حجة الاستحسان :
 من خلال بيان العلماء لطريق الاستحسان على اختلافهم في تقسيمه، يتضح بجلاء أنَّ إثبات الأحكام واقع بوجوه الاستحسان لا بالاستحسان نفسه ؛ وهذا محل اتفاق كما سبق ذكره في تحرير المراد بالاستحسان ؛ فالحجيَّة إنَّما هي في ما هو معتبر من وجوهه أو أدلته .
فالاستحسان بالنَّص (14) عند الحنفية حجَّة ، وحُجيَّته حُجيَّة النَّص نفسه ، والاستحسان بالإجماع حجَّه ، وحُجِّيَّته حجيَّة الإجماع نفسه ؛ وكذلك الاستحسان بالمصلحة والعرف والضرورة وغيرها ، من أدلة الاستحسان ووجوهه التي يذكرها العلماء ؛ فالذي يقول بهذه الأدلة أو الوجوه ، حجته فيها حجيَّة هذه الأدلَّة أو الوجوه عنده .
قال القاضي أبو يعلى : " والحجَّة التي يُرجع إليهـا في الاستحسان ، فهي الكتاب تارة ، والسنَّة أُخرى ، والاستدلال بترجّح شَبَه بعض الأصول على بعض " ( العدة في أصول الفقه : 5/1607-1609 )
هذا إضافة إلى اعتبار الشارع له بما يعرف عند الحنفية بالاستحسان بالنص ؛ فيكون في ذلك إرشاد إلى طريق من طرق الاستدلال هو الاستحسان .
وكذلك حجيَّة الأصل العام المقرِّرِ للاستحسان ،  وهو أصل رفع الحرج ، بسبب وجوهه أو بسبب الأدلة التي يعدل بها إليه . ( ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا يعقوب الباحسين : 333 ) .
وقد ذكر شيخنا يعقوب الباحسين وجهاً لدلالة أصل رفع الحرج على حجية الاستحسان ، بناه على استنتاج مفاده : أن القائلين بالاستحسان لاحظوا مجموعة من الأحكام المتشابهة ، في كونها مستثناة من قياسٍ أو أصلٍ مقررٍ عندهم أو عمومٍ ؛ فأطلقوا على كلٍّ منها اسم الاستحسان ، سواءٌ كان هذا الدليل نصَّاً ، أو إجماعاً ، أو مصلحةً ، أو عرفاً ، أو ضرورة ، أو غيرها ؛ فالاستحسان على هذا مفهوم كليّ لا وجود له إلا بوجود أفراده التي هي الأحكام المستحسَنة ، أيَّاً ما كان النوع الذي تنتمي إليه ، وهذا المفهوم الكلي عائد إلى التيسير ورفع الحرج ، وهذا المعنى مجمع عليه ، وهو ثابت في الشريعة قطعاً .
ثم بيَّن وجه الدلالة ؛ فقال : وعليه فإنَّ الاستحسان تكمن حجيته في كونه رافعاً للحرج ، وهذا لا يصح أن يكون موضع نزاع ؛ ولكن لمَّا كان الحرج غير منضبطٍ عند الفقهاءِ لم يعلقوا الأحكام به ؛ بل لجؤوا إلى وسائل معرِّفة للحرج وكاشفة عن وجوده ، وهذه الوسائل هي الأدلة التي يعدل بها عن الأقيسة والقواعد ، المسمَّاة عندهم وجوه الاستحسان ؛ فقولهم هذا استحسان بالإجماع ، يعني أنّ الإجمـاع كشف عن وجود حرجٍ كان من الممكن أن يقع لو لم يُؤخَذ بحكم المسألة المستثناة ، وهكذا ؛ فكأنَّهم جعلوا هذه الأمور التي يتحقق بها الاستحسان ضوابط له ، وإلا فهو عائد في الغالب إلى أصل رفع الحرج الذي لا نزاع في اعتباره شرعاً ( ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د.يعقوب الباحسين : 332-333 ) ، عند توفُّر شروطه .
ومن أدلة حجيته من المعنى : أن غاية ما في الاستحسان انعدام حكم النظائر في مسألة جزئية ؛ لانعدام علته فيها ، وهذا لا نزاع فيه ، وليس هو تخصيصاً لنص شرعي حتى ينظر في المخصص .
قال السرخسي : " ومن حيث المعنى ، هو قولٌ بانعدام الحكم عند انعدام العلَّة ، وأحد لا يخالف هذا ؛ فإنَّا إذا جوزنا دخول الحمَّام (15) بأجرٍ بطريق الاستحسان ، فإنّما تركنا القول بالفساد الذي يوجبه القياس ؛ لانعدام علّة الفساد ، وهو أنَّ فساد العقد بسبب جهالة المعقود عليه ليس لعين الجهالة ، بل لأنَّها تفضي إلى منازعة مانعة عن التسليم والتسلم ، وهذا لا يوجد هنا ، وفي نظائره ؛ فكان انعدام الحكم لانعدام العلَّة ، لا أن يكون بتخصيص العلّة "( أصول السرخسي : 207-208) .
فالاستحسان في حقيقته : منع إدراج بعض الفروع فيما يظنُّ اندراجها فيـه من الكليات والقواعد العامّة ؛ لدلالة تترجّح عند الموازنة بين الأدلة مع اعتبار مقاصد الشرع وعلله وجوداً وعدماً ؛ وهي علامة فقه الفقيه ، لذلك وصفه الإمام مالك بأنه تسعة أعشار العلم ( ينظر : الاعتصام ، للشاطبي : 1/138 ) ؛ لخفائه على من لم يتأنَّ من الفقهاء ، ولأثره في بيان حكم المسائل التطبيقية ، من حيث هو نتيجة من نتائج الاجتهاد في تحقيق المناط فيها .
والخلاصة : أن حجية الاستحسان بالمفهوم الأصولي محلّ اتفاق بين العلماء .
وعلى هذا فما وقع من اختلاف معتبر ، ظنّه بعض أهل العلم في حجية الاستحسان ، إنَّما هو في صحة وجهة الاستحسان ، أو اعتبار مستنده ، لا في صحة الاستدلال به ؛ واعتبارُ المستند أو عدم اعتباره راجع إلى ما يعتمده المجتهد من الأصول وما لا يعتمده ؛ لا إلى اختلافٍ في اعتبار الاستحسان طريقاً من طرائق الاجتهاد والاستدلال . ومن هنا وقع الاختلاف بين تعاريف الاستحسان عند المُنَظِّرِين له .

Post a Comment

أحدث أقدم