر والشام وافريقية ـ كما سيأتي ـ، وخصوصا حين قيام امارة بني أمية بها قبل النصف الأول من المائة الثانية للهجرة.
وتدل بعض الإشارات الباقية على تعرفها بصورة مبكرة على بعض المصاحف المدنية، وربما كانت عمدتها منذ أيام الفتح قبل أن تتغلب عليها العناصر الشامية.
وقد أفادنا نص عند الإمام أبي عمرو الداني في "كتاب المحكم في نقط المصاحف" عن تعرف المنطقة على النظام المدني المتبع في نقط المصاحف وشكلها في وقت مبكر بعد الفتح، وفي ذلك يقول:
"وصل إلي مصحف جامع عتيق كتب في أول خلافة هشام بن عبد الملك[10] سنة عشر ومائة، وفيه الحركات والهمزات والتنوين والتشديد نقط بالحمرة على ما رويناه عن السالفين من نقاط أهل المشرق[11].
وقد جاء في أخبار رحلة الغازي بن قيس ـ كما سيأتي ـ أنه "صحح مصحفه على مصحف نافع ثلاث عشرة مرة"[12]، ومعنى ذلك أنه كان له مصحف شخصي خرج به في رحلته من قرطبة إلى المدينة فعرضه عليه، وذلك دليل على وفرة المصاحف عند أمثاله ممن كانوا يشتغلون مثله في التأديب. ويدل على هذه الوفرة عبارات كثيرة في محكم الداني يشير بها إلى مصاحف هذه الحقبة كقوله "وفي مصاحف أهل بلدنا القديمة"[13]، وقوله "ووصل إلي مصحف جامع عتيق"[14]، وقوله "وقد تأملت في مصاحفنا القديمة التي كتبت في زمان الغازي بن قيس"[15]، وقوله "ورأيت في مصحف كتبه ونقطه حكم بن عمران الناقط ناقط أهل الأندلس في سنة سبع وعشرين ومائتين.."[16].     
ولا أدل على تلك الوفرة للمصاحف في الأيدي من الرواج الذي كان لمهنة النسخ حتى تعاطاه النساء، وهذا المراكشي صاحب المعجب ينقل عن ابن فياض صاحب تاريخ قرطبة قوله:
"كان بالربض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي" وعلق المراكشي على ذلك بقوله: "هذا ما في ناحية من نواحيها، فكيف بجميع جهاتها"[17].
كل ذلك وغيره يدل على مدى شيوع استعمال المصاحف وسعة انتشارها بين العامة والخاصة، باعتبارها إحدى أهم الوسائل التعليمية، ولا يخفى ما كان يترتب على ذلك من دخول القرآن إلى كل بيت، وذلك ما رمينا إلى رصده في مساره من خلال هذا الاستعراض لمقومات المدرسة القرآنية في الأقطار المغربية في الصدر الأول، والوسائل التي اعتمدتها في تعليم القرآن وتعميمه، ولعلنا من خلال ذلك قد انتهينا مع القارئ الكريم إلى تصور شامل عن المسار العريض الذي سارت عبره المسيرة القرآنية في هذه الديار، وما أخذت به من أساليب ومناهج في التلقين والتعليم، متدرجة بذلك كله نحو الوحدة الشاملة التي نعمت بها ردحا طويلا من الزمن، والتي كان من أجلى مظاهرها "وحدة القراءة" و"وحدة المذهب".
وقبل أن نتطرق إلى تتبع المنافذ والمسالك التي عبرت منها هذه القراءة التي توحدت الأقطار المغربية عليها، ـ أعني  قراءة نافع ـ أرى من المفيد أن نحاول التعرف باختصار على أهم ما عرفته الأمصار الإسلامية في المائة الأولى والثانية من قراءات، وكيف كانت أصداؤها تتجاوب في المناطق المغربية على تفاوت في المستوى والدرجة إلى أن كانت الغلبة للاتجاه المدني لعوامل وأسباب نقف عليها آخر هذا الباب ــ أدت إلى اجتماع الناس في عامة الأقطار والجهات المغربية على قراءة امام دار الهجرة في القراءة نافع بن أبي نعيم المدني.


[1] - المصحف الشريف للباحث محمد المنوني مجلة دعوة الحق العدد   ص 71 السنة 1968.
[2] - رحلة العبدري 65.
[3] - نفح الطيب 2/86 ويمكن الرجوع في تتبع ما آل إليه أمر هذا المصحف إلى الاستقصاء 3/75.
[4] - تاريخ الخط العربي في العصر الأموي للدكتور صلاح الدين المنجد 83 الطبعة 1 بيروت ــ 1972.
[5] - فتوح مصر لابن عبد الحكم 208.
[6] - رياض النفوس للمالكي 1/121 ومعالم الإيمان 1/187.
[7] - رياض النفوس 1/106-107 ترجمة 32.
[8] - آداب المعلمين 113.
[9] - آداب المعلمين 108.  والختمة أراد بها المكافأة المادية المتعارف عليها، وتسمى أيضا "الحذقة".
[10] - ولي هشام بعد أخيه يزيد سنة 105، ومات سنة 125 هـ. ينظر كتاب أسماء الخلفاء والولاة لابن حزم مجموعة رسائل ابن حزم 2/144.
[11] - المحكم 87.
[12] - غاية النهاية 2/2 ترجمة 2534.
[13] - المحكم 174.
[14] - نفسه 174.
[15] - المحكم 8.
[16] -  نفسه 87.
[17] -  المعجب لعبد الواحد المراكشي 520.
Previous Post Next Post