اللغة والفكر
يستطيع الإنسان بواسطة اللغة أن يتمثل الواقع في الذهن دونما حاجة للتقيد به، ويستطيع استحضاره في صورته وشكله الماديين والتفكير فيه دونما حاجة لاسترجاعه... وهذا ما يحيل إلى طبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والفكر: هل هي علاقة تبعية وتلازم؟ أم علاقة انفصال وقطيعة؟
إن الوقائع والملاحظات التي تدفع للاستنتاج بأن الفكر سابق ومستقل عن اللغة متعددة. فهناك من جهة تعدد الأنظمة الدالة بتعدد الألسن بل وتعدد أنساق العلامات التي يستخدمها الفرد الواحد للتعبير عن نفس الفكرة من حركات وإيماءات ورموز متنوعة مما يدفع إلى القول باستقلال الفكرة عن العبارة لإمكانية انفصال الفكرة عن علامة ما وارتباطها بأخرى: هناك إذن نوع من تعالي الفكر على أداته اللغوية، ومن جهة أخر يتبدى الفكر سابقا على اللغة عندما يبحث الإنسان طويلا عن كلمات مناسبة للتعبير عن فكرة ما. لهذه الأسباب يفترض الحس المشترك أننا نفكر أولا ثم نعبر ثانيا أي ننتقل بعد التفكير إلى إلباس أفكارنا بكلمات ملائمة.« L’homme pense sa parole avant de parler sa pensé » . وفي مثل هذه الحالة لن تكون الكلمات والجمل سوى أداة بعدية تساعد على إظهار منتوج عملية التفكير التي تتم قبل وبدون اللغة. وإذا كانت الكلمات والجمل ضرورية لتبليغ نتاج عملية التفكير للآخرين فإنها بالمقابل غير ضرورية لحدوث عملية التفكير ذاتها. هنا تحصل مقابلة أو معارضة الوظيفة المعرفية للفكر بالوظيفة التواصلية للغة.
يمكن أن نجد سندا لهذا الموقف عند ديكارت لا سيما في ثنائية النفس/الجسم: فالفكر لامادي مرتبط بالنفس بل هو طبيعتها المميزة لها، أما اللغة فتنتمي للجسم بسبب طبيعتها المادية (الأصوات، الكتابة...) ومن غير الممكن تصور علاقة اتصال بين هاتين الطبيعتين المتمايزتين، إلا أن تكون اللغة مجرد أداة أو وسيلة للتعبير عن الفكر القائم بذاته. لهذا ينعت مثل هذا التصور بالتصور الأداتي للغة. فإلى أي حد يصمد هذا التصور أمام النقد وإلى أي حد يعبر فعلا عن حقيقة العلاقة بين اللغة والفكر؟
توقف ميرلوبونتي عند هذه العلاقة الإشكالية بين اللغة والفكر مستخدما المنهج الفينومينولوجي المعتمد على وصف المعطيات المباشرة للوعي قبل تدخل النشاط الإدراكي التنظيمي للعقل، ليبين المآزق النظرية للتصور الأداتي الذي يعتبر اللغة والفكر كيانين متمايزين في حين أنهما سيرورتان متزامنتان. لا ينبغي على مستوى التعبير وصف اللغة بكونها علامة أو لباسا للفكر لما يفيده ذلك من اعتباطية العلاقة وانفصالهما كما ينفصل الدخان عن النار رغم كونه علامة عليها، والأجدر وصف اللغة بجسد الفكر أو شعاره لأن كلا منهما محتوى في الآخر: فالمعنى يؤخذ من الكلام؛ أو كما تقول اللسانيات البنيوية مع كريستيفا مثلا، فالمعنى لا يوجد خارج شبكة التقابلات والاختلافات التي تجمع بين الكلمات المنتمية لنسق لساني ما. بل إن الكلام يملك قوة للدلالة خاصة به، بدليل أن المعاني الجديدة تظهر دائما بمناسبة اشتقاق ألفاظ أو تراكيب أو تعابير جديدة كما يفعل الأدباء. إن فاعلية الإنسان الذهنية والمعرفية تتعامل مع الكلمات أكثر مما تتعامل مع الأفكار وإلا لماذا يتذكر الإنسان كلمات وجملا على نحو أيسر مما يتذكر أفكارا بل إن استدعاء هذه يتطلب أولا استدعاء تلك؟ وبعبارة أخرى فالكلام هو الوجود الخارجي للمعنى وحضور الفكر داخل العالم المحسوس مثلما أن الفكر هو التمظهر الداخلي للكلام، وليس التفكير الصامت كما يعتقد البعض، إنه بالأحرى ضجيج خافت من الكلمات. وهذا ما أكدته الدراسات العلمية الحديثة في مجال فيزيولوجيا الدماغ. لقد وجد أن الباحات المسؤولة عن الكلام تنشط (أي تصدر إشارات كهروميغناطيسية) حتى عندما يفكر المرء في صمت. هكذا ينتهي ميرلوبونتي إلى التوحيد بين اللغة والفكر باعتبارهما وجهان لنفس السيرورة المعرفية، رافضا التصورات الفلسفية القائمة على ثنائيات اللغة/الفكر أو الخارج/الداخل.
يؤكد ميرلوبونتي وحدة اللغة والفكر متسائلا: لماذا تكون الذات المفكرة نفسها في حالة عدم معرفة بأفكارها مادامت لم تعبر عنها ولو لذاتها؟ وبالتالي فالفكرة التي تكتفي بأن توجد بذاتها خارج نسيج الكلمات ستسقط في اللاوعي بمجرد ماتظهر. ومن ثم فنزوع الفكر نحو التعبير ليس نزوعا بعديا، بل هو نزوع صميمي نحو الوجود والاكتمال.
ويرى دوسوسير بأن الفكر بمعزل عن الكلمات لا يعدو أن يكون سديما أو عماءا ضبابيا أي كتلة غير متميزة. لذلك يتعذر التمييز بين فكرتين أو معنيين كالاحترام والتقديس مثلا دون الاستعانة بالوحدات اللسانية المقابلة لهما. مما يسمح بالقول إن الفكر كتلة متصلة ممتدة لا يمكن أن نتبين منه شيئا ما لم يتجزأ وينقسم وفق الوحدات اللسانية أي الكلمات، فهناك إذن علاقة جدلية، الفكر واللغة فيها أشبه بوجهي ورقة النقد لا يمكن تمزيق وجه دون المساس بالآخر. ثم ماذا لو سألنا أنفسنا : مالفكر؟ إنه ما تنتجه فعالية التفكير؟ وماالتفكير؟ إنه من الوظائف العليا للدماغ وهو مفهوم يجمع سيرورات جزئية كثيرة: كالتذكر والتحليل والتركيب والمقارنة والترتيب والتجميع والتمييز والربط والفصل...إلخ. ومن البين أن هذه السيرورات والعمليات المجردة غير ممكنة بدون أدوات رمزية هي الوحدات اللسانية.
كل ماسلف يؤكد العلاقة الجدلية وعلاقة التزامن لا الأسبقية بين اللغة والفكر. وقد عبرت عن ذلك اللغة اليونانية بأن أطلقت لفظة اللوغوس Logos على اللغة والعقل معا. ولكن هل تجيز هذه الدلائل الإسراع بإعلان أن حدود الفكر هي حدود اللغة ؟ وأنه حيث تتوقف هذه يتوقف ذاك؟
ينبغي التروي، إذ توجد دلائل أخرى كثيرة على امتداد الفكر خارج دائرة اللغة وأبعد من حدودها: منها لجوء العلماء إلى اصطناع لغات رمزية للتعبير عن العلاقات أو الوقائع التي يكتشفونها، ومنها تجاربنا الوجدانية التي تبلغ أحيانا من الخصوصية والحدة درجة يستحيل معها كل تعبير لغوي ، فيما يمدنا المتصوفة بدليل آخر من تجاربهم الروحية: فما يعيشونه من أحوال وما تحصل لهم من مشاهدات وما يبلغونه من مراتب إيمانية يتجاوز بكثير كل الإمكانت التعبيرية للغة المتداولة من هنا لجوؤهم إلى الرمزيات أو إحجامهم عن التعبير. لقد رد هنري برغسون عجز اللغة هذا إلى منشئها نفسه: فهي أصلا أداة ابتكرها العقل المنطقي المنشغل بالتعامل مع المادة والاستفادة منها عن طريق تجزيئها وإخضاعها للقياس وتصنيفها ضمن مقولات عامة، طلبا للانتفاع والمردودية، ولا يمكن لمثل هذه الأداة أن تعبر عما هو وجداني خاص متصل غير قابل للتجزؤ وغير منطقي بالضرورة، عن تيار متدفق صفته أنه متصل كيفي أو "ديمومة". يقول برغسون: "كل منا يحب ويكره بطريقته الخاصة، وهذا الحب والكراهية يعكسان شخصيته بكاملها. إلا أن اللغة ترمز إلى هاتين الحالتين بنفس الكلمات لدى كل الناس، فلا تعبر من ثم سوى عن الجانب الموضوعي اللاشخصي في الحب والكراهية وآلاف العواطف الأخرى". إن الكلمات لا تأتي فقط غير متوافقة بل ومتأخرة أيضا، ففي ذروة الألم لا يملك الإنسان غير الصياح فقط، ولا يتكلم عن الألم ليصفه، أو ليصف ذكرياته ومخلفاته إلا بعد هدوئه أو زواله، لذا يقول ألفونس دوديه: "لنتساءل في البداية عن مدى قدرة الكلمات عن التعبير عن الألم الحقيقي، إنها تأتي دائما متأخرة بعد أن يكون كل شيء قد عاد إلى سابق أوانه. إن الكلمات لا تعبر سوى عن ذكريات فهي إذن كاذبة عاجزة".
اللغة ليست مجرد أداة للتعبير عن فكر جاهز ومكتمل. إن التفكير والتعبير سيرورتان متزامنتان ومظهران لنفس الوظيفة المعرفية المميزة للإنسان، دون أن يعني ذلك قدرة اللغة على استنفاذ غنى الفكر وإمكاناته المتعددة.
Post a Comment