- تاريخ علم البصريات عند العرب
ظلت البحوث في علم البصريات في هذا السياق دون تقدم أو رقي، وبقيت على ذلك حتى جاءت الحضارة العربية فكانت لإسهامات المسلمين نسق آخر متطور وفريد، ذلك نظرا لنبوغهم في العديد من العلوم المرتبطة بهذا العلم، مثل: الفلك، الهندسة، الميكانيكا وغيرها. وعندما نريد التأريخ لعلم البصريات عند المسلمين تبرز عوائق ثقافية إذ يعتبر البعض المعرفة العلمية نتاج الحضارة الأوربية، ويرى آخر أن طريقة العرب بلغت مستوى التجريد بينما البعض الآخر يجعل من المساهمات العربية مجرد وسيلة للحفاظ على التراث اليوناني.
إن تاريخ العلوم هو تاريخ إشكاليات علمية، وليس تاريخ مناهج أو استعراض لمختلف النتائج التي توصلت إليها المعرفة العلمية، وعلى هذا الأساس فإن العصور الوسطى تشكل بالنسبة العلماء المسلمين عصور تقدم علمي وحضاري، مكنهم من نقل علوم السابقين وتطويرها. فهدف العلم إدراك الحقيقة ( الوصول إلى معرفة مطابقة للوجود ) ومصدر المعرفة العلمية عند المسلمين هو الفلسفة اليونانية حيث استمدوا منها موضوع دراساتهم وبحوثهم.
وهنا سأقتصر على أربع محطات هامة لتطور علم البصريات عند المسلمين من خلال علاقته بالعلم الحديث وتواصله معه.
·        المحطة الأولى: جاءت مع العالم والفيلسوف  أبو يوسف الكندي (805 م / 873 م ) الذي تناول الظواهر الضوئية وعالجها في كتابه الشهير " علم المناظر "  والذي يعنى بعلم البصريات، فساهمت رحلته إلى البصرة في التمكن من العلوم، ولن تتوقف رحلته عند هذا الحد، بل سافر إلى بغداد وكانت مكتبة بيت الحكمة التي أنشأت في عهد الخليفة هارون الرشيد مقصده، يقرأ الكتب المترجمة عن اليونانية والفارسية والهندية، ثم تعلم اللغة السريانية واليونانية. وفي مجال علم البصريات أخذ الكندي بنظرية الانبعاث الإغريقية، إلا أنه أضاف إليها وصفا دقيقا لمبدأ الإشعاع، وصاغ من خلال ذلك أساس نظام تصوري جديد يحل محل نظرية الانبعاث، ولقد كان صدى كبير خلال العصور الوسطى.
·        المحطة الثانية  : نظرية حنين بن إسحاق في علم البصريات من خلال كتابه " العشر مقالات في العين"، إذ يبين في هذه النظرية العلاقة بين الحاس والمحسوس، فيضع ثلاثة وجوه:
ا _ أحدها يرسل شيئا منه إلينا فيدلنا به على نفسه حتى نعرف ما هو.
ب _ أن يكون لا يرسل شيئا منه لكنه يلبث في موضعه وتذهب منا إليه قوة الحس فنعرفه بها.
ج _ وجود وساطة بيننا وبين الجسم، وهو الذي يأتينا بمعرفته حتى نعلم ما هو.
فالموقف الأول هو وجه مطابقة لموقف  الذريين الذين يعتبرون أن الإبصار انفعال نتيجة الصور المادية التي تنبعث من المبصَرات إلى العين، أما الموقف الثاني فهو لـلرواقيين المؤكدين بخروج الروح الباصر من العين لإدراك المبصَرات، في حين يتجلى الموقف الثالث – موقف جالينوس- الذي يعتبر أن الهواء آلة لإدراك المبصَرات، وهذه المواقف تشترك في بحثها عن العلاقة بين الحاس والمحسوس، وتشبه حاسة الإبصار بحاسة اللمس.
يرفض ابن اسحاق هذه المواقف، فهو يرفض الموقف الأول:” لأنه إذا أبصرنا الشيء لم نعرف مقداره أو عِظمه إذ كان في المثل جبلا عظيما جدا، لأن قدر صُوَره أو مقدار عظمه أعظم ما يكون من الجبال
ودخوله في العينين مما لا يقبله العقل‟[1]. أما الموقف الثاني فهو أيضا غير مقبول: ”لأن الروح الباصر لا يستطيع أن ينبسط هذا الانبساط كله حتى يستدير حول الجسم... ويحيط به كله ‟[2]. أما الموقف الثالث فيرى أن الهواء مقام العصبة في البدن: ”الهواء يقبل الملاقاة للروح الباصر... مثل ما يقبل من نور الشمس‟[3].
يشبه حنين بن إسحاقفي كتابه العشر مقالات في العين، المبصِر”بإنسان يمشي في ظلمة وبيده عصا قد نصبها بين يديه طولا، فتلقى العصا دفعة شيئا يمنعها من الذهاب إلى قدام فيعلم قياسا من ساعته أن المانع لعصاه من الذهاب إلى قدام إنما هو جسم مصمت مدافع لما يلقاه‟[4]. فيتضح أن نظرية حنين امتداد لنظرية  جالينوس باعتباره للهواء آلة للإبصار، وهي أيضا لا تختلف عن نظرية  أصحاب الشعاع الذين يشبهون حاسة البصر باللمس في تحسس الموجودات الخارجية.
·        المحطة الثالثة : وتتمثل في نظرية  ابن سينا التي تستعرض مجمل النظريات وتحللها وتحكم عليها، فيحدد في كتاب " النفس" المذاهب المشهورة الثلاث: أولها مذهب من يرى أن أشعة خطية تحرج من المبصِر على هيئة مخروط يلي رأسه  العين وقاعدته المبصَر، وأن أصحها إدراكا هو السهم منها، وهذا المذهب هو مذهب بطليموس؛ أما المذهب الثاني فهو من يرى أن الشعاع قد يخرج من البصر على هيئة إلا أنه لا تبلغ كثرته أن تلاقي نصف كرة السماء إلا بانتشار يوجب الرؤية، وهو يعتبر أن الهواء آلة الشعاع، يستخدمه للاتصال بالمبصَرات فيماثل بذلك مذهب جالينوس، وهذان المذهبان متشابهان، لأنهما يقبلان بخروج شعاع من  العين، أما المذهب الثالث مذهب  أرسطو، وهو الأخير، يتبناه ابن سينا للرؤية، حيث يكون: ” بانتقال صورة المبصَر إلى البصر بتأدية الشفاف‟[5]، ولهذا فلا يمكن أن يكون الهواء حساسا أي آلة للبصر، فما دور الهواء إلا تأدية المحسوس لبصرنا، وذلك بانتقال الشفاف من القوة إلى الفعل.
يميز  ابن سينا بين الضوء والنور والشعاع، فالضوء في نظره ليس جسما بل كيفية للشفاف والمبصَر بذاته، أما النور فهو المستفاد من الضوء، حيث تجعله مرئيا بنقل الشفاف من القوة إلى الفعل، والشعاع ” هذا الشيء الذي يتخيل أنه يستر لونها وكأنه شيء يفيض منها ‟[6].
ما يهمنا عند ابن سينا في تحليل نظرية الإبصار هو علاقة اللون بالنور، وعلاقة النور بالشفاف، فنظريته تتمثل في إطار علاقة الحاس بالمحسوس وكيفية تحقيق التطابق بينهما، يقول  ابن سينا: ”الحق أن الحواس محتاجة إلى الآلات الجسدانية وبعضها إلى وسائط، فإن الإحساس انفعال  ما، لأنه قبول منها لصورة المحسوس واستحالة إلى مشاكلة المحسوس بالفعل والحاس بالقوة مثل المحسوس بالقوة...وانفعال الحاس عن المحسوس ليس على سبيل الحركة إذ ليس هناك تغير من ضد إلى ضد بل هو استكمال أعني أن يكون الكمال الذي كان بالقوة قد صار بالفعل‟[7].فالإحساس في حاجة إلى الشفاف وليس إلى الفراغ كما يذهب إليه الذريون.
·        المحطة الرابعة: إن تطور علم البصريات عند المسلمين تتمثل في نظرية  ابن الهيثم الذي بدأ أولا بمناقشة النظريات السابقة، مثل نظريات إقليدس،  بطلميوسوجالينوس فأظهر فساد بعض جوانبها، واستطاع أن يتجاوز التعارض بين نظرية  أصحاب الشعاع ونظرية  أرسطو ببناء نظرية تجريبية، حيث قدم وصفا دقيقا للعين والإبصار بواسطة العينين، ووصف أطوار انكسار الأشعة الضوئية عند نفوذها في الهواء، وتبيان الزوايا المترتبة عن ذلك، وقد أدى كل هذا إلى تطبيق الهندسة في تحليل الظواهر الضوئية وإنتاج تجارب اصطناعية، تطبق النموذج الميكانيكي في دراسة الظواهر الضوئية، فنظرية ابن الهيتم نظرية تجريبية إنشائية، تسعى إلى إدراك القوانين التي تخضع لها الظواهر الضوئية باعتماد التجريب.
وذلكم ما سينكب عليه هذا البحث بالتحليل والمناقشة

[1]- حنين بن اسحاق، العشر مقالات في العين، ص 104.
[2] - نفس المصدر السابق.
[3] - نفس المصدر السابق، ص105.
[4] - نفس المصدر، ص 109
[5] - ابن سينا، النفس، ص 113
[6] - ابن سينا، الشفاء، المقالة الثالثة من الفن السادس – الطبيعيات- ص 91.
[7] - ابن سينا، الشفاء، المقالة الثانية من الفن السادس – الطبيعيات- ص 67.

Post a Comment

Previous Post Next Post