عوامل اعتماد قراءة نافع قراءة رسمية: 
1-  الرحلة إلى الحجاز.

2-   إيثار مذاهب أهل المدينة على غيرها.

3-  العلاقة بين القراءة والمذهب.

4-  النقل المزدوج للقراءة والمذهب معا على أيدي الرواد.

5-  تشجيع السلطة الحاكمة  وتدخلها.

6-  الرغبة في استقلال الشخصية عن المشرق.

7-  ميل المغاربة إلى الوحدة السياسية والمذهبية والفكرية.

 ولنا وقفة مع كل عامل من هذه العوامل لبيان أثره في ترسيخ جذور هذه القراءة في المناطق المغربية ودعمها بكل الوسائل إلى حين استقرارها واستوائها في هذه الآفاق وانفرادها بالمقام الأول بغير مزاحم أو منافس.


عوامل اعتماد قراءة نافع قراءة رسمية


العامل الأول: الرحلة إلى الحجاز

على الرغم من كون الباعث الأول على أكثر الرحلات الحجازية إنما هو أداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، فإن رحلة الحج كانت تتوج عادة بدخول المدينة المنورة للصلاة في المسجد النبوي وزيارة الروضة الشريفة، والتملي بمشاهد الحرم المدني، وكان هذا يستتبع عن قصد أو غير قصد الاتصال بعلماء أهل المدينة الذين واصلوا منذ خلافة الراشدين القيام بنشر العلم ورواية الحديث في حلقات ومجالس علمية في رحاب هذا المسجد لا تنقطع على السنين، الأمر الذي كان يتيح للوارد على المدينة أن يتوج زيارته لهذه المشاهد بالتعرف على أولئك الأعلام، والجلوس إليهم في تلك الحلقات والمجالس العلمية قبل الرحيل عنها، ليعود إلى بلاده مزودا بزاد نفيس من علوم الإسلام، في وقت كانت تتطلع فبه عامة البلدان إلى الرواية عن أهل المدينة، إذ كانت الرواية عنهم عنوان الشرف عند أهل الأمصار، على ما جاء عن أبي العالية الرياحي[1] قال: "كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحن بالبصرة، فلم نرض حتى رحلنا إليهم فسمعناها من أفواههم"[2].

وأخرج الحافظ ابن عبد البر عن قيس بن عباد[3] فال: "قدمت المدينة أطلب العلم والشرف"[4] وقال علي بن المديني[5]: "حججت حجة، وليس لي هم إلا أن أسمع"[6].
ولقد كان اهتمام أهل المغرب عموما بالغا مداه في الصدر الأول في طلب هذا الشأن في الحجاز اغتناما لرحلة الحج التي هي رحلة العمر في الغالب، ولما لاحظه العلامة ابن خلدون من التناسب الذي بين المغاربة وأهل الحجاز في أحوال المعاش، ولكون هذا المجال هو الذي استغرق أكثر توجهاتهم "لما أن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دار العلم، وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلاميذه من بعده، فرجع إليه أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة"[7].
فالرحلة إلى الحجاز كانت أهم الأسباب التي مهدت لتعرف المغاربة على مذاهب أهل المدينة، وساعدت على الوقوف على قراءة نافع بها، وكان هم الطالب يومئذ أن تتاح له فرصة كهذه ليجمع بين أداء الفريضة والزيارة، وبين الأخذ عن إمام دار الهجرة في الفقه مالك بن أنس، وإمامها في القراءة نافع بن أبي نعيم.
العامل الثاني: إيثار مذاهب أهل المدينة على غيرها
لا يرتاب أحد في علو مكانة المدينة المنورة عند عامة المسلمين، باعتبارها دار هجرة خير المرسلين ومثواه حيا وميتا، وإلى هذه المكانة يشير عياض بقوله متحدثا عن أهلها:
"بوأهم دار وحيه ومأرز[8] دينه، ومتبوأ شرعه ومهبط ملائكته، ومهاجر نبيه ومنزل كتابه، ومجثم مثوى رسله ومجتمع الخير كله، كهف الإيمان والحكمة، ومعدن الشريعة والسنة، وسراج الهدى الذي بنوره أضاءت المشارق والمغارب، وينبوع العلم الذي استمدت منه سائر الأودية والمذانب"[9].
وقد نشأ عن هذا التوقير العام للمدينة،توقير لجميع ما ينسب إليها أو ينقل عن أهلها من شعائر الدين ومظاهر السلوك، ومن هنا جاء اعتماد المغاربة لفقه أهل المدينة وقراءتهم وما أثر عنهم من عمل. ولا شك أن اعتماد قراءة نافع من لدن جمهور قراء المناطق المغربية إنما كان استجابة لهذا التقدير وانسجاما معه، وهو أمر له من الدواعي ما ييسره ويبعث عليه ويحمل على إيثاره، لاسيما لدى أولئك الأصحاب الرواد الذين اقتنعوا تمام الاقتناع بمكانة المدينة ومكانة مشيختها من أمثال مالك ونافع وهو ما يتمشى وما حفظه مالك نفسه للمدينة من اعتبار خاص، على ما قرره في رسالته المشهورة إلى صاحبه الليث بن سعد دفاعا عن إيثاره للأخذ بمذهب أهل المدينة وعملهم إذ يقول:
"فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال، وحرم الحرام، إذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أظهرهم، يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويبين لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته، ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته، ممن ولي الأمر بعده، فما نزل بهم مما عملوه أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك ... فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا به، لم أر لأحد خلافه للأثر الذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها"[10].
وكما ساد هذا التقدير لمذاهب أهل المدينة باعتبارها استمرارا عمليا وميراثا نبويا، ساد أيضا مثل ذلك في النظر إلى رجالها وقيمة الروايات المنقولة عنهم عن الثقات، وقد ترامى أثر ذلك إلى الآخذين عنهم من أهل افريقية من الرواد ثم استمر أثره في تلامذتهم، مما تميزت به "المدرسة المدنية" عن سواها في ملامحها وسماتها وخصائصها العامة، وهذا شيخ المذهب بافريقية الإمام سحنون يقول:
"المدني إذا لم يكن هكذا ـ يريد في الدين، وشد على يديه ـ لم يسو شيئا"[11].
وقد قال مالك قبله للخليفة المهدي العباسي لما دخل المدينة: "ما على وجه الأرض خير من أهل المدينة ولا خير من المدينة"[12]. وقال مالك أيضا لأبي جعفر المنصور حين أراده على تأليف كتاب في الفقه يحمل الناس عليه: "فإني رأيت أصل هذا العلم رواية أهل المدينة وعلمهم"[13].
ولا يخفى أن هذه الخاصية التي لأهل المدينة في هذا الشأن كما تسري على الرواية الفقهية والسنن العملية تسري على القراءة من باب أولى، لأن القراءة نقل محض لا مجال فيه لرأي أو اجتهاد شخصي، على ما أثر عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "القراءة سنة، فاقرأوا كما تجدونه"[14]، وعن عروة بن الزبير قال: "إنما قراءة القرآن سنة من السنن، فاقرأوه كما أقرئتموه"[15].
كان اعتماد قراءة نافع إذن وإيثارها على غيرها من قراءات أئمة الأمصار الأخرى داخلا في إيثار ما عليه عمل أهل المدينة من السنن القولية والفعلية، وهو ما نحا إليه مالك ـ رحمه الله ـ حين قال: "قراءة أهل المدينة سنة، قيل له: قراءة نافع؟ قال: نعم"[16] وقد أثر ذلك عن غير مالك من الأئمة أيضا[17].
ولقد غدا الأخذ بمذاهب المدنيين شعار الدولة في الأندلس، وتجاوز الأمر فيه مستوى الاقتناع والإقناع بجدارته وأحقيته، إلى مستوى الإلزام الذي لا خيار فيه لأحد في الميدان الفقهي والعملي، ابتداء من حياة مالك حيث كانت لخطوات الحثيثة نحو ترسيمه، وانتهاء إلى عهد القوة والملك العريض الذي تأثل لأمويي الأندلس في المائة الرابعة على أيام عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر والحاجب المنصور بن أبي عامر.
ولكم يبدو من الطريف أن أولئك الحكام قد حاولوا الأخذ بمذاهب المدنيين في كل شيء، حتى عملوا على إدخال مذاهبهم في التوقيع والغناء، وسموا الجناح الذي تقيم فيه الجواري المستوردات من هناك بـ"دار المدنيات"[18]، فغير بدع أن يتمسك قوم هذا شأنهم في الشغف بكل ما هو مدني بمذهب مالك وقراءة نافع وأن يرتبط في أذهانهم تقديرهم للمدينة وخصوصية أهلها بتقدير فقه إمامها وقراءة قارئها، لاسيما إذا كان هذا التقدير مستندا إلى شعور إسلامي مشترك بين الأمة، وإلى ما هو متعارف عند العلماء، حتى قالوا عن الحديث انه "إذا جاوز الحديث الحرة[19] ضعف نخاعه"[20].
وهذا الإمام أبو بكر بن مجاهد أول من جمع قراءات السبعة في كتابه، وضع نافعا في طليعتهم مع تأخر زمنه ووفاته عنهم جميعا ما عدا الكسائي، ولمح إلى سر تقديمه بقوله عن المدينة:
"مهاجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعدن الأكابر من صحابته، وبها حفظ عنه الآخر من أمره، فكان الإمام الذي قام بالقراءة بمدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد التابعين أبو عبد الرحمن نافع ابن أبي نعيم"[21].
وهكذا غدا تقديم نافع في الذكر على القراء السبعة تقليدا لما درج عليه عامة المؤلفين وأصحاب القصائد التعليمية كالشـاطبي في "حرز الأمانـي" وغيره، فقال الفاسـي في اللآلـئ الفريدة: "بدأ ـ يعني الشاطبي ـ بنافع تفضيلا له علما ومحلا"[22]. وقال القسطلاني معللا لتقديمه له: "قدم لشرف محله"[23].
ونجد صدى هذا الإيثار والتوجيه أيضا عند المفسرين المغاربة في اعتمادهم قراءة نافع  في أول ما يديرون عليه تفاسيرهم ثم يذكرون بعد ما يحتاج إليه من اختلاف، فقد علل الإمام ابن جزي لبنائه تفسيره عليها بقوله: "وانما بنينا هذا الكتاب على قراءة نافع  لوجهين: أحدهما أنها القراءة المستعملة في بلادنا بالأندلس وسائر المغرب، والأخرى اقتداء بالمدينة ـ شرفها الله ـ لأنها قراءة أهل المدينة، وقال مالك: قراءة نافع سنة"[24] .
ونجد صدى هذا حتى عند المتأخرين من الأئمة، فهذا العلامة محمد الطاهر بن عاشور التونسي يقول في تفسيره: "وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى بن مينا المدني الملقب بقالون، لأنها القراءة المدنية قارئا وراويا، ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس، ثم أذكر خلاف بقية العشرة"[25].
وقد بلغ الأمر مداه في التمسك بـ"المدنية" في انتقاد الإمام المارغني على أبي الحسن بن بري ما فعله في أرجوزته المسماة بـ"الدرر اللوامع" من تقديم ورش على قـالون

في الذكر[26] قال: "إذ كانوا يلتزمون تقديم قالون عليه، لأنه مدني، ولأن كبار الأئمة كالداني والشاطبي قدموه، ولذا جرى عملنا بتونس بتقديمه على ورش في الإفراد والجمع"[27].
فإيثار مذاهب أهل المدينة كان أولا وراء اختيار قراءة نافع، ثم زاد عند أهل تونس فاختاروا من قراءة نافع الرواية المدنية، وهي رواية قالون، والتزموا بهذا التقديم حتى في إيراد مسائل الخلاف، وجاء أهل والمغرب فاختاروا رواية ورش المصري، ولكنهم اختاروا منها الطريق المدنية، وهي طريق يوسف الأزرق المدني، فكان الانتساب إلى المدينة داخلا في الحسبان، وحاضرا في الأذهان، وسرت من هذا آثاره إلى القراءة والرسم والضبط والعدد، فكانت "المدنية" صبغة عامة وسمة أساسية فيها، على غرار ما سيأتي لنا عند أبي عمرو الداني من تنبيهات يسوقها بعبارات مختلفة تؤكد على استمساك المغاربة بـ"المدنية" استمساكا تاما، كأن يقول: "ولم يخالفوهم في شيء جرى استعمالهم عليه"[28]، أو يقول: "وعلى استعماله واتباع أهل المدينة فيه عامة أهل بلدنا"[29]، أو يقول: "غير أن اتباع أهل المدينة أولى، والعمل بقولهم ألزم"[30]. وسوف نرى هذا المنحى واضحا في "المدرسة الاتباعية" في موضعه من البحث بعون الله.
وقد انتهى بعض الباحثين إلى شبيه بما انتهينا إليه هنا في دراسته لآثار المدرسة المدنية في  مصر في التفسير والفقه والقراءة، فذكر أنها ظاهرة عامة، وفسرها "بسيادة المدينة روحيا وثقافيا حينذاك"[31].
ومعنى هذا أن عامل "إيثار المدينة" قد أعطى النتائج ذاتها في مصر كما أعطاها في افريقية والمغرب والأندلس، وبهذا صح لنا اعتباره في طليعة العوامل التي مهدت لقراءة نافع ومكنت لها في هذه الديار.

النقل المزدوج للقراءة والمذهب معا على أيدي الرواد الأولين.
ومن أهم العوامل التي مهدت لقراءة نافع ومكنت لها في المناطق المغربية عموما، أن الرعيل الأول من رواتها من الرواد كانوا يعودون إلى بلدانهم وقد جمعوا بين رواية القراءة والفقه معا، بالأخذ عن مالك ونافع أو عن الآخذين عنهم وهكذا كان لهذه الظاهرة أثرها البارز في نشر القراءة والمذهب دفعة واحدة، سواء في افريقية والمغرب أم في الأندلس، كما كان لها أثرها المكين في التشجيع على اعتماد القراءة المدنية التي كان نافع إمام الناس فيها باعتبارها قراءة إمام المذهب. وعلى غرار ما وقع في مصر حيث كان كبار فقهائها ـ كما سيأتي ـ تلامذة لمالك ونافع معا، كعبد الله بن وهب وأشهب بن عبد العزيز وابن القاسم، وقع في الأندلس على أيدي حملة الرواية عن الإمامين معا ممن سمينا من رواد الرحلة العلمية آنفا، كالغازي بن قيس وأبي موسى الهواري ويحيى بن يحيى الليثي، ووقع نظير ذلك في افريقية والقيروان على أيدي أمثالهم من الرواد كما تقدم، ثم على أيدي الآخذين عنهم من أمثال محمد بن برغوث وسحنون وأصحابه، إذ كان لهم من الوفرة ونفاذ الأمر عند أولي الأمر ما وضعوا به ثقلهم في الميدان، فاستطاعوا أن يفرضوا "المدنية" في جميع الميادين، وأن يقاوموا آثار المدرسة العراقية هناك، ولعله يكفي في تقدير عددهم وسعة نفوذهم في حياة مالك نفسه، ما قاله مالك للمهدي العباسي لما طلب منه أن يضع له كتابا يحمل الأمة عليه، فقال له يا أمير المؤمنين، أما هذا الصقع فقد كفيتكه"[1].
تشجيع السلطة الحاكمة وتدخلها المباشر.
هذا العامل منبثق عن العامل السابق، وذلك أن أولئك الرواد العائدين من الرحلة كانوا في آن واحد في الغالب حملة للقراءة وفقهاء في المذهب المالكي، فكانت رحلاتهم تلك ومنزلتهم من العلم ترشحهم لاحتلال المناصب والوظائف الهامة في مناطقهم حين العودة، فكان طبيعيا أن يعملوا حين تولي هذه المهام على تشجيع القراءة والفقه معا على نحو ما قرأوا به على مشايخهم بالمدينة. وذلك ما نبه عليه في الجانب الفقهي أبو محمد بن حزم في ملاحظته القيمة المشهورة إذ يقول:
"مذهبان انتشرا عندنا في أول أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف[2] كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى عمل افريقية، فكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه، ومذهب مالك عندنا بالأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاة، وكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا والرياسة، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائدا في جلالته عندهم، وداعيا إلى قبول رأيه لديهم، وكذلك جرى الأمر بافريقية لما ولي القضاء بها سحنون بن سعيد، ثم نشأ الناس على ما انتشر"[3].
وإذا كان هذا التعليل صحيحا ومقبولا فيما يتعلق بانتشار المذهب الفقهي كما ذكر ابن حزم، فإنه صحيح أيضا وصالح فيما يتعلق بقراءة نافع للأسباب ذاتها، إذ كان النظر في شؤون القراءة وإمامة الصلاة وغيرهما من الوظائف الدينية موكولا إلى القضاة، فكان "من الوظائف التي للقاضي النظر فيها بقرطبة الإشراف على المساجد والميضأة ونظافة أفنيتها، وكان له تعيين مقرئ الجامع بقرطبة"[4].
وكان أولئك القضاة لا يولون إلا أصحابهم ومن كان على مذهبهم، فسبب ذلك انتشار المذهب الفقهي وإلى جانبه القراءة، وكان ذلك مما حمل الناس على طلب ما يرجون بلوغ أغراضهم به، أي طلب علوم المذهب والقراءة على حسب ما ارتضته السلطة القضائية، ليبلغوا من ذلك ما يؤهلهم للاستفادة من تلك الوظائف، ثم نشأ الناس على ما انتشر وذاع، وأمسى الأمر ظاهرة سارية جارية، لا تحتاج إلى تدخل أو توجيه[5]. وذلك ما نلاحظه تماما منذ العقود الأخيرة من المائة الثانية، سواء في الأندلس أم افريقية، ففي الوقت الذي كان فيه رواد القراءة والمذهب المدنيين بالأندلس يعملون على تأصيلهما بالبلاد وتوجيه أنظار الحكام إلى الأخذ بهما ورجحانهما على غيرهما، كان أمثالهم من علماء افريقية والقيروان في سعي حثيث أيضا لمثل هذه الغاية، ولقد تحقق من ذلك النصيب الأكبر وربما في وقت واحد، على يد يحيى بن يحيى الليثي بالنسبة للأندلس، وعلى يد سحنون بن سعيد التنوخي بالنسبة لافريقية والقيروان.
ولقد كان يحيى من آخر الرواة عن نافع ـ كما سيأتي ـ، إلا أنه فيما يبدو لم يكن متفرغا للقراءة، ولا ذكر له عرض عليه، وكان في الوقت نفسه من متأخري أصحاب مالك ورواة موطئه، ولقد قيل عنه انه: "لم يعط أحد من أهل الأندلس منذ دخلها الإسلام ما أعطي يحيى من الحظوة وعظم القدر وجلالة الذكر"[6].
وقيل عن مبلغ تأثيره في التوجيه: "انتهت إليه الرياسة في العلم بالأندلس، وانتهى السلطان والعامة إلى رأيه"[7]. فلا بد إذن أن يكون لاستقلال شخصيته العلمية وقوة نفوذه عند لسلطان والعامة أثر بارز في الأخذ بالمذاهب المدنية، لاسيما في القراءة والإقراء، إذ كانت هذه المهام داخلة فيما يكون للعلماء رأي فيه، والناس في هذا العهد تبع لما يقرره هؤلاء ويرتضونه، ولاسيما إذا اعتبرنا ما ذكره ابن حزم من تولي أصحاب يحيى للقضاء واستبدادهم به"إذا كان لا يولي قاض إلا بمشورته، ولا يشير إلا بأصحابه".
ولقد أوتى إلى جانب أولئك القضاة بطانة علمية رفيعة المقدار، كان لها أثرها في الرياسة العلمية وقيادة الحركة الفقهية والتوجيهية، من أمثال أبنائه الثلاثة: عبيد الله وإسحاق ويحيى، وتلامذته عبد الملك بن حبيب والعتبي وابن مزين وابن وضاح وبقي بن مخلد.
وإذا كان قد قيل عنه: "وبه وبعيسى بن دينار انتشر مذهب مالك بالأندلس"[8]، فإننا نعتبره أيضا ومعه رفاقه "المدنيون" وأصحابه الذين مارسوا القضاء والتوجيه وراء ترسيم قراءة نافع واعتمادها قراءة جامعة بالأندلس.
وبالمثل فقد كان لسحنون وأصحابه مثل ذلك في افريقية، فقد كان القضاة منهم متوزعين على المناطق، وكان سحنون منهم بمنزلة الرقيب أو النقيب الذي يسيرهم من القيروان بما يرسم لهم من توجيهات وتعليمات[9]، ولقد رأينا قبل كيف دعا في رسالته التي دونها ابنه في "آداب المعلمين" إلى وجوب تعليم المعلم لتلامذته ما علم من القراءة الحسنة[10]، وهو مقرأ نافع"[11].
ورأينا أيضا كيف تقدم صاحبه عبد الله بن طالب إلى محمد بن برغوث المقرئ بجامع القيروان ألا يقرئ الناس إلا بحرف نافع"[12].
فهذا التدخل من السلطة القضائية إلى جانب الاتجاه العام التي اتجهته الدولة بفعل تأثير أولئك الفقهاء "المدنيين" كان من أهم العوامل في رأينا في اختيار قراءة نافع واعتمادها قراءة رسمية.

[1]- الاكتفاء لابن عبد البر: 40. وهذا مبني على أن الآمر لمالك بتأليف الموطأ هو المهدي، وهناك رواية تنسب الأمر بذلك إلى أبي جعفر المنصور والد المهدي كما أسنده ابن عبد البر نفسه في جامع  بيان العلم وفضله 1/132.
[2]-  هو يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة (ت 182) ترجمته في تاريخ يغداد للخطيب 14/242-262.
[3]-  مجموعة رسائل ابن حزم الملحق رقم 13 الجزء الثاني 229 ـ وجذوة المقتبس 383-384 ترجمة 309.
[4]-  القضاء في قرطبة الإسلامية في القرن الخامس الهجري لمحمد عبد الوهاب خلاف، بحث نشر  بمجلة عالم الفكر المجلد 16 العدد 4 يناير فبراير مارس 1986م الصفحة 1039-1040.
[5]-  علل بعض الدارسين لضعف المذهب الحنبلي في الأمصار الإسلامية في القديم بالقياس إلى باقي المذاهب الثلاثة بأسباب منها أنه لم يكن منه قضاة وذكر أن القضاة إنما ينشرون المذهب الذي يتبعونه، ومثل لأثر القضاة بأبي يوسف في مذهب أبي حنيفة وسحنون في المغرب والحكم الأموي في الأندلس. (تاريخ المذاهب الإسلامية) للشيخ محمـد أبو زهرة 2/344.
[6]- نفح الطيب 2/219.
[7]- الديباج للمذهب 351.
[8]-  شجرة النور الزكية 64 الطبقة 5.
[9]-  ولي القضاء من أصحابه كثير فمنهم القاضي أبو الربيع سليمان بن عمران ولي قضاء باجة القيروان وولي قضاء افريقية بعد سحنون (183-270) ترجمته في شجرة النور الزكية 71 الطبقة 6. ومنهم صاحبه أبو خالد يحيى بن خالد السهمي ولي قضاء الزاب، وكتب له سحنون سيرة يعمل عليها ويطالعه بما كان". وله قصيدة في مدح المدينة وعلمائها ومدح سحنون "ويمكن الرجوع إليها في ترجمته بترتيب المدارك 4/405 ومن قصيدته قوله:
وعلم الحجـــازيين أهل مدينة الــــــــــــرسول فطالبه ولا تعده فــــترا
 ومنهم عيسى بن مسيكن الافريقي الذي قيل كان يقتدي بسحنون في كل أموره. ترتيب المدارك 4/331-350. ومنهم سليمان القطان، ولي قضاء باجة ثم صقلية، وبه انتشر مذهب مالك هناك (282-) شجرة النور 71 طبقة 6. ومنهم علي بن سالم البكري وهو ابن سحنون من الرضاعة ولاه قضاء صفاقس والساحل. ترتيب المدارك 4/406.   
[10]-  تقدم احتمال أن يكون اللفظ محرفا عن "السنية" وهو الوصف الذي وصف به مالك قراءة نافع.
[11]-  رسالة آداب المعلمين 102.
[12]-  ترتيب المدارك 4/313.


[1]- هو رفيع بن مهران الرياحي البصري أحد الأئمة من طلائع مدرسة البصرة، قرأ على أبي بن كعب وغيره، وكان من علماء التابعين، مات سنة 90 وقيل 96هـ. ترجمته في غاية النهاية 1/284-285 ترجمة 1272.
[2]- الطبقات الكبرى لابن سعد 7/113.
[3]- هو قيس بن عباد ـ بضم العين والتخفيف ـ المنقري  القيسي. ترجمته في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم القسم الثاني من الجزء الثالث 101.
[4]- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر النمري 1/80.
[5]- هو علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح التميمي السعدي أبو الحسن البصري الحافظ امام أهل الحديث في زمنه، مات سنة 234. ـ خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجي 275.
[6]- علوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي الصالح: 54.
[7]- مقدمة ابن خلدون 449.
[8]- بمعنى مأوي، وهو ينظر إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحــية إلى جحرها" ذكــره عيـاض في ترتيب المــدارك 1/37، وأصله في البخــاري عن أبـي هـريـرة 1/322.
[9]- ترتيب المدارك 1/4.
[10]- المصدر نفسه 1/41-43.
[11]-  المصدر نفسه 1/21.
[12]- ترتيب المدارك 2/102.
[13]- الانتقاء لابن عبد البر 41.
[14]- ورد الحديث بطرق عديدة عند ابن مجاهد في كتاب السبعة في القراءات 49-51.
[15]- المصدر نفسه 52.
[16]- رواه سعيد بن منصور عن مالك، ولم أقف عليه في القسم المطبوع من سنن سعيد بن منصور في الجزءين ونقله الذهبي في معرفة القراء الكبار 1/90.
[17]- سيأتي مثل ذلك عن الإمام أحمد والليث وابن وهب، ويمكن الرجوع إلى ابراز المعاني لأبي شامة 6 ومعرفة القراء الكبار 1/90 وغاية النهاية 2/332 والنشر 1/112. وكتاب السبعة لابن مجاهد 62.
[18]- استكثر أمراء بني أمية بقرطبة من الجواري والقيان وأخذوا بأسباب البذخ والرفاه فتأنقوا في اختيارهن من المدنيات اللاتي تلقين أصول العزف والغناء بالمدينة، وأفرد لهن عبد الرحمن الأوسط (206-238) دارا خاصة بهن سميت "دار المدنيات" يمكن الرجوع في ذلك إلى نفح الطيب 4/136.
[19]- هي المعروفة بحرة واقم بظاهر المدينة حيث دارت المعركة المعروفة بوقعة الحرة على عهد يزيد.
[20]- التمهيد لابن عبد البر 1/80، وهناك رواية بلفظ "انقطع نخاعه" تنظر في نشر البنوذ للعلوي 2/90.
[21]- كتاب السبعة لابن مجاهد 53.
[22]- اللآلئ الفريدة في شرح القصيدة لمحمد بن الحسن الفاسي (مخطوط سيأتي في شروح الشاطبية).
[23]- لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني 1/94.
[24] - التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي 1/7.
[25] - التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور التونسي ـ المقدمة السادسة 1/63.
[26] - يعني في قوله:
 على الذي روى أبو ســـــعيد          عثمان ورش عــالم التجــــــوي
والعالم الصدر الــمعلم العــلم عيسى بن مينا وهو قالون الأصم
[27] -  النجوم الطوالع للمارغني 18.
[28] - المحكم في نقط المصاحف للداني 8.
[29] - المحكم 50.
[30] -  نفس المصدر والصفحة.
[31] -  القرآن وعلومه في مصر للدكتور عبد الله خورشيد البري 357.
أحدث أقدم