تعريف اللغة
* نشأة اللغة
* وظائف اللغة العربية و أهداف تدريسها
* خصائص اللغة العربية و مزاياها

تعريف اللغة 
عرّف علماء النفس اللغة ، فرأوا أنها مجموعة إشارات تصلح للتعبير عن حالات الشعور ، أي عن حالات الإنسان الفكرية و العاطفية و الإرادية ، أو أنها الوسيلة التي يمكن بواسطتها تحليل أية صورة ٍ أو فكرةٍ ذهنيةٍ إلى أجزائها أو خصائصها ، و التي بها يمكن تركيب هذه الصورة مرّة أخرى بأذهاننا و أذهان غيرنا ، و ذلك بتأليف كلماتٍ و وضعها في ترتيبٍ خاصٍ . و هذا التعريف يتضمّن وظيفة اللغة إجمالاً . [ عبد المجيد : اللغة العربية ، ص 15 ]
و يرى الدكتور أنيس فريحة أن اللغة أكثر من مجموعة أصواتٍ و أكثر من أن تكون أداةً للفكر أو تعبيراً عن عاطفةٍ ، إذ هي جزءٌ من كيان الإنسان الروحي ، و أنها عمليةٌ فيزيائيةٌ بسيكولوجية على غايةٍ من التعقيد . [ فريحة : محاضرات في اللهجات ، ص 9 ] و كان العلامة ابن خلدون قد عرّفها – من قبل – ببساطةٍ و وضوحٍ ، حين قال : اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده ، و تلك العبارة فعل اللسان ، فلابد أن تصير ملكةً متقرّرة في العضو الفاعل لها ، و هو اللسان ، و هو في كل أمةٍ بحسب اصطلاحاتهم . [ ابن خلدون : مقدمة ، ص 546 ]
و هناك تعريفات عديدة أخرى ، تتفق حيناً و تختلف حيناً آخر . و لعلّ مصدر التباين في هذه التعريفات ناشئٌ عن منطلقات أصحابها الفكرية . فمن تعريف وصفي ٍ خارجيٍ ، إلى تعريف نفسيٍ داخليٍ ، إلى آخر يمثل نظرة فلسفيةً معينةً لواقع الإنسان و وجوده و نشأته .
علماً أن الناظر إلى واقع اللغة الإنسانية – وصفاً و تقريراً – يجد أنها أصوات و ألفاظ و تركيب منسقة في نظامٍ خاصٍ بها ، لها دلالاتٌ و مضامين معينة ، يعبّر بها كل قومٍ عن حاجاتهم الجسدية و حالاتهم النفسية و نشاطاتهم الفكرية ، أي أنها أوعيةٌ هوائية بمضامين نفسيةٍ و فكريةٍ .
فالناحية الآلية فيها أن الصوت هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لاحتكاك الهواء في مواقع عضويةٍ معينةٍ في الجهاز الصوتي ، بدءاً من رئة الإنسان ، مروراً بالحبال الصوتية في الحنجرة ،و وصولاً إلى المخارج الصوتية في الفم ، تلك المخارج التي تعطي لكل صوتٍ شكلاً مميزاً ، يتآلف مع صوتٍ آخر أو أصوات عدة ، لتكوين الكلمة المفهومة عند النطق بها ، و إذا لم تكن هذه الأصوات ذات دلالات رمزيةٍ مفهومةٍ عند المخاطب بها ، فإنها تبقى في نطاق الأصوات العشوائية التي لا تختلف بشيءٍ عما يصدر عن الحيوان ، تعبيراً عن حاجة عضوية تتطلب الإشباع ، أو أن تكون استجابة لغريزةٍ تحرك مشاعره الوجدانية ، أو صدى لأحاسيسه الفسيولوجية الداخلية .
و لعلّ هذا الواقع هو الذي دعا علماء المنطق – في الماضي – إلى تسمية الإنسان بـ " الحيوان الناطق " أي القادر على استعمال لغةٍ صوتيةٍ لها دلالاتٌ فكريةٌ ، تساعده على التفاهم مع غيره من بني جنسه ، ليسير في طريق الرقي الإنساني ، في الوقت الذي ظلّ فيه الحيوان يعيش عُجمته البدائية الثابتة التي فطره الله سبحانه و تعالى عليها .
ثم تأتي الكتابة لتحوّل الرموز الصوتية إلى رسومٍ مكتوبةٍ ، و بذلك أصبحت تلك الأصوات المتناسقة – فيما بينها – من حروف ، و مقاطع ، و كلماتٍ ، و تراكيب لغويةٍ ، تُخطّ كتابةً ، و غدت الأصوات المنطوقة لساناً ، مادةً تبصرها العين و يقرأها الإنسان .
أمّا اللغة – لغةً – فهي لفظةٌ على وزن " فًعَة " مثل " كُرة " و أصلها " لُغوة " على وزن " فُعلة " ، و قيل في جمعها : لغات ، لُغون . و منها لَغٍيَ : يَلغَى ، إذا هذى . [ اللسان : لغو ] و كذلك اللغو ، فقد قال الله تعالى :
{ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } [ سورة الفرقان : الآية 72 ]
أي مروا بالباطل . و جاء في الحديث الشريف : " من قال في الجمعة : صَه ، فقد لغا " ، أي تكلم . [ ابن جنيّ : الخصائص ، 1 / 31

نشأة اللغة
اختلف العلماء الغربيون في أصل اللغات و نقطة البداية فيها ، فمن قائل إنها هبة الله إلى أهل الأرض ميّز بها الإنسان عن سائر المخلوقات ، أي أنها ذات أصل إلهي ، و من قائل إنها من صنع الإنسان و اختراعه . [ لم يكن هذا الاختلاف حديث العهد عند العلماء ، فأول من بدأ بالتحليل اللغوي الفلسفي هو سقراط نفسه ، كما جاء في كتابات أفلاطون ، حينما بحث في ظاهرة اللغة ، و هل هي تواضع و اصطلاح أم هي وحيٌ و توقيف ( بشاي : محاضرة بكلية الآداب بجامعة القاهرة في 27 / 2 / 1974 ]
و قد استند الفريق الأول إلى ما جاء في الكتاب المقدس . فقد ورد في سفر التكوين أن اللغة أعظم الهبات التي وهبها الله للإنسان و أهمها ، و بها أصبحت لديه القدرة على تسمية الأشياء و تقسيمها . [ الكتاب المقدس : سفر التكوين ]
و قد اخذ بهذا الرأي الفيلسوف روسّو ، حين اعترف في رسالته التي ظهرت سنة 1750 م – 1164 هـ بالأصل الإلهي حيث يقول : لقد تكلم آدم و تكلم جيداً ، و الذي علمه الكلام هو الله نفسه . [ بشر : قضايا لغوية ، ص 116 ]
أمّا الفريق الآخر فقد زعم أن اللغة اخترعها الإنسان بوسائله الخاصة ، و لم تبتكر بصورة آلية بطريق التعليمات الإلهية . و من القائلين بهذه النظرية العالم هيردر – تلميذ الفيلسوف الألماني كانت – الذي يستدل على بطلان نظرية الأصل الإلهي بما يوجد في اللغة الإنسانية من عيوب ، و بعدم وصولها إلى حد الكمال . [ بشر : قضايا لغوية ، ص 116 ]
علماً أن لا علاقة بين عيوب اللغة و بين مصدرها الإلهي ، فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ، و مع ذلك جعل فيه قابلية الخير و الشر و ذلك لحكمة أرادها رّب العالمين من وجود الإنسان في الحياة الدنيا . و قال تعالى في وصفه لطبيعة النفس الإنسانية :
{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) } [ سورة الشمس : الآية 8 ]
أمّا نظرية الإصلاح و التواطؤ ، أي أن اللغة و الإنسانية الأولى ابتدعت و استحدثت بالتواضع و الاتفاق بين الناس ، و أن المواضعة تمّت على أيدي جماعةٍ ممن يتمتعون بعقلية عاليةٍ ، و التي قال بها كثيرون من القدامى و المحدثين ، منهم أبو هاشم المعتزلي (عبد السلام الجبائي ت 321 هـ - 933 م ) و من تابعه من المعتزلة ، [ قاسم : اتجاهات البحث اللغوي ، ص 41 ] [ Jesperson ( otto ) : Language , its Nature , Development , and Origin - London , 1864 PP . 26 – 27 ] فلا تصمد أمام البحث العقلي ، لأنه لكي يتواضع الناس و يتفقوا ، لابد لهم من وسيلة راقية يتفاهمون بها في موضوع جلل كهذا ، إذ كيف يتواضع الناس و يصطلحون على وضع لغةٍ بغير ما لغة ؟ !
فالأمر الحق في هذا هو كما قال المقدسي : و ليس في وسع الناس استخراج لغة و وضع لفظ يتفقون عليه إلا بكلام سابق به يتداعون و يتواضعون ما يريدون ، و ليس في المعقول معرفة ذلك ، و لابد من معلّم . [ المقدسي : البدء و التاريخ ، 1 / 122 ]
هذا فيما يتعلق بلغة الإنسان الأول ، أمّا عملية رصد اللغة و ضبطها و تطويرها فهذا شأن آخر .
و كذلك اختلف في أمر لغة العرب ، إلهامٌ هي أم تواضعٌ و اصطلاح ؟ و بخاصةً أن التاريخ لم يسجل طفولة هذه اللغة ، فقال ابن فارس : إنها توقيف ، و استدلّ على ذلك بقوله تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } [ سورة البقرة : الآية 31 ]
و ينقل عن ابن عباس : أن الله علّم آدم هذه الأسماء التي يتعارفها الناس من دابةٍ و أرضٍ و سهلٍ و جبل و أشباه ذلك من الأمم و غيرها . ثم يزيد موضحاً : بأن اللغة التي دلّل على أنها توقيف لم تأت جملة واحدة و في زمان واحد ، بل إن الله عز و جل وقف آدم عليه السلام على ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه ، و انتشر من ذلك ما شاء الله ، ثم علم بعد آدم من عرب الأنبياء صلوات الله عليهم نبياً نبياً ما شاء الله أن يعلمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه و سلم . [ ابن فارس : الصاحبي في فقه اللغة ، ص 5 – 6 ]
و يقول ابن فارس أيضاً : إن الخط توقيفي ، و ذلك لقوله تعالى :
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [ سورة العلق : الآيات 1 - 5 ] و إذا كان الأمر كذلك ، فليس ببعيد أن يوقف آدم عليه السلام أو غيره من الأنبياء عليهم السلام على الكتاب . [ ابن فارس : الصاحبي في فقه اللغة ، ص 6 ]
لم يكن ابن فارس هو الوحيد من أصحاب هذا الرأي ، فقد سبقه إلى هذا أبو عثمان الجاحظ ، حين يقول : و اللغة عاريةٌ في أيدي العرب ممن خلقهم و مكّنهم و ألهمهم و علّمهم . [ الجاحظ : الحيوان ، 1 / 349 )
و يتحدث عن عربية إسماعيل عليه السلام فيقول : و قد جعل إسماعيل ، و هو ابن أعجميين عربياً ، لأن الله سبحانه و تعالى فتق لسانه بالعربية المبينة على التلقين و الترتيب ، ثم فطره على الفصاحة العجيبة على غير النشوء و التمرين . [ الجاحظ : ثلاث رسائل : باعتناء فان فلوتن ( ليدن  1902 ) ]
و ذكر ابن النديم أنه يقال : إن الله سبحانه و تعالى أنطق إسماعيل بالعربية . و يضيف : و قال محمد ابن إسحاق : فأما الذي يقارب الحق و تكاد تقبله النفس أن إسماعيل تعلم العربية من العرب العاربة من آل جرهم ... و لم يزل وُلد إسماعيل على مر الزمان يشتقون الكلام بعضه من بعض ، و يضعون للأشياء أسماء كثيرة بحسب حدوث الموجودات و ظهورها . فلما اتسع الكلام ظهر الشعر الجيد الفصيح في العدنانية ، و إنّ الزيادة في اللغة امتنع العرب منها بعد بعث النبي صلى الله عليه و سلم لأجل القرآن . [ ابن النديم : الفهرست ، ص 7 ] أي أن نظام اللغة العربية الصـوتي و الصرفي و النحوي قد تأطر بلغة القرآن الكريم .
إن ما قاله ابن النديم يمكن أن يرد إلى حديث نبوي شريف ، فقد نقل ابن كثير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قوله : " فألفى ذلك أم إسماعيل و هي تحب الأُنس " فنزلوا و أرسلوا إلى أهليهم ، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، و شب الغلام و تعلم العربية منهم ، [ ابن كثير : مختصر التفسير ، 1 / 124 ] و بذلك فإن تاريخ اللغة العربية قديم ، فقد عاش أبو العرب – إبراهيم عليه السلام – قبل المسيح بألفي عام .
و أخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس : أنّ آدم عليه السلام كانت لغته في الجنة العربية ، فلما عصى سلبه الله العربية ، فتكلم بالسريانية ، فلما تاب رد الله عليه العربية . إلا أن عبد الملك بن حبيب يقول : كان اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة عربياً إلى أن بعد العهد و طال ، حُرف و صار سريانياً . [ السيوطي : المزهر ، 1 / 3 ]
غير أنت العالم اللغوي ابن جنّي يرى أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع و اصطلاح ، لا وحي و لا توقيف . و يرد على ابن فارس في احتجاجه بقوله سبحانه و تعالى :
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } [ سورة البقرة : الآية 31 ]
فيذكر أنه قد يجوز أن يكون تأويله ، أي أقدر آدم على أن واضع عليها ، و هذا المعنى من عند الله سبحانه و تعالى لا محالة ، فإذا كان ذلك محتملاً فهو غير مستنكر . [ ابن جنّي : خصائص ، ص 39 ]
و لكنه يعود ليتردد في آخر هذا الباب ، و ذلك حين يقول : و اعلم فيما بعد ، أنني على تقادم الوقت ، دائم التفكير و البحث عن هذا الموضع ، فأجد الدواعي و الخوالج قوية التجاذب لي ، مختلفة جهات التغّول على فكري ، و ذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة ، وجدت فيها من الحكمة و الدقة ، و الإرهاف و الرقة ، ما يملك علي جانب الفكر حتى يكاد يطمح بي أمام غلوة السحر ... في نفسي اعتقاد كونها توقيفاً من الله سبحانه و تعالى و أنها وحي . [ ابن جنّي : خصائص ، 1 / 41 ]
إن الناظر بعمق إلى آراء ابن جنّي يجد أنه في حيرة من أمره ، فحين قال بالاصطلاح و التواضع اصطدم بالحقيقة القرآنية التي تقول : إن مصدر العلم الأول للإنسان الأول - آدم عليه السلام – جاءت من عند الله سبحانه و تعالى ، فلجأ إلى التأويل . و من جهة أخرى هو مأخوذ بروعة اللغة العربية و جمالها و كمالها ، بحيث يعجز الناس عن الإتيان بمثلها .
أمّا مصدر كلمة " العرب " الذين نسبت إليهم اللغة العربية فقد ذكر ابن النديم : أن إبراهيم عليه السلام نظر إلى ولد إسماعيل مع أخوالهم من جرهم ، فقال له : يا إسماعيل ، ما هؤلاء ؟ فقال : بنيّ و أخوالهم جرهم . فقال له إبراهيم باللسان الذي كان يتكلم به و هو السريانية القديمة : أعرب له ،يقول : أخلق به ، و الله أعلم . [ ابن النديم : الفهرست ، ص 8 ] [ جرهم : قبيلة عربية كانت تقيم في مكة المكرمة ]
و حاول بعض المحدثين دراسة نشأة اللغة على أساس أنها شيء مصنوع ، و بالرغم من المعرفة المتزايدة التي حصل عليها العلماء لتاريخ الإنسان قبل التاريخ المدوّن ، فإن أصل الإنسان و نشأته ثم انتقاله من حيوان أبكم إلى حيوان ناطق ، و من حيوان لا يعقل إلى حيوان عاقل ، لا يزال مكتنفاً بحجب الأسرار أمامهم و إن أقصى ما استطاعوا الوصول إليه هو أن اللغة ظاهرة إنسانية بسيكولوجية مكتسبة ملازمة للفرد ، و قد نشأت بنشوئه ، و نمت بنموه الحضاري ، و بهذه الظاهرة أصبح الإنسان إنساناً . [ مجلة الأبحاث : عدد آذار 1955 م ( مقال الدكتور أنيس فريحة ) ] كما وجد علماء الألسنية أن نطق كلمة مهما صغرت ، ينطوي على حركات عضلية لا حد لها ، و يصعب كثيراً معرفتها و رسمها . [ مجلة الفكر العربي : عدد ( 8 – 9 ) مقال ف . دوسوسير : شغلت قضية نشأة اللغة بال اللغويين و المفكرين طويلاً ، و طال الجدل حولها بينهم و كثرت النظريات ، حتى أن الجمعية اللغوية الفرنسية قضت بقرار اتخذته الجمعية ألا يبحث الموضوع إطلاقاً في قاعات الجمعية لعدم جدوى البحث و لعقم النظريات ، إذ أنها تدور في حلقة مفرغة ، و لا تفسر لنا هذه الظاهرة العجيبة ( فريحة : A/A/ 1 ، 1972 ) . لمزيد من الفائدة حول هذه النظريات و تعددها انظر كتاب الدكتور رياض قاسم : اتجاهات البحث اللغوي الحديث ، ص 41 و ما بعدها ]
و مما زاد الأمر تعقيداً و أثار الجدل عند الباحثين علاقة اللغة بالفكر . فيذهب بعض علماء النفس إلى أن التفكير قد يحدث – أحياناً – من غير لغة ، و أنه إذا استطعنا أن نحل محل اللغة رموزاً أخرى نستطيع التفكير بدون لغة ، و لكن كلما ازداد التفكير عمقاً و اتجه النشاط العقلي إلى المقارنمة و الاستنباط كلما زادت حاجة العقل إلى استخدام اللغة . [ عبد المجيد : اللغة العربية ، ص 43 – 44 ]
و هناك علماء و باحثون آخرون رأوا أن الفصل بين اللغة و الفكر أمرٌ غير ممكن ، فقد رأى العالم اللغوي ابن هشام ، أن اللغة هي ما في النفس و ما تحصل به الفائدة سواء أكان لفظاً أم خطاً ، أي إن المعاني تقوم في النفس قبل أن ينطق بها اللسان أو يخطها القلم . فالكلام اللغوي يكون في داخل الإنسان ، ثم يجيء دور اللسان فيحوله إلى كلام لفطي . [ ابن هشام : شذور الذهب ، ص 28 – 29 ]
و بعبارة أخرى لم يكن ابن هشام يتصور إمكان انفصال الشكل عن المضمون في أية حال من الأحوال ، لأن التحامهما معاً هو كارتباط الروح بالجسد ، فإذا ما فارقت الروح وعاءها أصبح الجسد شيئاً مواتاً .
ثم جاء علماء فقه اللغة المحدثون فأيدوا هذا الرأي ، و ذلكم حينما قالوا : إن الإنسان لا يفكر ، حتى فيما بينه و بين نفسه ، إلا في أثواب من اللغة . [ مجلة الأمة : عدد ربيع الآخر ، 1402 هـ ( مقال الدكتور عبد العظيم الديب ) ]
و هذا العلاّمة علاّل الفاسي يرى أن اللغة ليست إلا المظهر الخارجي للفكر . [ مجلة البينة : عدد / 6 ، ص 35 ] فالكلام – حسب تعبير الأخطل – في الفؤاد ، و لكن دليله اللسان .
يقول الأخطل :
إنّ الكلام مِن الفؤادِ و إنّما جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دَليلا
[ الوشاء : الموشّى ، ص 16 ]
و يذهب الدكتور كمال الحاج إلى ما هو أبعد من ذلك ، إذ لا يرى وجوداً للفكرة خارج الكلمة ، لأن الفكرة و الكلمة يكوّنان " أقنوماً " واحداًَ ... [ الحاج : دفاعاً عن العربية ، ص 150 ]
و لعلّ الصواب هو إلى جانب الفريق الذي يؤكّد الصلة الحتمية بين الفكر و اللغة . و إذا صحّ ذلك فإن الفكر الأول و اللغة الأولى جاءا للإنسان الأول متلازمين ، في ثوبٍ واحدٍ ، و في زمنٍ واحدٍ ، أمّا مصدرهما : فإما أن يكون من الإنسان نفسه و إما من خارج الإنسان . فالذين قالوا إنهما من خارج الإنسان فقد أخذوا بالجانب التوقيفي للغة الإنسانية الأولى ، و استندوا في ذلك إلى خبر السماء في الكتب السماوية ، و على هذا الجمهور الأعظم من الصحابة و التابعين من المفسرين ، [ السيوطي : المزهر ، 1 / 27 ] و الذين زعموا أنها من صنع الإنسان و اختراعه ، فينقصهم الدليل لتوثيق زعمهم .
فقد ثبت أن عزل الطفل منذ اليوم الأول لولادته عن البيئة الإنسانية يحرمه حرماناً تاماً من اللغة الإنسانية ، أي يحرمه من الفكر الإنساني . و ما ينطبق على طفلٍ واحدٍ ينطبق على مجموعة الأطفال ، كثرت أم قلت . و هذا لا ينفي تكوّن عددٍ من الأصوات و الإشارات المعبّرة عند هؤلاء الأطفال عبر نموهم و نشأتهم ، لكنها لا تتجاوز ما يصدر عن الحيوان .
و إذا ما التبس علينا الأمر فيما نجده عند الحيوان من أصواتٍ هادفةٍ ، فإن اللبس يزول حينما ندرك أنها لا تعدو أن تكون طلباً لإشباع حاجةٍ عضويةٍ أو استجابةً لغريزةٍ حيوانيةٍ .
و إذا كان بعضهم يرى أن المسافة قصيرةٌ بين الحيوان و الإنسان ، و أنه لا ينقص الحيوان سوى الكلام ، و أن اللغة هي الشرط الضروري و الكافي للدخول إلى الوطن الإنساني ، فإننا نرى أن هذه المسافة – على قصرها الحسي – هي الحدّ الفاصل بينهما ، و أنه عاجزٌ عن تجاوزه .
فالأمر كما قال الجاحظ : و ليس عند البهائم و السباع إلا ما صُنعت له ، و نُصبت عليه ، و أُلهمت معرفته ، و كيفية تكلّف أسبابها ، و التعلّم لها من تِلقاء أنفسها . [ الجاحظ : كتاب الحيوان ، 2 / 147 ] و البهيمة سميّت بهيمة لأنها أُبهمت عن العقل و التمييز . [ ابن الأبناري : الأضداد ، ص 7 ]
أمّا الإنسان فقد تميز عن الحيوان بكونه ناطقاً ، أي مفكراً ،و بالفكر شُرفَ و تفوق و استحق أن يكون خليفة الله على الأرض ، و لا يخالج ابن خلدون أي شك في أن عالم الحيوان هو غير عالم الإنسان ، و ذلك حين يقول : إن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس و الحركة و الغذاء و الكِنّ و غير ذلك ، و إنما تميّز عنها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه و التعاون عليه بأبناء جنسه و الاجتماع المُهيء لذلك التعاون و قبول ما جاءت به الأنبياء من عند الله سبحانه و تعالى و العمل به و اتبّاع صلاح أُخراه . [ ابن خلدون : المقدمة ، ص 429 ] [ الكنّ : البيت ، المسكن

Post a Comment

أحدث أقدم