مقاصد الشريعة في الفروع الفقهية محطّ نظر الفقيه النابه ، واهتمام المجتهد الواعي .
المراد بمقصود الشرع : " ما دلت الدلائل الشرعية على وجوب تحصيله والسعي في رعايته ، والاعتناء بحفظه ، ….، وذلك كمصلحة حفظ النفوس ، والعقول ، والفروج ، والأموال ، والأعراض…
ينطلق الفقهاء في المقاصد الشرعية من قاعدة أساسية هي : أن الأصل في الأحكام المعقولية لا التعبد ؛ لأنه أقرب إلى القبول ، وأبعد عن الحرج ، وفصل في هذا بعضهم فقال : إن الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد، دون التفات إلى المعاني ، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني …"([1]).
من المُسَلَّم به أن " مقاصد الشريعة قِبَلة المجتهدين ، من توجه إلى جهة منها أصاب الحق " كما قال هذا حجة الله الإمام الغزالي رحمه الله تعالى([2]) .
اختلفت المذاهب الفقهية في المقصد الشرعي من ( الوقف ) :
هل هو القربة والصدقة ، أو الهبة والعطية ؟
أو القربة والهبة مجموعة ، بمعنى أنه يصح أن يكون قربة ، كما يصح أن يكون عطية ، فهو صحيح في كل حالة منها مجموعة ؟
أولاً : القربة والصدقة:
في المذهب الحنبلي : المقصد من الوقف القربة :
فهم يشترطون : " أن يكون الوقف ( على بر ) ، وهو اسم جامع للخير ، وأصله الطاعة لله تعالى ، فلا بد من وجودها فيما لأجله الوقف ؛ إذ هو المقصود ، سواء كان الوقف ( من مسلم ، أو ذمي ) … "([3]) ، كما " ( يصح ) الوقف (على ذمي) معين ( غير قريبه ) ولو من مسلم لجواز صلته …"([4]) .
في ضوء هذا الشرط أخرج الحنابلة صراحة ضمن من لا يصح الوقف عليهم : "طائفة الأغنياء "([5]).
ثانياً : العطية والهبة .
مذهب المالكية :
يعد الوقف عند المالكية من العطايا والهبات ، لا من باب الصدقات ، ولا يتنافى هذا من اعتبار بعضه من القربات ، بل من أحسن القربات ، كما تقدم هذا آنفاً ؛ لذا فإنه لا يشترط لديهم لصحة الوقف القربة ، فيصح الوقف عندهم على الغني، والذمي :
يذكر العلامة عبد الباقي الزرقاني هذا صراحة في شرحه على متن سيدي خليل قائلاً:
" (و) صح وقف من مسلم على( ذمي) أي تحت ذمتنا ، وإن لم يكن له كتاب … ( وإن لم تظهر قربة ) كعلى أغنيائهم ، ؛ لأن الوقف من باب العطايا والهبات ، لا من باب الصدقات .
وجاز أيضاً لصلة رحم ، وإلا كره .
فالوقف على أغنياء المسلمين دون فقرائهم ، أو على ذي حاجة دون مضطر صحيح ، وهو من فعل الخير في الجملة …"([6]) .
" وفي نوازل ابن الحاج :
من حبس على مساكين اليهود والنصارى جاز لقوله تعالى ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً ، وأسيراً ) ( سورة الإنسان ، آية رقم 8 ) ولايكون الأسير إلا مشركاً …"([7])
ثالثاً: القربة والعطية جميعاً.
ذهب إلى هذا الحنفية والشافعية وأنه يجمع بين الأمرين : القربة ، والعطية.
فقد ورد في التعريف السابق للوقف عند الحنفية العبارة التالية :
" التصدق بمنفعة العين ، أو صرف منفعتها إلى من أحب " بما يفيد التوسع في أغراض الوقف ليصح ما يكون منه قربة ، أو مجاملة وتودداً ، وهو ما ورد التصريح به في العبارة التالية :
" وإنما قلنا : ( أو صرف منفعتها …) ؛ لأن الوقف يصح لمن يحب من الأغنياء بلا قصد القربة ، وهو وإن كان لابد في آخره من القربة بشرط التأبيد ، وهو كذلك ، كالفقراء ، ومصالح المساجد ، لكنه يكون وقفاً قبل انقراض الأغنياء بلا قصد …"([8])
وكذلك المذهب عند الشافعية في الأصح فقد ورد ذكر التالي :
" وإن وقف على مسلم ، أو ذمي ( على جهة معصية كعمارة ) نحو الكنائس المقصودة للتعبد ، وترميمها …( فباطل ) ، ( أو ) على ( جهة قربة كالفقراء ، والعلماء صح ، أو على جهة لاتظهر فيها القربة كالأغنياء صح في الأصح ) كما يجوز بل تسن الصدقة عليهم .
فالمراعى انتفاء المعصية عن الجهة فقط ؛ نظراً إلى أن الوقف تمليك كالوصية ، فمن ثم استحسنا بطلانه على أهل الذمة والفساق ؛ لأنه إعانة على معصية …"([9])
أثمر هذا الاختلاف في المقصد الشرعي الأساس بين المذاهب صوراً إيجابية في التوسع في أغراض الأوقاف([10]) ؛ إذ ليس بالضرورة لصحته أن يتعين قصد القربة ، ولكن يكفي في صحته خلوه من المخالفات الشرعية ، فتوسعت في الماضي توسعاً عظيماً ، فمن ثم أدى الوقف بجميع أقسامه الخيري ، والذري ، والمشترك بينهما خدمات جليلة كانت مصدر خير للأفراد والمجتمع عبر عصور الازدهار والانحطاط على السواء ، وتحقق من خلاله للمجتمع الإسلامي المقاصد الشرعية الكلية الثلاثة :
الضرورية - والحاجية - والتحسينية
في مختلف الأزمنة والأمكنة على مستوى العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه ، ولجميع طبقات أفراد المجتمع.
هذا الشمول في المقاصد قد لا يتوافر في قربة أخرى .
حقق الوقف في الماضي الكثير من المقاصد الضرورية، متمثلة في إقامة المصحات ، والمستشفيات، وإقامة سبل الماء في المدن ، والقرى ، ونشرها على طرق المسافرين ، ولا أدلَّ على هذا من الآثار الباقية من البرك والسبل المنتشرة على الطرق المؤدية إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج .
ومما يحقق مقصداً ضرورياً مُلِحاً في الوقت الحاضر إنشاء مراكز البحوث والإنفاق عليها لتقوم بالدراسات التي تعين على حفظ ضرورة من الضرورات الخمس :
العقل: بمثل بناء المصحات النفسية ، أو تمويل البحوث التي تقضي على بعض الأخطار من الأمراض الجسمية كالإيدز ، أو تمويل البحوث والدراسات الشرعية والإنسانية، وتنشيط حركة التأليف فيها ، وكإقامة المشاريع ، أو المصانع التي تهيئ لشباب الأمة الرزق الحلال في يسر واطمئنان ، وغيرها من الأمور التي تلبي مطلباً ضرورياً ، وتوفر للأمة حياة رخية سعيدة آمنة يتحقق بها عَمَار الدنيا وصلاحِها .
الوقف الخيري في جميع أشكاله وضروبه يتحسس ضروريات المجتمع وحاجاته، يحقق آماله ، ويكفكف آلامه سواء في هذا المسلمون وغيرهم ممن يستظل بظله ، فإنه يسمح أن يكون للذميين نصيب من الاستفادة منه ، لا يمنع المتبرع به منهم سواء لبني ملتـه ، أو لأحد من المسلمين دون تمييز في الأخذ ، أو العطاء لتحقيق ما فيه مصلحة دنيوية ؛فقد ورد النص بأنه لا مانع من :
قبول الهبات والعطايا من الكفار " لبناء الطرق ، وإصلاح الأنهار ، وبناء المستشفيات ، وعلاج المرضى ، وتسبيل الماء "([11])
وكما يصح تبرع الذمي فإنه يصح الوقف " من مسلم على ذمي معين متحد ، أو متعدد ، كما يجوز التصدق عليه ، ما لم يظهر في تعيينه قصد معصية "([12])
كما حقق الوقف في الماضي المقاصد الحاجية للمجتمع الإسلامي بما يخفف به العبء والمشقة عن فئة من فئاته ،كبناء دور للعجزة والمحتاجين ، ، أو بناء دور للأيتام ، والأرامل ، وغير ذلك مما يخفف عن طبقة منهم عناء الحياة وتكاليفها: كإنشاء وقف يخصص دخله منحاً لطلاب العلم الفقراء لإكمال دراساتهم ، وقضاء حوائجهم ، كانت المدارس في الماضي تبنى ويبنى معها سكن الطلاب وتقديم ما يحتاجون إليه في دراساتهم وأمور معاشهم .
مقاصد الوقف في تاريخ الأمة الإسلامية لم تتوقف ، ولا تتوقف عند هذين المقصدين فقد يكون الوقف محققاً مقصداً تحسينياً تكميلياً كتحسين مرفق من المرافق العامة ، أو صيانتها للحفاظ عليها، أو إيجاد وسائل من شأنها أن تظهر الأمة بالمظهر اللائق بها أمام غيرها من الأمم .
هذا التقسيم للوقف من حيث مقاصده ، قسمه الفقهاء تقسيماً آخر باعتبار الجهة الموقوف عليها بحيث يمكن أن يتضمن كل قسم مقصداً أو أكثر من تلك المقاصد :
القسم الأول : الخيري :
" وهو الوقف على جهات البرّ ، كالفقراء ، والمساكين ، والمساجد ، وما إلى ذلك "([13])
وهو بالأصالة " … يستهدف تحقيق مصلحة عامة ، كالوقف على المساجد، ودور العلم ، وعلى العلماء ، والفقراء ، والمستشفيات ، ويسمى هذا النوع من الوقف أيضاً بالوقف المؤبد ، أو المطلق ؛ لكون مصرفه دائماً في جميع أدواره عائداً على الجهة التي سماها الوقف في حدود الجواز الشرعي .
وقيل إن الوقف الخيري هو : ما جُعل ابتداءً على جهة من جهات البرّ ، ولو لمدة معينة يكون بعدها على شخص ، أو أشخاص معينين فإذا وقف إنسان داره لينفق غلتها على المحتاجين من أهل بلده كان الوقف خيرياً "([14]) .
هذا القسم من الأوقاف يوفر للأمة المرافق الضرورية ، والحاجية ،والتحسينية تبعاً لقصد الواقف ومقدار حاجة المجتمع للمرفق الموقوف عليه .
القسم الثاني : الأهلي:
" وهو ماجعل أول الأمر على معين سواء كان واحداً ، أو أكثر .
وهو يستهدف تحقيق مصلحة خاصة كالوقف على الذرية ، والأقارب .
ويسمى هذا النوع من الوقف بالوقف : المؤقت ، والتوقيت هنا وصف حقيقي للوقف ، يعني أنه إذا انتهى الأجـل المضروب للوقف ، أو مات الموقوف عليه ، أو عليهم انتهى الوقف بذلك، وعاد الموقوف ملكاً للواقف إن كان حياً ، أو لوارثه وقت وفاته إن كان ميتاً "([15]) حيث يحافظ على كيان الأسرة ، ويحقق لأجيالها القادمة ما يعينها على نوائب الدهر ، وأزماته .
([1]) أبو سليمان ، عبد الوهاب ، منهج البحث في الفقه الإسلامي خصائصه ونقائصه ، الطبعة الأولى ، ( مكة المكرمة : المكتبة المكية ، عام 1416 / 1996) ص91 . ؛ وانظر : فخر الدين الرازي ، الكاشف عن أصول الدلائل وفصول العلل ، ص53 . ؛ المقري ، أبو عبدالله محمد بن أجمد ، تحقيق : أحمد بن حميد ، القواعد ، ج 1 ، ص 296 .
([2]) السيوطي ، جلال الدين عبد الرحمن ، الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض ، الطبعة الأولى تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد ، ( الاسكندرية : مؤسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر والتوزيع ، عام 1405 / 1985 ) ص 182 .
([3]) البهوتي ، كشاف القناع ، ج 4 ، ص 247 .
([4]) البهوتي ، كشاف القناع ، ج 4 ، ص246 .
([5]) كشاف القناع ، ج 4 ، ص 247 .
([6]) شرح الزرقاني على مختصر خليل ، ج 7 ، ص 76 .
([7]) المواق ، أبو عبد الله محمد بن يوسف ، التاج والإكليل لمختصر خليل ، ( بيروت : المكتبة العلمية ، عام 1416 / 1995 ) ، ج 7 ، ص 633 .
([8]) الشلبي ، شهاب الدين أحمد ، حاشية على تبيين الحقائق ، ج 3 ، ص 324 .
([9]) الرملي ، شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة ، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ، الطبعة الأخيرة ( مصر : شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، عام 1386 / 1967 ) ، ج 5 ، ص 368 .
([10]) كما أثمر هذا الاختلاف في المقصد الشرعي الأساس من الوقف بين المذاهب الفقهية اختلافاً في الأحكام الفقهية ليس هذا المكان المناسب لعرضها.
([11]) انظر : الزرقاني ، شرح الزرقاني على مختصر خليل ، ج 1 ، ص 77 .
([12]) الهيتمي ، ابن حجر المكي ، تحفة المحتاج بشرح المنهاج ، ج6 ، ص244.
([13]) بيان من العلماء ، حكم الشريعة الإسلامية في الوقف الخيري والأهلي ،( مكة المكرمة : المطبعة السلفية ومكتبتها ، عام 1346هـ ) ، ص 5 .
([14]) الخالد ، محمد عبد الرحيم ، أحكام الوقف على الذرية في الشريعة الإسلامية ،دراسة مقارنة مع التطبيق القضائي في المملكة العربية السعودية ، ( مكة المكرمة : مطابع الصفا عام 1416 / 1996 ) ، ج1 ،ص232 .
([15]) الخالد ، محمد عبد الرحيم ، أحكام الوقف على الذرية ، ج 1 ، ص233 . ؛ وانظر : بافقيه، طلال عمر ، الوقف الأهلي ، الطبعة الأولى ، دار الثقافة الإسلامية ، عام 1419/ 1998 ) ص 59 .