تاريخ علم البصريات عند اليونان 
لا شك أن اليونانيين وغيرهم  من الشعوب القديمة، كان لهم اهتمام بعلم البصريات، إذ كان لهم السبق
والأساس الذي سيبني عليه العلماء  اللاحقون نظرياتهم عند ممارستهم لهذا العلم، والذي يدرس طبيعة ومسالك الرؤية والضوء، إلى جانب الظاهرة المترافقة مع انكسار وانعكاس أشعة الضوء.
إن التأريخ لعلم البصريات عند اليونان يقتضي تحديد الاشكالية التي تحكم هذه النظريات على اختلافها،فعلم البصريات الحديث الذي نشأ مع  كيبلر و نيوتن و ديكارتلا يستند إلى نفس الاشكالية التي يستنـد إليهـا عـلـم البصـريـات عنـد اليـونـان، فقـد ظلـت الحضـارة الإغريقية تتناول علم البصريات ( المناظر ) بين أخذ ورد بين رأيين متعارضين:
·         أما الأول فهو الإدخال: أي حدوث الرؤية عند دخول شيء ما يمثل الجسم إلى العين.
·         والثاني هو الانبعاث: إذ تنبعث أشعة من العين وتعترضها الأجسام المرئية.
هذه المجهودات كما أشرنا في التقديم، تفتقر إلى تفصيل حتمي، لأنها أغفلت العناصر الفيزيائية والفيزيولوجية والسيكولوجية للظواهر البصرية، حيث ذهب البعض إلى أن العين تحدث في الجسم الشفاف المتوسط بينها وبين المبصرات شعاعا ينبعث منها، وأن الأشياء التي يقع عليها الشعاع تُبصر والتي لا يقع عليها لا تبصر، وأن الأشياء التي تبصر من زاوية كبيرة ترى كبيرة، والتي تبصر من زاوية صغيرة ترى صغيرة.وتبقى هذه الملاحظات أولى جدور علم البصريات[1] مع أطروحة  إقليدس الأساسية (القرن 4 ق م)، والتي أعاد صياغتها ونظمها تنظيما هندسيا بطليموس ( المتوفى سنة 165 ق م)، إذ رغم إبداعه في التوفيق بين التناول الهندسيوالتناول الفيزيائي إلا أنه فشل في نهاية الأمر، لأن استخدامه كان مقصورا على دعم استنتاجات سبق التوصل إليها فعلا، بل إن معالجة النتائج التجريبية كانت عبارة عن استنتاجات.
لقد أعادت هذه النظريات البصرية الاعتبار لوصف  أفلاطون في روايته تيماوسحيث قيل أن الرؤية ترجع إلى نار الروح غير المستهلكة والتي تزود العين بضوء ينبعث في الهواء المحيط لتقابل المواد المضاءة. كما تم تأكيد هذه الصورة في تشريح  جالينوس ( المتوفى سنة 75 م)  في عمله  كاتوبتريكس (الانعكاس) بملاحظة مشابهة فيما يتعلق بسرعة الضوء[2].
إن نظريات الانبعاث الرياضية تلك، كالتي تطرق إليها أرسطو في كتابه دي أنيما (مسلك النفس) حيث قال مناقضا بأن الإدراك البصري ينجم عن تقديم شكل الجسم المرئي بدون مادته للعين.


فعلم البصريات عند اليونان، علم لا يبحث إلا في العلاقة بين الفاعل والمنفعل، وكيفية تحقيق التطابق بينهما، لهذا نجده يخلط بين علم الفيزياء وعلم النفس وعلم الفيزيولوجيا، ولهذا يمكن أن نصنف النظريات اليونانية في مجال علم البصريات إلى ثلاثة أقسام:
1 -  نظريات تؤكد على دور العين في عملية الإبصار، والتي ترجعه إلى شعاع تصدره العين، وهذا الموقف دافع عنه أصحاب التعاليم أو أصحاب الشعاع.
2 -  نظريات إقليدس وبطليموس، حيث يعتبر الأول عملية الإبصار تكون بشعاع مصدره العين، حسب خطوط مستقيمية، وتزداد عَظَمة الإبصار بازدياد زاوية الإبصار، والعكس بالعكس؛ أما بطليموسفهو الرجوع إلى المحسـوس للـرؤيـة وهو اللـون، إذ يعتبره أساس المعاني الحسية، مثل العِظم والبعد والحركة والسكون والشكل.



وما نلاحظه أنه لا توجد قطيعة بين النظريتين معا، فهما ترتكزان على أساس واحد هو تطبيق المنهج الهندسي في تحليل عملية الرؤية مع الإشارة إلى عدم اهتمام إقليدس إلا بالمحسوسات المشتركة (العظم، الحركة، والشكل...)
3-  نظرية جالينوس: الذي يعتبر أن الروح الباصر يستخدم الهواء كآلة لإدراك المبصرات، فعلاقة الروح والهواء كعلاقة الدماغ والعصب، وهذه النظرية امتداد لنظرية الرواقيين التي تربط عملية الإبصار بشعاع يخرج من العين ويمتزج بالهواء[1].
يتضح أن علم البصريات عند اليونان بناء على النظريات السابقة هو تشبيه العين باللمس، أي أن العين في حاجة إلى أن تتلمس الأشياء حين تدركها، وهذا ما أكده ابن الهيتمفي علة أصحاب الشعاع في ظنهم أن الإبصار يكون بشيء يخرج من البصر إلى المبصَر؛ وفي المقابل لهذه النظرية نظرية الابيقوريين ونظرية أرسطو، رغم ما بينهما من تناقض، فكلاهما تجعلان من البصر انفعالا وليس فعلا.
إن اعتبار الابيقوريين الكون مركب من ذرات دائمة الحركة في الفراغ وغير قابلة للقسمة من حيث الشكل والوضع تنقل من المحسوس إلى الحاس أصل الصورة المادية التي ينشأ عنها الانطباع الحسي، أي أن سبب الإبصار عندهم هو انتقال هذه الصورة من الموجودات الخارجية إلى العين[2]، وهذا ما يرفضه  أرسطو في كتابه  الكون والفساد، إذ يرفض النظرية الذرية المعارضة لفلسفته في الوجود، فالتغير يقع على أساس التفكيك والتركيب، وتفترض وجود الفراغ؛ والذريونعنده يخلطون بين التغير من حيث الجوهر- الكون- والفساد والتغير من حيث الكيفية – التعاقب -.
إن رفض  أرسطوالنظرية الذرية هو تعارضها مع فلسفته للوجود، فهي تفسر التغيير على أساس التفكيـك والتركيـب وتفتـرض وجـود الفراغ؛ ولهذا فتفسيره عملية الإبصار في كتابه  النفس يرجع بالأساس إلى
حركة المشف الذي ينتقل من القوة إلى الفعل المحسوس الذي يختص به الإبصار وهو اللـون، أما المعـاني الأخـرى - الشكل والبعد والعظم- فهي من المحسوسات المشتركة.
يفترض الإبصار في نظر أرسطو ثلاثة شروط:اللون والمجال والضوء: فاللون في نظره هو سبب انفعال العين وهو غاية المشف المحدود؛ والنور ليس مادة وإنما انتقال الشفاف من القوة إلى الفعل؛ والألوان مزيج من الظلمة والنور بحسب درجة الشفافية التي يتضمنها كل جسم.
 وبناء على هذا، نجد أن نظرية  أرسطو في تناقض تام مع نظرية الابيقوريين لرفضها وجود الفراغ ولاعتبارها الإبصار انتقالا للصور المادية من الخارج إلى الداخل؛ كما أنها تتعارض مع نظرية أصحاب الشعاع، لأن سبب الإبصار في نظره ليس الشعاع المخروطي المتأتي من العين وإنما حركة المشف من القوة إلى الفعل، فالرؤية انفعال، وانفعال العين ناتج عن تكونها من عنصر  مماثل للشفاف وهو الماء.
 يقول ابن رشد في شرحه لنظرية أرسطو : ”ولا يستطيع أحد ما أن يقول أن اللون لا يوجد بالفعل إلا بوجود الضوء، إذ أن اللون هو غاية المشف المحدود، ولذا فهو ليس ضروريا في وجود اللون بل في جعله مرئيا كما حددنا ‟[3]،  فيمكن التعبير على أن هذه النظرية في الألوان هي التي تميز بين وجود الضوء ووجود اللون، وستكون سبب التمييز بين الألوان ككيفيات جوهرية وبين الألوان كنتيجة لانعكاس الضوء.
 وعليه يمكن تلخيص نظرية  أرسطو في الإبصار في نظرية العلاقة بين الفاعل والمنفعل، وهي بذلك لا تدرس إلا وجها من الوجوه المتعددة للعلاقة بين الحاس والمحسوس.
في الطـرف الآخـر وفي محـاورة  تيمـاوس يعتبر  أفـلاطـون أن الـرؤية تتـم بتـركيـب شعـاع يخـرج مـن العيـن وشعـاع صـادر من المبصـرات. فـالـرؤيـة نتيجـة تفـاعـل بيـن البصـر والمبصَـر، أي أن التفـاعـل يقـع


خارج البصر، فالعين تصدر شعاعا مجانسا للشعاع الصادر عن الموجودات، والشعاع على شكل مخروط، رأسه العين، وقاعدته المبصَر؛ ولهذا فإن نظرية أفلاطون هي الأقرب إلى نظرية أصحاب التعاليم، لأن الإبصار عندهم يقوم على خروج شعاع
من العين مجانس للشعاع الخارجي، والشعاع المرئي عنده يجمع بين الناظر والمنظور، لوجود تجانس بين الشعاع الداخلي والشعاع الخارجي، لهذا يمكن أن نقول على أن نظرية  أفلاطون لا تختلف عن نظرية  أرسطو لأنها تستند إلى نفس الإشكالية وهي العلاقة بين الفاعل والمنفعل وكيفية  تحقيق التماثل بينهما.

[1] :  رضا عزوز، مساهمة ابن الهيتم في بناء علم البصريات، ص 16.
[2]  :  لوكراس ، الطبيعة، الكتاب IV ص 31 – 32.
[3] : ابن رشد، الفرح الكبير لكتاب النفس لأرسطو ص 148



[1] -  إيهاب العزازي، ( المسلمون وتطور علم البصريات) http://drehazazzy.maktoobblog.com/1600897/%D8%%A7%D9%84%D9%85% D8%B3%D9%84%D9%85%D9%88%D9%86%D9%88%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1%D8%B9%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%B5
%D8%B1%D9%8A%D8%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%AA


[2] : نفس المصدر  عن كتاب "أقليدس" في اختلاف المناظر
Euclid ; The arabic version of Euclid ’s optics

Post a Comment

Previous Post Next Post