الفرض العلمي
في البحوث  الطبية والصحية
قيمة الفرض العلمي في البحوث الصحية والطبية (7)


إن تصميم التجربة معناه تخطيط كيفية اختبار الفرضية ، وتصميم البحث العلمي أو الطبي بوصفه واحداً من الفعاليات الإبداعية للعالم ، أمر يسبب للمصمم مقدراً من السرور يزيد على مقدار السرور الذي يسببه التنفيذ . حتى أن بعض العلماء يكتفي بمتعة التصميم هذه ويتركون لمعاونيهم مهمة التنفيذ.

وقد يبدو في بعض البحوث ، أن ليس ثمة فرضية على الإطلاق . إن الباحث قد يرفض التنبؤ عما سوف يكون عليه الوضع في نهاية البحث ، ولكن هذا ليس أمراً شائعاً ، بل الشائع أن يصرف الباحث وقته ومال غيره في توقع نتيجة ما . وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن كل تجريب هو اختبار لفرضية ما . وهذا القول يتم مع المعرفة التامة بأن ثمة فروقاً واسعة في كيفية توليد الفرضيات ودقة صياغتها وجودة ومدى علمية اختبارها . إن الفرضية التي توضع قيد الاختبار سواء أصيغت صياغة لفظية دقيقة أم لم تصغ ، هي محدد هام لأجزاء عديدة من الخطة التجريبية المختارة .
الفرضيات العلمية


إن مصادر الفرضيات العلمية يمكن أن تكون نقاط بدء لبحوث كثيرة طبية وصحية ، وفيما يلي أهمها :

أولاً:   البحوث العلمية الصحية والطبية الماضية:
إن البحث العلمي عمل متنام ، ذلك بأن نتائج بحث ما تثير أو توضح وتعدل مشكلات صحية وطبية (علاجية وغير علاجية) وتطرح عدداً كبيراً من الفرضيات الجديدة الواجب اختبارها .و إن البحوث الحاضرة تكون مدفوعة من قبل المكتشفات الماضية وكذلك الاختراعات والتفسيرات العلمية ، ولا يمكن أن تتم ــ في كثير من الأحيان ــ إلا بسبب من المعارف التي تم الحصول عليها نتيجة لبحوث سابقة (وقد ذكرنا سابقاً بأن من خصائص البحث العلمي بأنه تراكمي) .
وهكذا فإن الباحث العلمي لا يستشعر نقصاً في الأمور الواجب بحثها إذا كان على صلة وثيقة وإطلاع كافٍ على ما تم اكتشافه في حقله .

ثانياً:   الملاحظات الميدانية:
في البحوث الطبية وكذلك الصحية تمكن صياغة القوانين على أساس الملاحظات التي تمت خارج المختبر . وربما من جراء اختبار دواء ما ، أو طريقة جديدة في المعالجة يقوم بتجربتها لإثبات صحة أو عدم صحة هذه الطريقة . وذلك ــ بطبيعة الحال ــ  باختبارها وبمتابعته لهذه التجربة ، وتسجيل الملاحظات السلوكية والصحية وكذلك المخبرية ، يكتشف شيئاً جديداً يثير عنده فرضاً علمياً جديداً ، يقوم بإخضاعه للتجربة التي ستثبت له صحة هذا الأخير . ومن الأمثلة القريبة في البحوث الطبية  دواء الفياغرا فبينما (تقول بعض التقارير) (8) : كان معقودأ الأمل عليه لمعالجة الذبحة الصدرية وفرط ضغط الدم ، لاحظ المجربون من خلال المتابعة والاستقصاء والاستفسار الجيد ، فعالية هذا الدواء في معالجة الخلل الوظيفي الانتعاظي في رجال مصابين بالداء السكري (وغير المصابين به) . فكان هبة من الله بالنسبة لولئك الرجال التعساء جنسياً من جراء العنانة والبرود الجنسي . وأخذ هذا الدواء يتصدر قائمة المبيعات الدوائية في شتى أنحاء العالم . من هذا المثال لاحظنا كيف أن الباحثين الطبيين أرادوا معالجة الذبحة الصدرية وفرط ضغط الدم عند مرضى مصابين بداء السكري بمادة (سيترات السيلدينافيل) وإذا بالملاحظة الدقيقة والتجريب الدقيق ، يلاحظون منفعة كبرى لدى هؤلاء المرضى السكريين (وهم عادة مصابون بخلل وظيفي في الأداء الجنسي ــ ضعف النعوظ) فكان العقار قرة عين لهم وبشرى سارة ، أنستهم مآسي أيام وليالي سوداء كثيرة . لذا يجب على الباحثين تدوين ملاحظاتهم الميدانية والمخبرية واستقصاءاتهم ، بشكل علمي ودقيق والتأكد من كل صغيرة وكبيرة .

ثالثاً: المشكلات العلمية والصحية والطبية:
وهذه مصدر إلهام كبير بالنسبة للباحث ، فهي تثير عنده نقطة التفكير بالفرض العلمي لحل هذه  المشكلة أو تلك .  وهذا باستور رؤيته لقطعان الماشية كيف تنفق جراء الحمى الفحمية  كيف يكتشف ويجد اللقاح المناسب لشفائها من هذا الداء القاتل .  وغالبية الأمراض و الأوبئة ــ إذا لم نقل كلها ــ كانت مصدراً لوضع تلك الفرضيات العلمية البناءة .  من ذلك مرض الإيدز وأمراض السرطان والأمراض السارية والمزمنة وغيرها كثير .

رابعاً: النظرية:
يمكن تعريف النظرية ، بأنها مجموعة من العلاقات المحددة بين متحولات قابلة للقياس . ومفاهيم مجردة ،  تعرض بصورة غير مباشرة على شكل ملاحظات أو قياسات . ومن النظريات العلمية الطبية والصحية الواسعة ، يمكن في كثير من الأحيان توليد فرضيات عن طريق الاستنتاج . غير أنه من المعلوم أننا في البحوث الطبية لا نعتمد الاستنتاج طريقة للتأكد من صحة الفرضيات ، ولكننا نعتمد التجريب.  وفي كل الأحوال فإن ما نختبره هو التعميم الواسع الذي استخلص منه الاستنتاج.

خامساً: الحاجة:
حاجة بعض المراكز الطبية والصحية والدول وربما الشركات الصناعية ، لإجراء بحوث وتجارب لحل مشكلة طبية أو صحية أو تحسين دواء من ناحية سعة طيفه أو قوة تأثيره أو مشاركته بدواء آخر أو الحد من بعض آثاره الجانبية الضارة . وغير ذلك من الطلبات والحاجات الملحة .

أنواع الفرضيات العلمية


لعل أبسط نوع من الفرضيات هو ذلك الذي يقول إن متحولاً حراً معيناً أو شرطاً معيناً ، سيكون له أثر في حالة المشكلة الصحية أو الطبية الجاري البحث عليها أو المنوي البحث عليها . وذلك دون ذكر مقدار الأثر أو حتى اتجاهه (وربما كان هذا الأثر إيجابياً أو سلبياً كما هو الحال في البحوث المجراة على الماشية وخاصة الأبقار المصابة باعتلال الدماغ الإسفنجي الشكل (وهو ما يعرف بمرض جنون البقر) والذي بلغ عدد الإصابات به في المملكة المتحدة لوحدها حتى (أيار 2001) بلغ 180000 إصابة ، والذي ينتج عن إدخال أعلاف محضرة من جثث الحيوانات المجترة إلى غذاء الماشية) . فبعض المزارعين يدعّون بأن إدخال هذه النوعية من الأعلاف في غذاء الماشية له قيمة غذائية وصحية عالية ويساعدها على الإنتاج والنمو أكثر وأكثر . بينما القسم الثاني من هؤلاء المربين والمزارعين يقولون العكس إنه يساعد على زيادة الإنتاج والتسمين وغيره ولكنه يميت البقرة أو الحيوان المجتر ، لأنه السبب في إصابته بمرض جنون البقر . 

على أنه من الشائع أن يبدأ التجريب على أساس إتجاه محدد, بدلاً من أن يبدأ على أساس لا اتجاه له . وبتعبير آخر نستطيع القول بأن معظم التجارب الطبية والصحية هي اختبارات لتنبؤات ، وهكذا فقد يكون التنبؤ بأن أثر إدخال الأعلاف المحضرة من جثث الحيوانات المجترة إلى غذاء الماشية مساعد على الإصابة بجنون البقر أو غير مساعد مع إهمال مقدار الأثر . ولكننا حين نحاول تعيين مقدار الأثر ، فإن تنبؤنا ــ وبالتالي تجريبنا وبحثنا ــ يكون ذا قيمة أكبر .

إن مثل هذا التنبؤ الكمي  لا يكون ممكناً في المعتاد إلا إذا كان لدى الباحث مقدار كبير من البحوث أو على الأقل نظرية راسخة يستعملها أساساً لفرضية كمية ، وحينئذ فإن مثل هذا الباحث المسلح بمثل هذا الأساس للتنبؤ ،  يستطيع أن يتجاوز مجرد تحديد قيمة لأثر متوقع , فيتنبأ عن علاقة وظيفية أو منحنى حسابي،  يصف العلاقة بين المتحولات الحرة والمتحولات التابعة .
صياغة الفرضيات من أجل التجريب

إذا كانت غاية كل باحث طبي أو صحي هي اختبار الفرض العلمي الذي افترضه ، فإن طريقة قيادة البحث سوف تتوقف على كيفية صياغة الفرضية. والحق أن صياغة الفرضية تحدد ما إذا كان من الممكن اختبارها تجريبياً من حيث الأصل . وبما أن تصميم التجربة يتوقف على صياغة الفرضية ، فإن من الواجب أن نتعلم الكثير عن تصميم التجارب وذلك عن طريق دراستنا وإتقاننا وخبرتنا في صياغة الفرضيات العلمية الطبية والصحية والتقنية . ومن الأمور المفيدة الهامة والمساعدة ، أن نقرأ عدداً من التقارير عن التجارب التي أجريت لنرى كيف صيغت الفرضيات قبلها ونستفيد منها في بحوثنا المفترضة . غير أن المجلات التي تنقل إلينا صورة عن البحوث الطبية والصحية ، تظهر لنا أن قسماً كبيراً من صياغة الفرضيات يجري بصورة ضمنية Implicitly . وفي المعتاد تكون هناك صياغة ظاهرة للمشكلة التي تبحث تذكر الوجوه الكبرى للفرضية، ولكن الوجوه الأخرى للفرضية قد لا تذكر ، وذلك بغية إظهارها في تصميم التجربة أو خطتها . فبدلاً من محاولة تحديد هوية الوجوه والآثار الخفية للفرضيات المخبوءة تحت التفصيلات العملية نحاول تبيين الوجوه المختلفة الظاهرة للفرضيات ، وعلى كلٍ فإن محاولة صياغة الفرضيات صياغة جيدة تقود في المعتاد إلى صوغ تجارب أحسن.


التحديد

من أجل أن تكون الفرضية ممكنة الاختبار  تجب صياغتها بشكل محدد . فكيف نستطيع اختبار الفرضية القائلة بان : تعاطي الكحول عند مرضى القلب، يؤدي إلى تعزيز انخفاض الضغط؟ إن مثل هذا القول بالتعميم وبدون تحديد ، لسوء الحظ هو قول خاطئ علمياً وطبياً ، لأن المصطلحات أو الكلمات والتعابير المستعملة آنفاً غير محددة . فما هي كمية الكحول التي تؤثر ، وعند أي نوع من مرضى القلب يكون هذا التأثير ،  وما هو الدواء الذي يستعملونه حتى يتأثروا بالكحول فينخفض الضغط .. وهكذا .

إن مثل هذه المقولة من الصعب إخضاعها للتجريب لكثرة أنواع مرضى القلب وكثرة أنواع الأدوية التي توصف في مثل هذه الأمراض ، وتكفي هذه الاعتراضات ولو على فرضية واحدة لإظهار ما نقصد بعدم التحديد . فهل نبدأ بالتجريب على مرضى اعتلالا أو التهابات عضلة القلب Cardiomyopathy or Myocarditis أم على مرضى الذبحة الصدرية أو مرضى الاحتشاء .. الخ . وهل نبدأ بالتجريب عند الذين يتناولون الأدوية القلبية من مثل : محصرات البيتا أو ضواد الكلسيوم، أم متعاطي الأميودارون أم الديجوكسين أم الموسعات الوعائية أم النيتروغليسرين . إذاً من المفروض أن تكون الفرضية أكثر تحديداً ودقة ، وأن لا تكون فضفاضة وغير علمية . فلو قلنا في مثالنا السابق بأن إعطاء الكحول لمرضى اعتلال عضلة القلب الذين يتناولون دواء (حاصرات بيتا  B-Blockers) سيؤدي إلى انخفاض الضغط وتعزيزه ، لقلنا نعم . هناك تحديد لإسم أو نوع الدواء وتركيبه وللمادة المؤثرة التي هي الكحول وإلى نوعية أو نتيجة التأثير (تأثير الكحول على دواء حاصرات البيتا) وإلى نوع واسم المرض الذي هو هنا مرض اعتلال العضلة القلبية .

مثال آخر: لو قال قائل "إن إعطاء الأسبرين سيؤدي إلى النزف" ، لما قبلنا منه هذا الكلام لما للأسبرين من فوائد في مكافحة الصداع وخفض الحرارة والوقاية من الجلطة والإحتشاء وغير ذلك من الفوائد,محسوبة علمياً . وهو مجرب عند غالبية البشر ومستعمل ويباع بدون وصفة طبية في الصيدليات ، فهو كلام غير علمي وغير محدد وغير دقيق وهذا ثابت بالتجربة .

أما إذا قال قائل "إن إعطاء الأسبرين بجرعة كبيرة يمكن أن يؤدي إلى النزف عند مرضى القرحة المعدية" نقول له : بأن كلامك علمي ومعقول ومقبول عقلاً وعلماً وهو محدد وقابل للتجريب ، فإما تنفيه التجارب وإما تثبته. في المقولة الأولى تعميم وكلام فضفاض ويصعب تجريبه على الناس وغير قابل للتصديق بحكم العادة ، فهو كلام غير دقيق وغير محدد ، وأما في المقولة الثانية ، فهو كلام محدد ومعقول لما للأسبرين من تأثير على جدار المعدة وعلى نسبة القلوية والحموضة فيها . ولتحديد الكلام يسهل إجراء التجربة والوصول إلى نتيجة معقولة وعلمية. فضلاً عن شيوع استعماله بين الناس . والملاحظة الميدانية لا تنفي منافع استعماله وقلة ضرره ، إلا على البعض من الذين يعانون من التحسس أو القرحة أو بعض أمراض القلب والدماغ .. حيث خطر النزف فيهما . لذلك نؤكد بأنه يجب أن تكون الفرضيات محددة وقابلة للاختبار والتجربة . وقبل إجراء التجريب الفعلي ، لابد من وضع مصطلحات محددة من أجل أن نحدد المقصود منه .

إمكانية التطبيق


من الممكن أحياناً أن تكون الصياغة محددة بشكل لا يمكن من الاختبار ، وذلك لأسباب عملية . وإذا كان صحيحاً أنه من غير الممكن أن نقع على مثل ذلك في التجارب الفعلية ، فإنه صحيح أن الصياغة ممكن أن تأخذ الشكل التالي : (80% من المرضى الذهانيين سيظهرون تحسناً خلال ثلاثة أشهر إذا أخرجوا من المصحات ووضعوا في بيوت خاصة) . إن هذه الفرضية المقدمة بشكل محدد كاف ، ممكنة القياس من حيث الأصل ، ولكن اختبارها بالفعل أمر يواجه صعوبات كبيرة . غير أن من الممكن إعادة صياغة الفرضية لتسمح بالتجريب الفعلي دون أن نمس بجوهرها . مثلاً (إذا وضع المرضى الذهانيين في جو يشبه جو البيت ، وأرضيت حاجاتهم عن طريق توفير خبرات أسرية لهم ،  فإن (80%) منهم سوف يظهرون تحسناً خلال ثلاثة أشهر) . إن هذه الفرضية لا تختلف كثيراً عن سابقتها ، ولكنها ممكنة التطبيق أكثر منها .




حتمية الظواهر في الكائنات الحية


إن بنية الكائنات الحية مجموعة منسجمة من الظواهر ينبغي اعتبارها(9)..ومن المسلّم به علمياً بأن هناك كثيراً من الاعتبارات التجريبية المنطبقة على الأجسام الحية والأجسام الجامدة . وأن الفرق بين النوعين مقصوراً على تعقد الظواهر في الأجسام الحية تعقداً كبيراً زاد كثيراً من صعوبة التحليل التجريبي وحتمية الظروف  بيد أن ثمة في مظاهر الأجسام الحية لوناً خاصاً من تضامن الظواهر ينبغي أن نلفت إليه  نظر المجرب . وذلك أنه إذا أهملت في دراسة وظائف الحياة وجهة النظر الفسيولوجية هذه انتهينا إلى أكثر الآراء خطأ وأكثر النتائج فساداً ، مهما كان التجريب حسناً وصحيحاً .

إن الهدف الذي ترمي إليه الطريقة التجريبية ، هو الاهتداء إلى حتمية الظواهر مهما كانت طبيعتها ــ حيوية كانت أم معدنية ــ هذا وأننا نعرف أن ما نسميه (حتمية) ظاهرة ما  ,لا يعني إلا (العلة المحدثة) أو (العلة القريبة) التي تعين ظهور الظواهر . وهكذا نحصل بالضرورة على (ظروف وجود) الظواهر التي ينبغي أن يعمل المجرب عليها لتنويع الظواهر ، فنحن إذاً نعتبر جميع التعبيرات السابقة واحدة متشابهة تلخصها جميعاً لفظة (الحتمية) .

صحيح ــ كما قلنا ــ أن الحياة لا تدخل أي فرق في الطريقة العلمية التجريبية التي ينبغي أن تطبق على دراسة الظواهر الفسيولوجية ،  والعلوم الفيزيقية الكيميائية تستند من هذه الناحية إلى نفس مبادئ البحث . بيد أنه لا بد مع ذلك من الاعتراف بأن الحتمية في ظواهر الحياة ليست حتمية معقدة جداً فحسب ولكنها في الوقت نفسه حتمية منظمة الحلقات منسجمة المظاهر . تكون الظواهر الفسيولوجية المعقدة عبارة عن سلسلة من الظواهر أكثر بساطة , تحدد الواحدة منها الأخرى باجتماعها أو اتحادها لغرض نهائي مشترك . فغرض الفسيولوجي الأساسي إذاً هو تحديد الظروف الأولية للظواهر الفسيولوجية وإدراك كيفية انتظامها الطبيعي ، حتى يفهم ويتبع من بعد ذلك مختلف التنظيمات التي تتشكل بها بنية الحيوانات . والرمز القديم الذي يرمز للحياة بحلقة مكونة من ثعبان يعض ذيله يصور الأشياء تصويراً مضبوطاً . فالواقع أن وظائف الحياة في الكائنات المعقدة تكون حلقة مقفلة ذات رأس وذات ذيل ، بمعنى أنه ليس لجميع الظواهر الحيوية أهمية واحدة ، وإن تعاقبت في تلك الدائرة الحيوية .

وهكذا تتولى الأعضاء العضلية والعصبية عمل الأعضاء التي تكون الدم . وبين هذه وتلك تضامن عضوي أو اجتماعي يحتفظ بلون من الحركة الدائمة إلى أن يضطرب عنصر حيوي أو يتوقف عن العمل، فينقطع الاتزان ويحدث اضطراب أو توقف في حركة الآلة الحيوانية . والمشكلة التي يواجهها الطبيب المجرب تنحصر إذاً في الاهتداء (الحتمية البسيطة) للإضطراب العضوي ، أعني إدراك الظاهر الأساسية التي تجر وراءها بقية الظواهر (بحتمية معقدة) لكنها ضرورية في ظرفها ضرورة الحتمية الأساسية .

وهذه الحتمية الأساسية هي المشكلة التي تهدي المجرب في دياجير ظواهر الفسيولوجيا والباثولوجيا المظلمة ، وتساعده على فهم العمليات المختلفة التي تربطها دائماً على اختلاف حتميات مطلقة . وسنرى بالأمثلة ــ فيما بعد ــ كيف أن اختلالاً في بنية الكائن وتكوينه أو اضطراباً معقداً في الظاهر يمكن إرجاعه إلى (حتمية بسيطة) أساسية تستثير بعدها حتميات أكثر تعقيداً ، كما هي الحال في التسمم بأكسيد الكربون . وليتبين لنا كيف أن حتمية وحيدة من أكثر الحتميات بساطة ــ كإصابة أحد الأطراف العصبية المحركة ــ تؤثر بالتعاقب في جميع بقية العناصر الحيوية ، لتجئ بحتميات ثانوية تزداد تعقداً حتى الموت بخطى متعاقبة . ولقد أردت بهذا إثبات وجود هذه الحتميات الكائنة بداخل الأعضاء .

فلا ينبغي إذاً أن ينسى الفسيولوجي والطبيب أن الكائن الحي يكون وحدة أعضاء لا تقبل التجزئة . وإذا عجزا الفيزيائي والكيميائي عن الوقوف في خارج الكون ، فإنهما يدرسان الأجسام والظواهر في حد ذاتها منعزلة بدون أن يضطرا إلى إرجاعها بالضرورة لمجموع الطبيعة . غير أن الفسيولوجي ــ وقد وجد نفسه على العكس  خارج الكائن الحيواني الذي يرى مجموعته ــ ينبغي أن يحسب لانسجام هذه المجموعة حسابها ، في الوقت الذي يعمل فيه على النفاذ إلى باطنه كي يفهم وظيفة كل جزء من أجزائه . ومن هنا كان بمقدور الفيزيائي والكيميائي أن ينبذا من الحقائق التي يدرسانها كل فكرة عن العلل الغائبة . بينما الفسيولوجي ملزم بالتسليم بغائية انسجامية سبق إيجادها في الجسم المنظم الذي تتضامن جميع أفعاله الجزئية ويولد بعضها بعضاً ، فلابد إذاً من العلم بأننا إن فككنا الكائن الحي بعزل أجزائه المختلفة ، فليس هذا إلا تسهيلاً للبحث التجريبي ــ لا لفهمها على حدة ــ والواقع أننا إن أردنا أن نعطي خاصة فسيولوجية قيمتها ومعناها الحقيقي ، فلابد من أن نرجعها إلى المجموعة وألا نستخلص نتيجة نهائية إلا بالنسبة لآثارها في هذه المجموعة.

وليس من شك في أن الإحساس بهذا التضامن الواجب بين جميع أجزاء الكائن هو الذي دفع (كوفييه إلى القول باستحالة تطبيق التجريب على الكائنات الحية ، لأنه يفصل الأجزاء ذات الأعضاء التي ينبغي أن تبقى مجتمعة . وهو كذلك الذي دفع غيره من الفسيولوجيين والأطباء المعروفين بالحيويين إلى أن حرموا التجريب في الطب وما زالوا يحرمونه . ولقد أخطأت وجهات النظر هذه (الصحيحة مع ذلك من إحدى نواحيها) من حيث نتائجها العامة ، وأوذي تقدم العلم إيذاء كبيراً . وصحيح بلا شك أن يقال إن الأجزاء المكونة للكائن لا أنفصال لها فسيولوجياً ، وأنها جميعاً تعمل على الوصول إلى نتيجة حيوية  مشتركة . بيد أنه لا يجوز أن نستنتج من هذا أنه لا ينبغي أن تحلل الآلة الحية كما تحلل آلة جامدة لكل جزء من أجزائها على السواء ، دور ينبغي القيام به في مجموعة واحدة. وينبغي بقدر الإمكان بمعاونة التحليل التجريبي نقل الأفعال الفسيولوجية إلى خارج الكائن . وهذا العزل يسمح لنا برؤية الظروف الداخلية للظواهر وإدراكها على وجه أفضل لنتمكن من تتبعها في الكائن حتى نفسر الدور الحيوي الذي تؤديه , وهكذا ننشىء الهضم والتخصيب الصناعيين لنتمكن من معرفة الهضم والتخصيب الطبيعيين معرفة أفضل . وبمقدورنا كذلك حين نبدأ من وحدات عضوية مستقلة استقلالاً ذاتياً أن نفصل الأنسجة الحية ونضعها بواسطة الدورة الصناعية أو بغيرها في الظروف التي نتمكن من دراسة خواصها على وجه أفضل . ونحن نفصل أحياناً أحد الأعضاء بأن نعدم بالمخدرات ردود أفعال الشعور العام ونصل إلى نفس النتيجة بتقسيم الأعصاب التي تنتهي إلى أحد الأجزاء مع الاحتفاظ بالأوعية الدموية . ولقد أمكنني بالتجريب التحليلي (والكلام هنا للدكتور برنار) أن أجعل على صورة ما من الحيوانات ذات الدم الساخن حيوانات ذات دم بارد حتى أتمكن من دراسة خواص عناصرها الهستولوجية(النسيجية ) دراسة أفضل . وقد وفقت إلى إحداث عوارض التسمم في بعض الغدد بعد فصلها أو إلى تنشيط وظائفها بواسطة أعصابها بعد فصل هذه الأعصاب عن الجسم فصلاً تاماً . وفي هذه الحالة الأخيرة يمكن تعطيل وظائف الغدة أو تنشيطها على التوالي . فإذا وقفنا على طرفي الظاهرة من تعطيل وتنشيط ، أصبح من اليسير الوقوف على الحالات المتوسطة . وفي هذه الحالة نستطيع أن نفهم كيفية تعديل وظيفة كيميائية بواسطة الجهاز العصبي ، بحيث نحصل دائماً على السوائل العضوية في ظروف مماثلة . وسنكتفي الآن بمجرد الإشارة إلى هذه التحليلات التجريبية ، ملخصين رأينا في أن نبذ التحليل التجريبي في دراسة الكائنات الحية ، يعتبر قضاء على العلم بالوقوف وإنكار للمنهج التجريبي . غير أن اصطناع التحليل الفسيولوجي بإغفال ما يتميز به الكائن الحي من وحدة وانسجام ، هو إنكار لعلم الحياة بتجريده من أخص مميزاته .

فلابد إذاً ــ بعد اصطناع تحليل الظواهر ــ من إقامة التأليف الفسيولوجي للوقوف على ما تقوم به الأجزاء التي سبق عزلها من أعمال . ويجدر بنا أن نوضح ما نقصد بعبارة التأليف الفسيولوجي . فمن المسلم به عادة أن التأليف يعيد بناء ما فككه التحليل . وأن التأليف من هذه الوجهة ، متمم للتحليل ، لأنه عبارة عن تجربة مضادة ترمي إلى التحقق من صحة نتائج التحليل  وهذا التعريف لا غبار عليه مطلقاً من حيث صحته فيما يختص بعمليات تحليل المادة وتأليفها . ففي الكيمياء مثلاً نصل بالتأليف إلى تركيب الجسم من مواد مماثلة للمواد التي تتركب منها في الطبيعة ولا تختلف عنها في وزن العناصر الداخلة في تركيبه ولا في نسب تركيبها. أما في حالة تحليل خصائص الأجسام وتأليفها ، وأما إذا عمدنا إلى تأليف الظواهر الطبيعية ، فإن الأمر يزداد صعوبة ومشقة . والواقع أن خواص الأجسام لا تنتج عن الطبيعة ونسب المادة فحسب ، وإنما تنشأ كذلك من تركيب هذه المادة نفسها . وقد يحدث فوق ذلك أن الخواص التي تبدو أو تختفي في التأليف وفي التحليل لا يمكن اعتبارها مجرد زيادة أو نقصان في خواص العناصر ، ومن هذا مثلاً أن خواص الأوكسجين والهيدروجين لا تزودنا بشيء من العلم عن خواص الماء الذي ينتج من اتحادهما . إذاً لابد من القول بأن الظواهر ليست إلا تعبيراً عن العلاقات القائمة بين الأجسام . وينبغي أن ينظر الفسيولوجي والطبيب الباحث إلى الكائنات في مجموعها وتفاصيلها في وقت واحد،  دون أن تغيب عن أبصارهما الظروف الخاصة بكل الظواهر الجزئية المختلفة التي تؤدي إلى تكوين الفرد .  ومع ذلك فليست الحقائق الجزئية علمية قط ، لأن العلم  يقوم على التعميم دون سواه ، غير أن في هذه عقبة مزدوجة ينبغي تجنبها ، ذلك لأن الإسراف في الحقائق الجزئية ينافي روح العلم، كما يخلق الإسراف في التصميمات علماً مثالياً ليست بينه وبين الحقيقة العينية أية رابطة .

أحدث أقدم