الجود الكرم عند العرب في عصر الجاهلية
      إن الضيافة والجود من الفضائل الأساسية في المجتمع العربي القديم ، لذلك عدت الضيافة فضيلة بارزة لديه ، وبرزت في الشعر الجاهلي على أنها الفضيلة الأهم .
      إن الأسباب التي دعت إلى  وجود الضيافة والجود لدى القبائل البدوية متعلقة بالبيئة الخارجية ، والبنية الاجتماعية للمجتمع القبلي ، والحالة الاقتصادية ، لأن ظروف مجتمع ما هي التي تحدد فضائله وعيوبه .
      وفي شبه الجزيرة العربية لم تكن هناك قوة مركزية ، كالمؤسسات الرسمية التي تعنى بالفقراء والمحتاجين ، وإنما سادت مجتمعات قبلية كانت مستقلة ، وكان لكل مجتمع قبلي بنيته الاجتماعية الخاصة به ، لذا فإن الطبقة العليا في المجتمع القبلي تعهدت أن تساعد الفقراء ، وإلا فإنها تفقد هيبتها وقوتها لقيادة القبيلة . وقد حدد معاوية بن مالك مهمات الطبقة العليا في المجتمع القبلي ، وكان للضيافة والجود دور بارز بينها ( ) .
      نعطي العشيرة حقها وحقيقها         فيها ونغفر ذنبها  ونسود
      وإذا تحملنا العشيـرة ثقلهـا        قمنا به وإذا تعود نعـود
ويقول أيضا ( ):
      رأيت الصدع من كعب فأودى       وكان الصدع لا يعد ارتئابا
      فأمسى كعبها كعبـا  وكانـت             من الشنآن قد دعيت  كعابا
      حملت حمالة القرشـي  عنهم       ولا ظلما أردت ولا اختلابا
      أعود مثلها الحكمـاء  بعـدي             إذا ما الحق في الأشياع نابا
      سبقت بها قدامـة أو  سميـرا       ولو دعيا إلى مثـل أجـابا

دوافع اسباب الجود عند الجاهليين :
1-  كسب القوة والمكانة المرموقة :
      يصف الشعراء الجود على أنه وسيلة للحصول على القوة والمكانة المرموقة ،ولكسب الحمد والشكر .
      وهذا حاتم الطائي يذكر أنه لولا إنفاقه أمواله لما أصبح سيدا ( ) :
      يقولون لي أهلكت مالك فاقتصد            وما كنت لولا ما يقولون سيدا

      أما حبيب الأعلم الهذلي فيشير إلى دروب السيادة الشاقة ، التي تتلخص في بذل الأموال ، التي يضن بها البخيل ( ) :
      وأن السيـد المعلوم منا       يجود بما يضن بها البخيل
      وأن سيادة الأقوام فاعلم       لها صعداء مطلعها  طويل

2- فعل الخير ابتغاء وجه الله :
      ويذكر بعض ا لشعراء أحيانا دافعا دينيا عندما يذكرون أن العطاء يكون ابتغاء لله ، كقول حاتم الطائي( ) :
      ولكنّما يبغي به الله وحده      فأعط فقد أربحت في البيعة الكسبا
أما أخت النضر بن الحارث ، فتذكر إلى جانب ابتغاء الإله فعل الخير عندما تشير إلى عطاء أخيها ، قائلة ( ):
      الواهب الألف لا يبغي به بدلا       الا الإله ومعروفا بما اصطنعا

3- الاحتفاظ بالذكر الحميد، ووقاية العرض والنسب:
      يفخر الشعراء غالبا أنهم يحمون ذكرهم بجودهم ، ويطلبون من الآخرين أن يفعلوا مثيلهم ،وهكذا فإن الشاعر هو الذي يصوغ المعايير الأخلاقية للمجتمع ، ويقوم بمراقبتها :
أ- يعبر الشعراء عن دوافع حماية الذكر الحميد بالإشارة إلى أنهم يجعلون أموالهم تقي عرضهم ، وهذا حاتم الطائي يقول : " وأجعل مالي دون عرضي( ) "، " وأجعل مالي دون عرضي جنة لنفسي ( ) " ويخاطب عاذلته أن تدعه ، ليجعل ماله وقاية لعرضه قبل أن يتفرق " ( ) . والمثقب العبدي يجعل المال لعرضه جنه ( ) ، وذو الإصبع العدواني يجعل ماله " دون الدنا غرضا ( ) " والكلحبة اليربوعي يبذل ماله حماية لعرضه ( ) ، وزهير بن أبي سلمى يدلي برأيه في حكمه صائبة قائلا ( )
      ومن يلتمس حسن الثناء بماله        يصن عرضه من كل شنعاء موبق
ب- يبين بعض الشعراء أن أموالهم المعطاة تحمي أحسابهم أيضا ، فعبيد بن الأبرص يرى أن قومه يجعلون " المال جنة الأحساب( ) " وسوار بن المضرب يدافـع عن حسبـه بذبـه الـذم عن حسبه  ) والحـادرة يفتخـر بقـومـه ، فيقول ( ) :
      ونقي بآمن مالنا أحسابنا             ونجر في الهيجا الرماح وندعي
4- انفاق الأموال حتى لا تؤول إلى ورثة ، قد تكون سببا في خلافهم – كما يحدث في أيامنا أحيانا – فلا يحمدون جامعها ، الذي شقي وكد في سبيلها ، قال حاتم ( )
أهن في الذي تهوى التلاد فإنه             يصيـر إذا مـا مـت نهبا مقسمــا
ولا تشقين فيه ،فيسعـد وارث       به حين نحشى أغبر الجوف مظلمــا
يقسمه غنما ويشري كرامــه      وقد صرت في خط من الأرض أعظما
قليلا به ما يحمدنــك وارث       إذا سـاق ممـا كنـت تجمـع مغنما

وسائل هداية الضيف :
      اهتدى الأجواد إلى سبل لهداية الضيوف والمحتاجين ، ذكرها الشعراء ونظروا إليها على أنها دليل على حسن الضيافة ، وإشارة إلى الجود ، وهذه السبل هي :
1- النار :
      كان المسافرون يجوبون الصحراء الواسعة ، وإذا ما حل الظلام فإنه كان يتوجب عليهم البحث عن المأوى والقرى . وهنا يأتي دور النار التي كانت تجذبهم  وترشدهم إلى بيوت  الأجواد الذين كانوا على استعداد دائم لاستقبال الغرباء . لقد أدرك الشعراء هذه الوسيلة الهامة من وسائل هداية الضيف ، وعبروا عنها صراحة  ويأمـر حاتم الطائي غلامه أن يوقد النار ،ليضمن هداية الساري الفقير إليه ، بقوله ( ) :
      فيا موقدي ناري ارفعاها لعلها       تضيء لسار آخر الليل مقتر
وقوله أيضا ( ) :
      أوقد فإن الليل لـيل قـرّ
            والريح يا موقد ريح صرّ
      عسى يرى نارك من يمرّ
      إن جلبت ضيفنا فأنت حرّ
وواضح أن الشاعر ينادي غلامه أن يوقد النار ، لأن الليلة باردة والريح عاتية ، فلعل أحد التّائهين يشاهدها ، فيأوي إليها . وما أحلاها من مكافأة لهذا الغلام ، إذا جذبت النار محتاجا ،إنها نيله الحرية .
      لقد حرص الأجواد على ايقاد النار على المرتفعات ، لتكون واضحة ، فتشاهد من بعيد ، وهذا الأعشى يذكر نار المحلق التي أوقدها على المرتفعات ( ) :
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة       إلى ضوء نار في يفاع  تحرق
تشـب  لمقرورين يصطليانها       وبات على النار الندى والمحلق

والمثقب العبدي يعرض علينا مشهدا مؤثرا لسار ، ضل الطريق ليلا ، فأعياه السفر وأضناه . وكانت نار الشاعر هاديا له … فلقيه مرحبا به ، باشا في وجهه ، وينهض بواجب الضيافة ، فينتقي من إبله أفضلها ، فيعقرها ، ويقدمها طعاما لضيفه ( ) :
وسار تعناه المبيـت فـلم يدع      له طامس الظلماء والليـل  مذهبا
رأى ضوء نار من بعيد فخالها      لقد أكذبته  النفس بل راء ، كوكبا
فلمـا استبـان أنهـا  آنسـية      وصدق  ظنا بعدمـا كـان كذبـا
رفعت له بالكف نـارا تشبهـا            شآمية نكباء أو عـاصف  صبـا
وقلت ارفعاها بالصعيد كفى بها            منـاد لســار ليلـة إن  تأويـا
فلمـا أتانـي والسمـاء تبلـه      فلقيته : أهـلا  وسهـلا  ومرحبا
وقمت إلى البرك الهواجد فاتقت            بكوماء لم يذهب بها  الني   مذهبا
فرحبت أعلىالجنب منها بطعنة            دعت مستكن  الجوف حتى تصببا
تسامى نبات الغلي في حجراتها            تسامي عتاق الخيل وردا وأشهبـا

وقد أشار بعض اللغويين إلى مسألة إيقاد النار بالمواد طيبة الرائحة ، كالبطليوسي، الذي يرى ( ) " أن الشعراء إذا أرادوا مدح موقد النار وصفوه  بأنه يوقدها بالقطر والمندل والغار ، ونحوها من الطيب " ، كقول عدي بن زيد ( ):
      يا لبينى أوقدي النارا          إن من تهوين قد حارا
      رب نار بت أرمقها           تقضم الهندي والغارا

ولعل في قول الآلوسي ( ) من أنهم أوقدوا النار بالنبات الطيب ، " ليهتدي إليها العميان " جانبا من الصواب . أما الحوفي ( ) فلا يرضى بتفسير الآلوسي ، ويرى الأمر "أنه نوع من الترف ، وإظهار المقدرة ، والتباهي بالثراء ، ورغبة في أن يشموا هم رائحته الطيبة " .

2- نبح الكلاب :
      نبح الكلاب وسيلة أخرى لتدل الغرباء على الطريق إلى الأجواد المضيفين في الصحراء . فإذا لم يستطع الإنسان أن يرى نار الأجواد ، ولم يعرف الطريق إليهم فإنه كان يقلد نبح الكلاب . بحيث أن كلاب الأجواد تبدأ بنباحها ، وعندئذ يستطيع الغريب أن يتبع النبح لايجاد مأوى . فهذا المتلمس الضبعي يصف لنا هذه الحالة في طريقه تجسيمية ، قائلا ( ) :
      ومستنبح تستكشف الـريح  ثوبه    ليسقط عنه وهو بالثوب معصم
      عوى في سواد الليل بعد اعتسافه    لينبـح كلـب او ليـوقظ نائم
      فجاوبه مستسمع الصوت للنـدى     له عند إتيان  المهبين  مطعـم
      يكاد إذا ما أبصـر الضيف مقبلا    يكلمه من حبـه وهـو  أعجم

ومعقر الأزدي يعرض مشهد الضيف الذي أضناه السرى ، وضل في جوف الصحراء ، يعاني بردها وريحها ، ويخشى أشباحها ،وتفزعه أهوالها ، وتوزع حالته النفسية بين صحوة وغفلة ، فإذا ما صحا من غفلته ألحت على ذاكرته فكرة المستنبح ليستنبح الكلاب لترد عليه كلاب الشاعر المضيف ، لعله يجد لديه مقرا ، ومن خيراته قرى ، وحين يدرك الشاعر أن هناك طارئا يفزع الى ناره، فيوقدها مسرعا ، وعلى ضوئها يهتدي الساري ، ويبدو الشاعر ملهوفا إلى لقاء ضيفه . ويسأله ليطمئنه على أخباره ، ثم يختار الشاعر من إبله أفضلها وأكرمها ، وأعلاها سناما ، فيعقرها بسيفه ، وإذا الابل تتفرق فزعة من هول ما تراه من مشهد السيف … وقد راح السيف يقطر دما والناقة تلفظ أنفاسها الأخيرة … وينتهي إلى مشهد اللحم والقدر التي تطبخ فيها …
واستمع إلى صوت الشاعر ، وهو يزهو بحسن ما صنع ( ) :
ومستنبح تهـوي مساقـط رأسـه   إلى كل شخص فهو للسمع أصور
يصفقه أنف  مـن الريـح  بـارد  ونكباء ليل من جمادى  وصرصر
حضأت له ناري  فأبصر  ضوءها وما كان لولا حضأة  النـار يبصر
دعته بغير اسم : هلم إلـى  القرى  فأسرى يبوع الأرض  والنار تزهر
فلما أضاءت شخصه قلت مرحبـا   هلم وللصالين  بالنـار أبشــروا 
فجاء ومحمـود القـرى  يستفـزه  إليها وداعي الليل  بالصبح يضفـر
وقمت ونصل السيف والبرك هاجد   بها زره والموت في السيف ينظـر

وتطالعنا صورة طارق الليل في شعر عمرو بن الأهتم ،أيضا ، الذي يعد نموذجا فذا في استقباله ضيوف الليل ، والترحيب بهم ، والقيام بواجب الضيافة ، وقال بأسلوب راق مؤثر( ) :
ومستنبح بعـد الهـدوء  دعوته     وقد حان من نجم  الشتاء خفوق
يعالج عرنينـا من   الليل باردا           تلـف ريـاح ثوبـه وبـروق
تألق  في عين من  المزن وادق           له هيدب داني السحـاب  دفوق
أضفت  فلم أفحش عليه ولم أقل           لأحرمه : إن  المكـان  مضيق
فقلت له : أهلا  وسهلا ومرحبا            فهذا صبوح راهـن  وصـديق
وقمت إلى البرك الهواجد فاتقت            مقاحيـد كـوم كالمجادل  روق
وقام إليهـا الجـازران فأوفـدا           يطيران عنها الجلد  وهي تفوق
فجر إلينا ضـرعها وسنـامها            وأزهـر يحبـو  للقيـام عتيق
فبات لنا منها وللضيف  موهنا       شواء سمين زاهـق  وغبـوق
وبات له دون الصبا وهي قرة       لحاف ومصقول الكـساء رقيق
وكل كريم يتّقي الذم  بالقـرى       وللخير بين الصالحين طريـق

فهذه الأبيات تصور لنا كيف كان السائر في الصحراء ليلا يتصرف إذا ضل الطريق … لقد كان ينبح كما تنبح الكلاب ،لتجيبه بنباحها ، فيعرف مكانها ، وهي لا تكون إلا مع أصحابها ، فينزل عليهم ضيفا . ويقص علينا الشاعر كيف كان العربي يعامل هذا النزيل … لقد كان صاحب البيت يقابله بالبشاشة والترحاب  وينزله منه منزلا جميلا ، كأنه يعيش في بيته ، وبين أهله وعشيرته ، ويذبح له أكرم إبله ، ويهيئ لضيفه طعاما شهيا … وإذا أراد النوم أعد له فراشا دافئا ، وجهز له ما يقدم في الصباح وفي المساء من طعام وشراب ، ويختتم هذه اللوحة بحض الناس على فعل الخير .
3- اختيار مكان الاقامة :
      يعد اختيار مكان الاقامة وسيلة أخرى كانت تلفت أنظار الضيوف ، وتجذبهم إلى الأجواد. إن مكان الاقامة وسط الناس ، وعلى مكان ظاهر ، يشير إلى أن الساكنين مضيافون .أما الاقامة في مكان منعزل فدليل على البخل . وقال طرفة ( ):
ولست بحلال التلاع مخافة          ولكن متى يسترفد القوم أرفد
وافتخر أوس بن حجر بهذا المعنى قائلا( ) :
      وان مكاني للمريدين بارز           وان برزوني ذو كؤود وذو حضن
ولأن مكان الإقامة له أهميته ، فإن ذا الإصبع العدواني ينصح ابنه قائلا ( ) :
      واحلل على الأيفاع للـ             ـعافين واجتنب المسيلا
4- المنادي :
      ولعل أطرف وسيلة لجلب الضيوف ، ولاظهار المثل الأعلى في الضيافة ، أن يرسل الإنسان الكريم مناديا يدعو إلى المآدب والطعام ، فعبد الله بن جدعان كان له مناديان يدعوان الناس ليقبلوا على تناول الفالوذج ، وغيره من جفانه الواسعة التي كان يأكل منها القائم والراكب لعظمها ، وقد أشاد أمية بن أبي الصلت بكرمه قائلا ( ) :
      لـه داع بمكـة  مشمعـل    وآخر فوق دارته ينادي
      إلى ردح من الشيزى ملاء    لباب البر يلبك  بالشهاد
أوقات الجود :
      كانت الجزيرة العربية تعاني نقصا في الغذاء ، لأنهم كانوا يعتمدون في زراعتهم على الأمطار ، التي تتأخر حينا ، وقد تنحبس حينا آخر ، فيعم القحط والجدب .
      ويدل استقراء الشعر الجاهلي على أن الشعراء كانوا يختارون وقتا معينا تجود فيه النفوس السمحة بما تملك ، عندما تشح الألبان ، ويعم الجدب ، وتهب الرياح الباردة ، ويتساقط الثلج ، ويكسو الجليد الأرض . وها هو مضرس بن ربعي يزهو بإقرائه الضيف في مثل هذه الظروف ،فقال ( ) :
      وإني لأدعو الضيف بالضوء بعدما   كسا الأرض نضاح الجليد وجامده
      أبـيت أعشيـه السديـف  وإنني    بما نال حتى يترك  الحي حامـده
وقال سنان ين أبي حارثة المري ( ):
      وقد يسرت إذا ما الشول روحها           برد العشي بشفـان وصـراد
      ثمت أطعمت زادي غير مدخر      أهل المحلة من جار ومن جاد
وقال المسيب بن علس ( ) :
      وإذا تهيج الريح من صرادها        ثلجا ينيخ النيب بالجعجاع
      أحللت بيتك بالجميع وبعضهم        متفرق ليحـل بـالأوزاع
وقال عامر بن الطفيل ( ) :
إذا سنة عزت وطال طوالها         وأقحط عنها القطر واصفر عودها
وجدنا كراما لا يحول ضيفنا         إذا جف فوق المنـزلات جليـدها
وقال زهير بن أبي سلمى ( ) :
إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت           ونال كـرام المال في السنة الأكـل
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم    قطينا لهم  حتـى إذا نبـت البـقل
هنالك إن  يستخبلوا المال يخبلوا          وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
وانطلقت قصيدة الرثاء من القيم العليا والمثل النبيلة التي تحلى بها أولئك الفرسان الذين سقطوا ذودا عن القبيلة ، ويقف على رأس تلك القيم الجود ، قال بشربن أبي خازم ( ) :
      يا سميـر من للنسـاء إذا مـا            قحط القطر أمهات  العيال
      كنت غيثا لهن في السنة الشهـ            باء ذات الغبار والإمحـال
      المهين الكوم الجـلاد إذا مــا           هبت الريح كل يوم شمـال
أهمية الجود في السلوك الاجتماعي :
      لا ينتظر الباحث من مجتمع كالمجتمع البدوي العربي نظاما يحقق العدالة الاجتماعية من خلال مؤسسات ، لذلك ينبغي على المرء أن يقدر جود الطبقة الغنية في المجتمع الجاهلي تقديرا عاليا ، ويسمي الشعراء في شواهد غزيرة الذين يستحقون المساعدة والمعونة ، وبهذا يقدمون لنا نظرة في الخلق الاجتماعي لمجتمع ذلك العصر .
      عاش أغلب العرب في الصحراء الجافة التي قلما استطاعت أن تقدم الغذاء الكافي للناس ، وكانت التجارة حكرا بيد الأغنياء ، يضاف إلى هذا عدم وجود مؤسسات اجتماعية تعتني بالفقراء والمحتاجين . لذلك وجد فقراء كثر استطاعوا البقاء على قيد الحياة فقط ، من خلال مساعدة الطبقة العليا للمجتمع البدوي . وهذا زهير بن أبي سلمى يقرر هذا السلوك عندما أشار إلى أنه " قد جعل المبتغون الخير في هرم ، ويصوّر الشعراء سلوك أفراد الطبقة العليا الأجواد وكأنهم لا يميزون الفقير منهم ، ويجعلونه واحدا منهم ، كقول عمرو بن الاطنابة ( ) :
      والخالطين فقيرهم بغنيهم      والباذلين عطاءهم للسائل
وقول حاتم الطائي ( ) :
      والخالطين نحيتهم بنضارهم         وذوي الغنى منهم بذي الفقر
وقول مطرود بن كعب ( ) :
      والخالطين فقيرهم بغنيهم            حتى يكون فقيرهم كالكافي
وقول حسان بن ثابت ( ) :
      والخالطيـن فقيرهـم بغنيهـم            والمنعمين على الفقير المرمل
وقول  زهير ( ) :
      على مكثريهم حق من يعتريهم       وعند المقلين السماحة والبذل
      ان الشعراء يلفتون النظر ألا يعامل الفقير معاملة سيئة ، وإنما أن تعقد معه الاتصالات الحميمة ، " فلا تعدم مواصلة الفقير " و " لا تعاد الفقير. "إن السائلين كانوا ، كغيرهم من المحتاجين متعلقين بعطاء الطبقة العليا الغنية ليستطيعوا تحمل أعباء الحياة ، لذا يحاول الإنسان الجواد أن يرضيهم ، وإلا فإن المرء يسبب لنفسه العار والفضيحة .
      إن الإنسان لم يستطع أن يعيش في المجتمع ، عصرئذ ، وحيدا دون التضامن مع جماعة تكفل له الحماية ، لأن الغزوات كانت مألوفة ، والأخذ بالثأر يلاحق المرء أينما حل .
      إن العناية بالمحتاجين عدت سلوكا اجتماعيا جيدا ، وكانت سببا للمجد والكرامة في المجتمع العربي في وقت واحد ، فممدوح زهير "إذا ما شتا تأوي إليه الأرامل ( )  وأبو لبيد بن ربيعة " كان الأرامل في الشتاء له قطينا ( )  " لذلك كانت هناك مكانة مرموقة للذين يعتنون بالمحتاجين ، وهذا بشر بن أبي خازم يكشف هذا الجانب على طريقته ، عندما يفتخر بأن قومه قتلوا ذلك الذي يتبوأ تلك المكانة ( ) :
      قتلنا الذي يسمو إلى المجد منهم            وتأوى إليه في الشتاء الأرامل
      أن اليتامى الذين لم يكن باستطاعتهم أن يعتمدوا على أنفسهم في حياتهم ، لأن مجتمع ذلك العصر كان يقوم غالبا على علاقات القوة التي تحابي الأغنياء و تهمل الضعفاء ، ولكي يقرر الشعراء عناية الأجواد الكبرى باليتامى ، فإنهم كانوا يسندون إليهم دور "أبي اليتامى " كقول أمية بن أبي الصلت ( ) :
      وأبو اليتامى كان يحسن أوسهم            ويحوطهم في كل عام جامد
وهكذا فإن المجتمع الجاهلي الذي لم توجد فيه مؤسسات ترعى الأيتام ، وتقوم على تربيتهم ، عرف أجوادا قاموا بهذا العمل الحميد ، فربوا اليتامى وتبنوهم ( ) :
      وربيت أيتاما والحقـت صبية       وأدركت جهد السعي قبل عنائكا
                               و
      وجـدت أبـي  ربيعا لليتامى       وللأضيـاف اذ حـب  الفيئـد( )
     و
      ليبك ابن كلثوم  فقد حان يومه       يتامى وأضياف  وكـل مضيع ( )

      اهتم الإنسان بالأرامل واليتامى الذين كانوا بحاجة إلى المعونة ، وسمي نوع المساعدة على أنها رعاية عامة أو طعام . والأسود بن يعفر يتفجع على صديق له لأنه يسر جفنته " ليتامى أو لأرملة ( ) " والأعشى الكبير يشير إلى ممدوحه بأنه " غيث الأرامل والأيتام كلهم ( )   المهلهل بن ربيعة يتساءل " من للأرامل واليتامى ( ) " بعد موت أخيه .
      ويصور الشعراء الأرملة التي تقع في الفقر والعسر ، كالأعشى الكبير الذي يفتخر بقومه الذين يعتنون بالأرامل قائلا ( ) :
      وأرملـة تسعـى بشعث كأنها             واياهم ربداء حثت  رئالها
      هنأنا ولم نمنن عليها فأصبحت      رخية بال قد أزحنا هزالها
أما طرفة بن العبد فيشيد برعاية الأجواد للأرامل قائلا ( ) :
      إني حمدتك للعشيرة إذ        جاءت إليك مرقة العظم
      ألـقوا إليك بكل أرملة         شعثاء تحمل منقع البرم

جود الجاهليين قيمة نفسيّة  :
      عرضنا في غير موضع من هذا الكتاب فيضا من النصوص الشعرية ،تدل دلالة قاطعة على أن الجود عند الجاهليين ، كان في الكثرة المطلقة منه جودا نفسيا، يمثل الفطرة السوية التي خلق الله – سبحانه – الناس عليها ، بيد أن بعض المعاصرين حاولوا من خلال نماذج ضيقة جدا أن ينحرفوا بهذا الجود عن غايته ، ويفسروه تفسيرات مادية نفعية . وتجدر الإشارة إلى أن استنتاج عباس بيومي عجلان ، فيما يتعلق بغاية الجود حيث يقول ( ): " فهذا الخلق وسيلة اجتماعية لكفّ الألسنة عن قول السوء وإطلاقها بما يسرّ من القول . فهذا منظور به إلى غاية يطمع نحوها العربي ، فهو خلق ذو نفع وجدوى ، فالعربي كما يسكت الناس بالبطش والقهر يسكتهم بالبذل والعطاء ، وهذا يخرجه عن المدلول الأخلاقي ذي المضامين الإنسانية" . فاستنتاج الأستاذ استنتاج ناقص ، وهناك شواهد فوق الحصر ، تنقض ما ذهب إليه ، وتنفيه نفياً ، بيد أنني سأكتفي بنموذج واحد للحطيئة عرض فيه لمشهد رجل بدوي منقطع في الصحراء بعياله ، الذين غدوا أشباحاً من قلة الطعام ، طرق بابه ضيف يتضوّر جوعاً ، إذ لم يذق الطعام منذ ثلاثٍ ، فشمّر الرجل واستعد لإقراء ضيفه ، إلاّ أنه لم يجد لديه ما يقدمه ، ورأى أحد أبنائه حيرة أبيهم ، فعرض نفسه للذبح ، وكاد الرجل يذبح فتاه ، ليقدم لضيفه من لحمه طعاماً ، لولا أن لاح له صيْدٌ أصاب منه ، ما حفظ عليه ابنه وماءَ وجهه( ) :

وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل  ببيـداء  لم يعرف بها ساكن رسما
أخي جفوة فيه  من  الأنس  وحشة  يرى البؤس فيها من شراسته نعمى
وأفرد في شعب  عجوزا  إزاءهـا  ثـلاثـة أشبـاح تخالهـم  بهمـا
حفاة  عراة ما اغتذوا خـبر ملـة  ولا عرفـوا للبر  مذ خلقوا  طعما
رأى شبحـا  وسط الظلام  فراعه   فلما رأى  ضيفـا تشـمر  واهتما
وقال :هيا رباه ضيف ولا  قـرى   بحقـك لا  تحرمه تا الليلة  اللحما
فقـال ابنـه لمـا رآه  بحيــرة   أيـا أبت  اذبحني ويسر له  طعما
ولا تعتذر بالعدم على الذي طـرا   يظن لنـا مـالا فيوسعنـا  ذمـا
فروى قليـلا ثـم أحجـم برهـة   وان هو لم يذبح  فتـاه فقد  همـا
فيناهمـا عنت على  البعد  عانـة  قد انتظمت من خلف مسحلها نظما
ظماء تريد الماء فانساب  نحوهـا   على أنه منها إلى  دمهـا  أظمـا
فأمهلهـا حتى تروت عطاشهــا   فأرسل فيها مـن كنانـته  سهمـا
فخرت نحوص ذات جحش سمينة    قد اكتنزت لحما وقد طبقت  شحما
فيا بشرُه إذ جـرها  نحو أهلـه    ويا بشرهم لما رأوا كلمها يدمـي
فباتوا كراما قد قضوا حق ضيفهم    ولم يغرموا غرما وقد غنموا غنما
وبـات أبوهـم من بشاشته أبـا          لضيفهـم والأم مـن بشـرها أما

      ونحن نسأل الأستاذ عباسا : إذا كان هذا الخلق الكريم قائما على المنفعة ، فما النفع الذي يتوقع ذلك البدوي المنقطع في صحرائه أن يعود عليه من رجل ضلت به السبل ؟ وما النفع الذي فكر فيه ذلك الفتى حين عرض نفسه للذبح ؟ ومن يرضى أن يعرض نفسه للذبح لقاء أية منفعة كائنة ما تكون ؟
      ومن المعاصرين من عزا الكرم الجاهلي ، وإحلاله تلك المنزلة الرفيعة في قائمة فضائلهم الاجتماعية إلى السبب الاقتصادي ، فالحياة في ذلك العصر كانت مهددة في أساس رزقها ، وهو ماء المطر الذي قد ينقطع سنة ، أوسنين ،فما من قوم أغنياء إلا وهم عرضة لأن يصيروا فقراء في أشد الحاجة إذا أصابهم القحط ، والذين يقوم معظم ثرائهم على إرشاد القوافل وضمان سلامتها ، لا يأمنون أن تتحول طرقها عن أراضيهم ، وهي قد تحولت مرارا في تاريخ ما قبل الاسلام .وقد اهتدى الجاهليون إلى الكرم كوسيلة للاحتياط من هذا التقلب ، فهو نوع من ضمان المستقبل ( ) .
      وهذا الرأي لا يخلو من مبالغة كبيرة ، لأن كرم العرب لم يكن ليقف عند حد إعطاء شخص جائع ما يسد رمقه ، بل يصل حد التضحية بأعز الأشياء وأثمنها، لتوفير الرفاه للضيف ، يفوق كثيرا عن حدود الحاجة الضرورية . وقد ضربنا أمثله كثيرة ، في غير موضع من هذا الكتاب ، تنفي ما ذهب إليه الأستاذ الكريم ، بيد أنني سأعرض نموذجين مشرقين يدلان دلالة قاطعة على ان جود الجاهليين لم يكن محصورا في تقديم الطعام لأفواه جائعة ، ومعد فارغة ، وإنما كانت له أبعاد نفسيه فصلها الطفيل الغنوي في مدحه قبيلة جعفر ، حين وقف الجعفريون بجانبهم حين زلجت أقدامهم ، فخلطوهم بنفوسهم ، وساووهم برؤوسهم ، وأسكنوهم في حجرات أظلتهم ،وأدفأتهم ، وتحملوهم طول فترة إقامتهم بينهم ، ولو أن أمهم ( الغنويين ) لاقت ما لاقته جعفر منهم لملتهم ، وظلوا يقرونهم ، ويوسعون لهم ، ويطلبون إليهم الاقامة ، حتى تنكشف الأمور ، وتنجلي العمياء . ويذكر الشاعر أنه وقبيلته سيظلون أوفياء للجعفريين ، حافظين لهم هذه اليد ، ويدعو الله أن يجزي قبيلة جعفر( ) :
      جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت          بنا نعلنا في الواطئين فزلت
      هـم خلطونـا  بالنفوس وألجأوا          إلى حجرات  أدفأت وأظلت
      أبـوا أن  يملونـا ولو أن أمنـا          تلاقي الذي لاقوه منا  لملت
      وقالت : هلموا الدار حتى تبيـنوا    وتنجلي العمياء عما  تجلت
      سنجري باحسان الأيادي التي مضت لها عندنا ما كبرت  وأهلت

فالمحافظة بالنفس هي الغاية ، لأن النفس إذا تآلفت كانت الألفة ، وعمت السعادة . ومدح رجل الطائيين ، فقال ( ) :
      جزى الله خيرا طيئا من عشيرة           ومن صاحب تلقاهم كل مجمع
      هم خلطونـي بالنفوس ودافعوا      بركن ورائي ذي مناكب مزمع
ارتفاع الحس الإنساني :
      بلغ الشاعر الجاهلي من رقة الشعور ، ورفاهة الحس ، والشعور الإنساني أن جعل من الذئب الجائع ضيفا له ، يقريه ، ويأنس به .
      ويعرض علينا المرقش الأكبر ذئبا جائعا ، يعروه مستضيفا ، فيكرمه كما يكـرم الضيف ، حتى إذا شبع عاد مسرورا ، كأنه مقاتل ظفر بغنيمة أعدائه ، فيقول ( ) :
      ولمـا أضأنا النار عند شوائنا             عرانا عليها أطـلس اللـون بائس
      نبذت إليـه حـزة من شوائنا       حياء ، وما فحشي على من أجالس
      فآض بها جذلان ينفض رأسه        كما آب بالنهب  الكمـي المجالس

وأسماء بن خارجة تناول هذه الصورة ، أيضا ، فمد في أجزائها ، وفصلها  فوضعنا أمام ذئب جائع ، بدا عليه الشقاء والبؤس ، ألم به ليقريه، فقال ( ) :
      ولقـد ألـم بـنا  لنقريه      بادي الشقاء محارف الكسب
      يدعو الغني أن نال علقته      من مطعم غبـا  إلى غـب
      فطـوى ثميلتـه فألحقها       بالصلب  بعد لدونة  الصلب

ثم يصف حاجة هذا الذئب الذي استدر عطفه ، ودفعه ذلك إلى أن ينحرله أكرم إبله عليه ، ليطعمه ويطعم عياله الجياع ، وقد صور هذا المشهد تصويرا مؤثرا ، فقال :
      وألـح إلحاحـا بحاجتـه     شكوى الضرير ومزجر الكلب
      ولوى التكلح يشتكي سغبا      وأنا ابن قاتـل شـدة  السغب
      فرأيت أن قد نلته بـأذى      من عذْم مثلبـة  ومـن  سب
      ورأيت  حقا  أن  أضيفه            إذ رام سلمي واتقـى   حربي
      فوقفت معتامـا  أزاولها       بمهند ذي  رونـق  عضـب
      فعرضته في ساق أسمنها      فاجتاز بيـن الحـاذ  والكعب
      فتركتهـا لعيالـه جزرا       عمدا،وعلق  رحلهـا  صحبي

مواضيع مشابهة


القيم الإنسانية والمثل النبيلة عند العرب في العصر الجاهلية
القيم الايجابية في العصر الجاهلي
القيم في العصر الجاهلي
القيم الجاهلية
القيم الاخلاقية في الشعر الجاهلي
الصفات الخلقية الحميدة في العصر الجاهلي
القيم الاخلاقية في العصر الجاهلي
العادات والتقاليد في العصر الجاهلي
الصفات الحميدة في العصر الجاهلي
نماذج مِن كرم العرب وجودهم في العصر الجاهلي
الجُود، والكَرَم، والسَّخاء، والبَذل
الجود الكرم عند العرب في عصر الجاهلية
ابيات حاتم الطائي عن الكرم
قصص الكرم عند العرب
الصفات الخلقية الحميدة في العصر الجاهلي
تعريف الكرم عند العرب
الشجاعة في العصر الجاهلي
نبذة عن حاتم الطائي
قصيدة من كرم العرب
قصة عن الكرم في الجاهلية


Previous Post Next Post