القيم الإنسانية والمثل النبيلة عند العرب في العصر الجاهلية
       تغنى الشعراء الجاهليون بقيمهم الإنسانية ، ومثلهم النبيلة ، وصدحوا بها ، وهم على صهوات جيادهم ، يحملون سيوفهم في ساحات البطولة . فالفروسية عند هؤلاء الأبطال ضرب من الأخلاق الرفيعة . وقد حدد نوري القيسي مفهوم الفروسية في العصر الجاهلي بأنها " البطولة في الحرب ،والبلاء في المعركة ، والعفة عند توزيع الغنائم . وإطعام الضيف ، والذود عن المرأة ، وتلبية دعوة المستغيث ، واستجابة لصرخة المنادي ، إلى غير ذلك مما تستوجبه النخوة ، ويتطلبه الشعور الإنساني ( ) " .
       ورأى شوقي ضيف " أن الفروسية الجاهلية بعثت في نفوس أصحابها ضربا من التسامي والإحساس بالمروءة الكاملة ، فإذا هم يتغنون بمجموعة من الفضائل ، والخصال الحميدة . واقرأ فيهم فتراهم يتحدثون عن كرمهم الفياض ، ووفائهم ، وحلمهم ،وأنفتهم ، وعزتهم ، وصبرهم على الشدائد ، وتحمل المشاق ، وحماية الجار ( ) " .
       وهذه القيم الإنسانية ، والمثل النبيلة ، التي تغنى بها الشعراء الجاهليون تجاوزت نطاق العصر الجاهلي ، وظلت محتفظة بحيويتها حتى عصرنا الحاضر ، فقد تغنى أولئك الأبطال بهذه القيم ، ورتلوها لحنا شعريا خالدا ، عبروا في أشعارهم عن الفطرة السوية التي فطر عليها الإنسان العربي في كل زمان ومكان .
ومن هذه القيم :
الشجاعة :
       لقد قدّم لنا الشعر صورة عن المجتمع الجاهلي الذي كان يرفع من شأن القيم الخلقية ويحض عليها ، ويرينا الشعراء أن الشجاعة كانت أبرز تلك القيم ، لما لها من أثر في حياة الإنسان العربي ومعاشه ؛ ذلك أن حياة البادية التي عاش فيها تطلبت منه قوة في مجابهة عداء القبائل الأخرى ، التي ما فتئت تغير عليه ، وتغزو قبيلته ، كما تطلبت منه قوة في مواجهة طبيعة صحراوية جافة .
       وقد حفل الشعر الجاهلي بصور الشجاعة وضروبها المختلفة ، وأبرز مدى اهتمام الإنسان العربي بها ، ومدى سعيه للتحلي بأسبابها ، ولا يكاد غرض من أغراضه يخلو من تمجيد لهذه القيمة وإعلاء لمكانتها ، ولا سيما في غرض الحماسة ، الذي يعد أكثر الأغراض دورانا في القصيدة الجاهلية .
وتقترن قيمة الشجاعة الخلقية لدى بعض الشعراء بالثباث والصبر والجلد في المعارك والحروب ، كما تقترن برفض الهزيمة والاستسلام ، وما فيها من عار وخذلان ،يجعلان الموت أفضل من الوقوع بهما ، وقد عبر عدي بن رعلاء الغساني عن ذلك أصدق تعبير ، فقال ( ) :
رفعـوا راية  الضراب وآلوا             ليـذودن  سامـر الملحـاء
فصبرن النفوس  للطعن حتى             جرت الخيل بيننا في  الدماء
ليس من مات  فاستراح بميت             إنما الميـت ميـت  الأحياء
إنما  الميت من  يعيـش ذليلا            سيئا  بالـه قليـل الرجـاء
ويصور لنا الشعراء أن الجاهليين كانوا يرون الشجاعة تكون في المبادرة إلى الهجوم ومباغتة الأعداء ،ويفضل أن يكون ذلك في بداية النهار ، لأن القوم في ذلك الحين غير متأهبين ، ولا مستعدين للمعركة والقتال .
فمن ذلك ما وصف به عامر بن الطفيل قومه الذين اعتادوا أن يفاجئوا أعداءهم مصبحين ، ثم يصدروا عنهم منتصرين ،وقال ( ) :
ونحـن صبحنا حي أسماء بالقنا          ونحن تركنا حي مرة مأتما
ونحن صبحنا حي نجران غارة           تبيل حبالاها مخافتنا دمـا
ونبه الشعراء ، أيضا إلى أن شجاعة القبيلة تظهر في استعدادها ، وتأهبها دائما للقتال ، فتظل مترقبة لغارة الأعداء عليها ، متوفزة لسماع صرخة الحرب في كل حين ، فلا يفجؤها عدو ، ولا يأخذها غزو على حين غرة ، وهذا ما كان من شأن قوم امرئ القيس بن عمرو حين صبحهم بنو تميم بجيش عرمرم ، يريدون مباغتتهم والإطباق عليهم ، قبل أن يأخذوا للحرب عدتها ، بيد أن أملهم خاب ، وأمنيتهم تلاشت ؛ إذ وجدوا القوم قد هبوا للقتال كالليوث ،وبادروا إلى المعركة بقلوب جريئة ، وذلك ما كان له الأثر الأكبر في انتصارهم ودحر أعدائهم ،الذين خلفوا وراءهم كثيرا من القتلى والجرحى ، وكثيرا من الأسرى والسبايا ، فضلا عن الأسلاب والغنائم وقد صور امرؤ القيس ذلك كله في قوله ( ) :
أتتنـا تميـم  قضهـا بقضيضها  ومن سـار من ألفافهم  وتأشبـوا
برجراجة لاينفد الطرف عرضها   لها زجـل قـد احـزأل وملحـب
فلما رأينـاهم  كـأن زهاءهـم           على الأرض إصباحا سواد وغرب
سمونا لهم بالخيل  تردي كأنهـا          سعال ، وعقبان اللوى حين تركب
ضوامر أمثال القـداح  يكرهـا    على الموت أبناء الحروب فتحرب
فقالوا الصبوح عند أول  وهلـة          فقلنا لهم  أهـل تميـم ومرحـب
ألـم تعلمـوا أنـا نـرد عدونا           إذا احشوشدوا في جمعهـم وتألبوا
بضرب يفض الهام شـدة  وقعه          ووخز ترى منه الترائـب تشخب
فلاقوا مصاعا من أناس كأنهـم          أسود العرين  صادقـا لا يكـذب
فلم تر منهم غير كاب  لوجهـه          وآخـر مغلـول وآخـر يهـرب
وفاء لنا منهـم  نسـاء  كأنهـا          بوجـرة والسـلان  عين وربرب
ونحن قتلنا عامـرا وابن أمه             ووافاهما  يـوم شتيـم عصبصب
وغودر فيها ابنا رياح وحبتر             تنوشهــم طيـر عتـاق وأذؤب
بيد أن الشعراء ألمحوا إلى أن قيمة الشجاعة الخلقية تظهر جليّة لدى القبيلة المنتصرة حين تتوقف عن القتل والإفراط فيه ، وتكتفي بما حازت من غنيمة ، وبما أسرت من رجال ، وسبتْ من نساء ،ولا يكون هدفها من الأسر والسبي إلا طلب الفداء للإفراج عنهم ،بل قد تدفعها أخلاقها إلى إطلاق سراحهم دون فداء ، مكتفية بما تخلفه في نفوسهم من أثر طيب ، ويد محمودة .
وآية ذلك ما صوره لنا عوف بن عطية من شجاعة قومه التي برزت في انتصارهم على الأعداء ،وفي اكتفائهم بمن قتلوا في أثناء المعركة ، ورغبتهم في اسر الفرسان بغية الحصول على فدائهم ، فضلا عن إطلاقهم لعدد كبير بعد أسرهم كرما ونبلا وشهامة ، يقول ( ) :
ولنعم فتيان  الصباح لقيتــم             وإذا  النسـاء  حواسر  كالعنقـر
من بين واضعة الخمار وأختها            تسعى  ومنطقها  مكان  المئـزر
ونكر أولاهم على  أخراهــم            كر المحلأ عن خـلاط المصـدر
فهـم ثلاثـة أفرقاء فسابــح           في الرمح يعثر في النجيع الأحمر
ومكبل يفدى بوافـر  مالــه            إن كان صاحب  هجمة  أو أيصر
أو بين ممنون عليه وقومــه            إن كان شاكرها  وإن لـم يشكـر
2- الإباء ورفض الذل :
       الرفض والإباء وعدم الرضوخ معطيات إنسانية كريمة ، ومظاهر حية لجوهر البطولة في العصر الجاهلي . وأصوات الشعراء تشكل تيارا رافضا يجوب الجزيرة ، وينتقل من خلال التحديات الاقتصادية التي كانت تريد فرضها دولة المناذرة ، بكتائب النعمان : الدوسر والشهباء ، وعبر الأشكال التعسفية المتمثلة بأنواع الضرائب التي كانت تجبى من القبائل المتاخمة لهذه الدولة .
       وقد انتهج الشعراء الجاهليون الواقعية الثّوريّة في مجابهة هذه التحديات ، وكانت الردود الرافضة تستمد قوتها من قوة الأمة ، وعلو إبائها ، وقدرتها على المقاومة ، وقد لمعت مجموعة من شعراء الجاهلية في سماء الأدب العربي منها :
جابر بن حني التغلبي ، والمرقش الأكبر ، ويزيد بن الحذاق ، والممزق العبدي ، وعمرو بن كلثوم ، والحارث بن ظالم المري ، وطرفة بن العبد البكري ، والمتلمس . فالجور الذي لحق ببعض القبائل جراء إرهاقها بالضرائب الثقيلة ، والإتاوات الباهظة ، التي كانت تؤخذ قسرا حملت الناس على التعبير عن ظاهرة الشعور بهذه المظالم . وقد تمكن الشعراء من الإفصاح بأسلوب عنيف ، وباباء شامخ ، وتهديد جريء عن هذه المشاعر . وقد وجدوا في ماضيهم الأصيل ، ومجدهم القبلي مرتكزا يستندون إليه في الافتخار والرد .
       ويمثل هذه الظاهرة جابر بن حني التغلبي ، إذ يقول ( ) :
       ويوما لدى الحشار من  يلو حقـه يبزبـز وينـزع ثوبـه ويلطـم
       وفي كـل أسـواق العراق  إتاوة  وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
       نعاطي الملوك السلم ما قصدوا بنا  وليـس علينـا قتلهـم بمحـرم
ويزيد بن الحذاق يهجو النعمان بن المنذر ،ويتوعده ، ويفخر بقومه واستعصائهم على مَنْ يبغيهم الذل والخسف ، فيقول ( ) :
       نعمان  إنك خائـن خـدع         يخفى ضميرك غير ما تبدي
       فإذا بدا لـك نحـت  أثلتنا         فعليكهـا إن  كنـت ذا حرد
       يأبى لنـا أنـا ذوو أنـف         وأصولنا من  محتـد  المجد
       إن تغـز  بالخرقاء أسرتنا         تلق الكتائب  دوننـا تـردي
       أحسبتنـا  لحما على وضم        أم خلتنا في البأس  لا  نجدي
       وهززت سيفك كي تحاربنا         فانظر بسيفك مـن  به تردى
ويثور مرة أخرى في وجه النعمان ، ويوجه إنذارا لبيت الملك ، ويدعوهم إلى ان يعدلوا في الحكم ، كي لا يعرضوا أنفسهم للشر ، ويخاطب ابن المعلى ، أحد المكلفين بجمع الضرائب ،في أمر المكوس التي سيأخذها منهم ، ونوه باستعداد قومه ، وتحفزهم ،فيقول ( ) :
       أقيموا بني النعمان عنا صدوركم          وإلا تقيموا كارهيـن الرؤوسـا
       أكـل لئيـم منكـم ومعلهــج           يعـد  علينـا غـارة فخبـوسا
       ألا ابن المعلى خلتنا  وحسبتنـا           صراري نعطي الماكسين مكوسا
       فإن تبعثوا عينا تمنـى  لقاءنـا          تجد حـول أبياتي الجميع جلوسا
أما المرقش الأكبر فكانت صرخته بوجه المنذر قوية جدا ، وقد أبدى أمامه من الجرأة والقدرة ما يثبت قوته ، وبين له أنه لا يكترث بظلمه ، وأشاد بإبائه وشجاعته وعدم استسلامه ، فقال ( ) :
       أبلغـا المنـذر  المنقب عني             غير مستعتب ولا مستعـين
       لات هنا وليتني  طـرف الز             ج وأهلي بالشام ذات القرون
       بامرئ ما فعلت  عف يؤوس             صدقته المنى لعوض  الحين
       غير مستسلم إذا اعتصر العا       جز بالسكت في ظلال الهون
       يعمل البازل  المجدة بالرحـــــل     تشكى النجاد بعـد  الحزون
       بفتى ناحـف  وأمـر أحـذ       وحسام كالملح طوع  اليمين
وكان الحارث بن ظالم المري ، أحد سراة بني مرة ، وأشرافهم ، فاتكا جريئا . فتك بخالد بن جعفر الكلابي ، وهو نازل على النعمان بن المنذر ، بل فتك بابن النعمان نفسه ، وكان في حجر أخته سلمى .
       وما أروع موقفه في قصيدته ،وهو يخاطب النعمان ، ويتهدده بالقتل … وإن الشاعر هنا ليثور لجيران له أصابهم شر الملك ، في إبلهم وأموالهم ، وأنفسهم( ) …  ويقسم أنه لولا ما يتحجب به الملك من الحراس لمزقه بسيفه الصارخ، واستمع إلى صوت الحارث المدوي في أذن النعمان ( ) :
       قفا فاسمعا  أخبركما إذ  سألتمـا   محـارب مولاه  وثكلان  نادم
       فأقسم لولا  من  تعرض  دونـه   لخالطه صافي  الحديدة  صارم
       حسبت أبا قابوس أنـك  سـالم           ولما تصـب ذلا  وأنفك  راغم
       فإن تك أذواد  أصبن  وصبيـة          فهذا ابن سـلمى  رأسه  متفاقم
       علوت بذي الحيات مفرق  رأسه          وهل يركب المكروه إلا الأكارم
       فتكـت بـه كمـا فتكت  بخالد           وكان سلاحـي تجتويه الجماجم
       أخصيي حمار بات يكدم نجمـة          أتأكـل جيرانـي وجارك  سالم
       بدأت بهذي  ثم أثـني بهــذه           وثالـثة تبـيض منـها  المقادم
أما المتلمس  الضبعي فقد ارتفع صوته عاليا في وجه عمرو بن هند ،وأخذ يحرض قومه على عصيان الملك ، وترك طاعته ، ويضرب لهم مثلا بالإباء ببكر بن وائل، إذ سامهم كليب خسفا ، فقتلوه ، وكان سيدهم ، ويقول لهم : لا تكونوا كعبد القيس غزاهم عمرو بن هند ، فأصاب فيهم ، فلم يدافعوا عن أنفسهم ،  وأموالهم ، فقال ( )
       إن الهـوان حمار  القوم يعرفه           والحر ينكره والرسلـة الأجـد
       كونوا كبكر كما قد  كـان أولكم          ولا تكونوا كعبد القيس إذ قعدوا
       يعطون ما سئلوا والخط منزلهم            كما أكب على ذي بطـنه الفهد
       ولن يقيـم على خسف يسام به           إلا الأذلان : عير الحي  والوتد
وشعره هادر بالغضب ، عنيف في تقريع قومه المستكينين لطغيان الملك … ويعد وثيقة على شدة الإباء الفردي لدى العربي في عصر كانت القبائلية الجماعية هي السائدة ، فقد أخرج الشاعر نفسه من قبيلته ، ووضع فرديته ضد سلطان الملك فناضل من أجل الكرامة ( ) .
والمثقب العبدي  يدخل مع عمرو بن هند في حوار أو عتاب يتميز بالقسوة ، يريد من خلاله أن يقف على حقيقة الصداقة والعداوة ، وكأنه يصر على تبين حقيقة موقف الملك من قومه العبديين فقال ( ) :
       إلى عمرو ومن عمرو أتتني              أخي النجدات والحلم الرصين
       فإمـا أن تكـون أخي بحق        فأعرف  منك غثي أو سميني
       وإلا  فاطرحني  واتخذنـي        عـدوا  أتقيـك و تـتقينـي

وعمرو بن كلثوم التغلبي يصور لنا في معلقته الإنسان الجاهلي بأوضح صوره ، وأبرز سماته ، وأعز قيمه ، يبدو لنا ابن كلثوم من بين جحافل الشعراء القدامى ، وهو أعزهم نفسا ، وأكبرهم امتناعا ، وأشدهم في مقارعة الخصوم ، والملوك الجبابرة ، وأصلبهم عودا في الوقوف أما الطغاة المستبدين . وهو بذلك يمثل لنا العربي بكل إبائه ، ويصوره لنا بكل عزته ومنعته ( ) .
       ومعروف عن دافع النظم ما كان من شأن ليلى ، أم عمرو بن كلثوم ، حين نادت بأعلى صوتها ، واذلاه لتغلب … فكانت الواقعة بمثابة تعبير أو إهانة ، مثلت دافعا حارا ، انطلق منه عمرو بن كلثوم لينتقم من خلاله لكرامة المرأة العربية في شخص أمه ( ) . وقد سجل هذا كله في معلقته التي تعد " النشيد القومي" لتغلب ، فاستمع إلى صوته ( ) :
       بأي مشيئة عمرو بن هند          نـكون  لقيلكم  فيها  قطينا
       بأي مشيئة عمرو بن هند          تطيع بنـا الوشاة وتزدرينا
       تهددنا وتوعـدنا رويـدا          متى كنـا  لأمـك  مقتوينا
       فإن قناتنا يا عمرو أعيت          على الأعداء قبلك أن  تلينا
       إلى أن يقول :
       إذا ما الملك سام الناس خسفا              أبينـا أن نقـر الـذل فينا
       إذا بلـغ الفطـام  لنا صبي        تخر لـه الجبابر  ساجدينا
3- الوفاء :
       كان العرب في عصر ما قبل الإسلام يقدرون الوفاء بالعهد ، وكان هذا الخلق الكريم فيهم كالعقيدة ، يرون التحلل منه إثما وجرما في حق الشرف والأخلاق ، فهم كثيرا ما يحتاجون إلى الاحتماء بالجوار ، أو النصرة بالحلف ، وهم " قوم رحل ، ليس لهم حكومة منظمة ، ولا قوانين مرسومة ، ولا قوة منفذه ، ولا محاكم ولا شرطة ، ولذلك كانت كلمة الشرف ، والوعد الصادق ، هي القانون الذي يقدسه كل عربي ، ويحرص على احترامه والخضوع له ، حرصا على مصلحته الخاصة ، وعلى العدالة العامة في المجتمع ( )  " .
       فإذا وعد أحدهم وعدا أوفى به ، وأوفت معه قبيلته ، حتى لا يعرف بالغدر، وفي ذلك سبة الدهر ، وعار الأبد .
       والحديث عن وفاء العربي في ذلك العصر يطول الحديث عنه ، بيد أنني سأكتفي ببعض من ضرب المثل بوفائه ، ومنهم السموأل ، الذي أبى أن يسلم الحارث بن أبي شمر الغساني دروع امرئ القيس التي أودعها عنده ، وتحصّن في قصره بتيماء ، فهدده الحارث بقتل ابن له ، فلم يزد ذلك السموأل إلا إصرارا ، فضرب الحارث " وسط " الغلام بالسيف ، وفي ذلك يقول السموأل :
       وفيت بذمة الكندي اني                   إذا ما ذم أقوام " وفيت "
وقد امتدح الأعشى وفاء السموأل ، فقال ( ) :
كن كالسموأل إذ سار الهمام له            في جحفل كسواد الليل جـرار
       جار ابن حيا لمن نالتـه  ذمته            أوفى وأمنع من جار ابن عمار
       بالأبلق الفرد من  تيماء  منزله            حصن حصين وجار غير غدار
       إذ سامه خطتي خسف فقال له:           اذبح هديك إني مانـع   جاري
إلى أن يقول :
فقـال تقـدمـة إذ قـام  يقتلـه       أشرف سموأل فانظر للدم الجاري
فشك أوداجه والصدر في مضض      عليه منطـويا كـاللـذع  بالنـار
واختار أدراعه أن لا يسب  بهـا      ولم  يـكن عهـده  فـيها بختـار
وقال: لاأشتري عـارا بمكرمـة      فاختـار  مكرمة الدنيا  على  العار
موقف الباحثين من وفاء السموأل :
       ذهب جورجي زيدان إلى التشكيك في هذه القصة ، ورأى " أنها قصة موضوعة ، أو موسع فيها لتمثيل الوفاء ( ) . أما إبراهيم طوقان فقد ألقى في الإذاعة الفلسطينية عام 1937 حديثا طريفا ، عنوانه " حقيقة وفاء السموأل " ، فسر وفاء السموأل تفسيرا جديدا أحدث ضجة عارمة في أوساط اليهود حين قال : إن السموأل افتدى الأدرع بابنه حرصا منه على المال الذي آثره على وحيده : أو ليس السموأل يهوديا : أو ليس حب المال صفة خاصة تميز بها اليهود منذ القدم ( ) .
       ومن الباحثين من دعا إلى قبول هذه القصة ، لأن السموأل وإن  كان قد خالف غدر أهل دينه ، إلا أنه وفى بعربيته ، فاختار الوفاء ، وأسلم ابنه للقتل (  ) .
       وقصة وفاء هانئ بن مسعود الشيباني لودائع النعمان معروفة ، وقد أدى وفاؤه إلى قيام الحرب بين العرب والفرس في يوم ذي قار .
       وكذلك ضرب المثل بوفاء حنظلة بن عفراء ، إذ حكم عليه المنذر بن امرئ القيس ، المعروف بابن ماء السماء بالموت ، لأنه مر بالحيرة في بعض أيام بؤسه ، فتكفل به شريك بن عمرو لمدة سنة ، إذا لم يعد بعدها قتل مكانه ،  ولما انتهى الأجل المحدد ، وأعد كل شيء لقتل شريك بن عمرو مكان حنظلة ، وأيقن القوم بهلاك شريك ، أقبل حنظلة من بعيد ، ومعه نادبته ، فتعجب المنذر من وفائه، فأطلق سراحه ، وعفا عنه ( ) .
       وقد ضرب المثل في الوفاء بقوس حاجب بن زرارة ، التي رهنها عند كسرى ، ذلك أنه أتى كسرى في جدب أصابهم ، وسأله أن يأذن له ولقومه أن يصيروا إلى ناحية من نواحي مملكته حتى ينتجعوا . فقال كسرى : إنكم معشر غدر، فإن أذنت لكم أفسدتم البلاد ، وأغرتم على الرعية ، وآذيتمونا . قال حاجب : فإنّي ضامن للملك الا يفعلوا ، قال : فمن لي بأن تفي أنت ؟ قال : أرهنك قوسي . فضحك مَنْ حوله ، فقال كسرى : ما كان ليسلمها أبدا ، وقبلها منه ، وأذن لهم ان يدخلوا الريف .
       ولما مات حاجب شخص ابنه عطارد إلى كسرى يطلب قوس أبيه ،فردوها إليه ، وكساه حلة ( ) .وإلى قوس حاجب يشير أبو تمام في قوله يمدح أبا دلف القاسم بن عيسى من بكر بن وائل ( ) :
إذا افتخرت يوما تميم بقوسها             وزادت على ما وطدت من  مناقـب
فانتم بذي قار أمالت سيوفكم       عروش الذين استرهنوا قوس حاجب

عقاب من يخرق العرف الاجتماعي :
       وإذا كان الناس في عصرنا ، عصر الدول والحكومات ، يخرقون الأنظمة، ويتطاولون على القوانين ، فقد أدركت الصفوة المثقفة الواعية في ذلك المجتمع ،أن يكون بينهم مَنْ لديه استعداد لخرق ذلك العرف الاجتماعي الذي ينظر إلى هذه المثل نظرة تقديس ، فأنزلوا بهؤلاء عقابا جعلهم هزأة مدى الدهر ، " ولقد بلغ من كراهية العربي لهؤلاء الذين يغدرون ، وينقضون المواثيق ، ولا يوفون بالعهود  أن يشهروا بهم في سوق عكاظ ، فيرفعون لهم ألوية ليعرفهم الناس بغدرهم ، فلا يعاملونهم ، ويكون هذا تأديبا لهم ، عظة لسواهم ( ) . وسماها ابن سعيد " نار العار"( ) ، توقد بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين ،جبلي مكة : أبي قبيس ، وقيقعان ، فإذا استعرت صاح موقدها : هذه غدرة فلان ، ليحذره الناس .
       واستمع إلى صوت الحادرة ( ) ، وهو يتحدى صاحبته سمية ، أن تذكر موقفا واحدا غدر فيه الذبيانيون ،ورفع لهم لواء الغدر في عكاظ :
       أسمي ويحك هل سمعت بغدرة            رفع اللواء لنا بها في مجمع

4- حماية الجار :
       والفارس العربي يحمي الضعيف ، ويدفع عنه الظلم ، ويتمثل هذا الخلق في حماية الجار ، وهو ذلك الشخص الذي ينزل بجوار آخر ، طالبا حمايته ، فإذا قبل جواره صار واحدا من أفراد أسرته ، وقبيلته ، وسمي حليفا ، أو مولى .
       وقانون الصحراء يأبى على العربي رفض الجوار ، بل انه ليغضب إذا رحل عنه جاره ، وتنازل عن حمايته له ، وكثيرا ما شبت الحرب ،وفتكت بالقبائل لأن جار قبيلة ما قد أهين ، أو اعتدي عليه ، وهذا ما وقع في حرب البسوس حين رمى كليب ناقة البسوس ،جارة جساس بسهم في ضرعها ، فما كان من جساس إلا أن قتل كليبا رغم أنه زوج أخته ( ) .
ونرى قبيلة تميم تحارب المناذرة ، يوم رحرحان ، لأن الحارث بن ظالم المري التجأ إلى بني نهشل ، بعد أن قتل شرحبيل بن الأسود ، ورفض النهشليون أن يسلموه ، وقال ضمرة بن ضمرة ( ) :
سنمنع جارا عائذا في بيوتنا        بأسيافنا حتى يؤوب مسلما
       وقد أوضح لنا الشعر الذي عرض للجوار أن ثمة أعرافا سار عليها الإنسان العربي في الجاهلية ، والتزم بها تجاه الجار ، وأهمها حمايته والدفاع عنه كأي فرد من أفراد قبيلته . ولعل الحارث بن ظالم قد عبر عن ذلك أفضل تعبير في شعره مادحا بني طيئ ، وذلك حين لجأ إليهم هربا من ملك الحيرة ، فأجاروه ، فقال ( ) :
       لعمري لقد حلت بي اليوم ناقتي           على ناصر من طيء غير خاذل
       فأصبحت جارا للمجرة فيهــم           علـى  بـاذخ يعلو يد المتطاول
       إذا أجأ لفـت علـي شعابــها    وسلمى  فأنـى أنتم من تنـاولي
ويرينا الشعر في بعض جوانبه أن القبيلة إذا ما قبلت بجوار شخص ،وجب على أبنائها أن يراعوا حقه ، فيضمنوا له الحماية ، ويكفلوا له عدم الاعتداء عليه أو على أهله وماله ، فإذا حدث من ذلك شيء كان عليهم أن يوفوا بذمتهم ، ويعوضوا جارهم ما أصابه ، أو ما فقد منه ، وإلا أضحوا عرضة للذم والهجاء . وقد نبه زهير بن أبي سلمى بني عليم على هذا الأمر ،حين بلغه أنهم أخفروا ذمة غطفاني ، كان مجاورا لهم ، فقال ( ) :
       جوار شاهد عدل عليكم            فلم يصلح لكم إلا الأداء

ويؤكد لنا الشعر أن قيمة الوفاء للجار قد ترسخت في نفوس كثير من العرب ، حتى بلغت لديهم منزلة تربو على منزلة الأهل والقوم ، فأضحت هذه النزعة الخلقية لديهم أقوى من النزعة العصبية . فمن ذلك ما ورد من أن وفاء بن زهير المازني قتل أخاه قيسا ، لأنه غدر بجار لهما ، وقضى عليه ، وقد صور ما كان من مناشدة أخيه له ، وتذكيره برابطة الدم التي تربطهما ،في قوله ( ) :
يناشدنـي قيـس قرابـة بينـنا    وسيفي بكفي وهو منجرد يسـعى
غدرت فما بيني وبـينك  ذمـة          تجيرك من سيفي ولا رحم ترعى
سأرخص عني ما فعلت بضربة           عقيم البـدي لا تكـر ولا تثـني
وإذا كانت تلك مكانة الجوار لدى الإنسان العربي ، فلا غرابة أن يعدها في شعره من أبرز المفاخر التي يزهو بها ؛ إذ تقترن لديه بالشجاعة التي تجعله قادرا على حماية الجار والوفاء له . وهذا ما عبر عنه تعبيرا واضحا حاجب بن زرارة ، مخاطبا الحارث بن ظالم في قوله ( ) :
       لعمر أبيك الخير يا حارِ إنني             لأمنع جـارا مـن كليب بن وائل
       وقد علم الحـي المعـدي أننا             على ذاك كنا في الخطوب الأوائل
       وأنا إذا ما خاف جار ظلامة       لبسنـا لـه ثوبـي وفـاء ونائل

ولا يقتصر الفخر بحماية الجار ورعايته على الفرد وحده ، وإنما يمتد ليشمل القبيلة كلها ،وليس أبعث لفخر الشاعر بقبيلته من أن تكون حريصة على مَنْ يجاورها ، أمينة على أهله وماله ،وفية له مدة جواره لها . ونجد تعبيرا عن ذلك فيما روي لقيس بن الحدادية في فخره بقومه ( ) :
       خزاعـة قومـي  فإن أفتخر             بهم يزك معتصري والنسب
       هم الرأس والناس من بعدهم        ذنابى وما الرأس مثل الذنب
       فجارهـم آمن مـن دهـره       بهم  أن يضام وأن يغتصب

وقد رسم يزيد بن حمان السكوني لوحة شعرية بديعة ، صور فيها رعاية بني شيبان للجار ، واهتمامهم بحالته النفسية ، حتى ليشعر أنه فرد منهم ، فضلا عن إحساسه بالحرية بينهم ، وهو ممتنع بهم كامتناع الوعل في رؤوس الجبال . إذ لا يستطيع أحد أن يصل إليه ، أو ينال منه ، فقال ( ) :
       إني حمدت بني شيبان إذ  خمدت   نيران قومي وفيهم شبت النار
       ومن تكرمهم في المـحل  أنـهم   لا يعلم الجار فيهم أنه الجـار
       حتى يكون عزيزا في  نفوسهـم          أو أن يبين جميعا وهو مختار
       كأنه  صدع فـي رأس شاهقـة   من دونه لعتاق الطير أوكـار

ولا غرابة بعد ذلك أن نجد الشعر يشير إلى أن الوفاء للجار قد أضحى لدى الإنسان العربي مثلا أعلى يقتدى به ، وخلقا ساميا يوصي الأب أبناءه أن يتحلّوا به  حرصا منه على بقاء مكارم الأخلاق في ذريته ، ويبدو ذلك واضحا لدى مالك بن حريم ؛ فقد تلقى عن والده حماية الجار وإكرامه ، كي يظل في جواره عزيزا ، منيع الجانب،غير مظلوم ولا مهتضم الحق ، ولا سيما إذا عزت عليه الحماية ، فقال ( ):
       وأوصاني الحريم بعز جاري              وأمنعه وليس به امتناع
       وأدفع ضيمـه  وأذود عنـه             وأمنعه إذا  امتنع المناع



قيم إنسانية في المجتمع الجاهلي
القيم الإنسانية والمثل النبيلة عند العرب في العصر الجاهلية
القيم الايجابية في العصر الجاهلي
القيم في العصر الجاهلي
القيم الجاهلية
القيم الاخلاقية في الشعر الجاهلي
الصفات الخلقية الحميدة في العصر الجاهلي
القيم الاخلاقية في العصر الجاهلي
العادات والتقاليد في العصر الجاهلي
الصفات الحميدة في العصر الجاهلي




Previous Post Next Post