قصائد شعر المدح عند العرب في الجاهلية
لقد تحكم العرف الاجتماعي في طبيعة معالجة كل غرض من أغراض النموذج الجاهلي ، وفي توجيه تفاصيله أحيانا ، فكانت قصيدة المدح ميدان التعبير عن الاعجاب الاجتماعي يصور الفضائل التي تبهر النفس ، وتدفعها إلى تخليد المآثر المقيدة بالمثل العليا  القائمة على تقديس سمات القوة ،والكرم ، والشجاعة، وحفظ العهد ،وحماية الجار ، ورعاية الضعيف ، والتعفف عن دنايا الأمور ( ) . ومن هنا تشابهت مجاري نماذج المديح ، وإن ظلت أساليبها مشدودة إلى قدرة الشاعر على التشخيص الفني ،ومنح الصورة أبعادها التفصيلية المتميزة .
ويبدو أن الدافع القبلي ظل مدارا أصيلا لنماذج المديح خلال العصر كله . على أن بروز المنفعة الذاتية في بعض النماذج لا ينبغي أن يغرينا بتفسير جديد ، ذلك أن مصلحة الفرد تظل مشدودة إلى مصلحة القبيلة بأكثر من سبب ، ولهذا فإننا لا نميل إلى طرح الحيطة عند النظر فيما أرادابن رشيق ان يقرره بشأن النابغة مثلا حين أشار إلى أنه كان ( يتكسب ) بالشعر في بلاط النعمان ( ) ، ذلك أن ابن رشيق نفسه كان يدرك أن وجود النابغة في بلاط النعمان لم يكن إلا ضربا من السفارة الممثلة لمصالح ذبيان عند الساسانيين ، وإن ما فاز به من وجوه الاكرام الشخصي لم يكن إلا نتيجة ثانوية لا ينبغي أن تدفع إلى تعجيل الأحكام ، على أن الأمر قد يختلف قليلا بالنسبة إلى الأعشى الذي صرح بطلبة للمال في الآفاق ( ) ، وسخر عددا من قصائده لهذا الغرض حتى غدا مسلكه غريبا بالقياس إلى العصر الجاهلي، ونواة جديدة للتحول بهذا الفن من بواعثه الاجتماعية والانسانية إلى حيز البواعث الشخصية الخالصة ، التي غدت مدار فن المديح ، فيما تلا ذلك من عصور الشعر العربي .
دوافع المدح :
1- الاعتراف بالجميل :
       وقف زهير بن أبي سلمى من فن المدح ،الذي كثر توجيه سهام الاتهام إليه مـن قبل النقاد والباحثين على أنه كان بابا واسعا من ابواب النفاق في الشعر العربي ( ) ، موقفا تجاوز فيه هذا المستوى ، بل نقضه تماما ، حين أصدر فنه خالصا من منظور الصدق الفني والاجتماعي معا ، إذ اتسقت نفسه وفنه ، وراح يترنم بهذا الموقف الحضاري الذي اعجب به حول قضية السلام ،والتغيير من شريعة الغزو، التي شقت سبيلها عبر نفوس الجاهليين ، وأصبحت قاعدة عامة في حياتهم ، فكانت معلقته صورة من إخلاصه لقضية السلام …
       وظل صوته يرنّ في مسامعنا ، مشنفا آذاننا ، وهو يكيل المديح لسيدين كريمين سعيا بالصلح بين عبس وذبيان ،في حرب داحس والغبراء … وهذان السيدان هما : الحارث بن عوف ، وهرم بن سنان ، ومما قاله في مدحهما ( ) :
       وأقسمت بالبيت الذي طاف حوله        رجال بنوه من قريش  وجـرهم
       يمنيـا لنعـم السيـدان  وجدتما        على كل حال من سحيـل ومبرم
       تداركتما عبسا  وذبيـان بعـدما        تفانوا ودقوا بينهـم عطـر منشم
       وقد قلتما :إن ندرك السلم واسعا         بمال ومعروف مـن  القول نسلم
       فأصبحتما منها على خير موطن          بعيدين فيها من  عقـوق ومـأثم
       عظيمين في عليـا معد هديتمـا         ومن يستبح كنزا من المجد يعظم

وقد يثير قول ابن رشيق : " ان زهيرا تكسب بالشعر يسيرا مع هرم بن سنان( ) تساؤلا عن الدوافع التي دعته إلى قوله ،مع أنه يعلم أن زهيرا لم يكن إلا واحدا من الشعراء الذين وصفهم هو نفسه ، بأنهم لا يمدحون "إلا مكافأة عن يد لا يستطيعون أداءها حقها إلا بالشكر إعظاما لها ( ) " ،وهو يعلم أيضا أن مديح زهير لهرم ولغير هرم لا يكاد ينبئ عن تطلع إلى ما في يد الممدوح .
       أما النماذج التي فرغ زهير فيها لمديح هرم فإنها  تنبئ عن عناية خاصة ، وتكشف عن إعجاب عميق ، لعله كان وليد طموح في نفسه إلى الشخصية المثلى التي لم تعنه ظروفه الخاصة على تحقيقها فيه ( ) . فلما وجدها في هرم راح يمجد المثل العليا . والقيم الانسانية من خلالها ، بحماسة بدت أليق بالفخر منها بالمديح .
       وتمثل مدائح امرئ القيس التي كان يمدح بها مَنْ أجاره ، أو من عطفوا عليه حين قام مطالبا بثأر أبيه – البداية الطبيعية التي بدأ بها موضوع المديح في الشعر الجاهلي ، وذلك على نحو ما نرى في هذه الأبيات التي يمدح بها المعلى التيمي ، وكان قد أجاره ، ومنعه من المنذر بن ماء السماء ، الذي كان يطلبه ، ويلح عليه في طلبه ، ومما كان قد مدحه به قوله ( ) :
       كأني إذ نزلـت علـى المعلـى         نزلت على ا لبواذخ من شمام
       فما ملـك العـراق  على المعلى  بمقتـدر ولا مـلـك الشـآم
       أصـد نشاص ذي القرنين  حتى         تولى عارض  الملـك الهمام
       أقر حشا امرئ القيس  بن  حجر        بنو   تيـم مصابيـح الظلام

       ومدح بني سعد ، أيضا ، لحدبهم عليه ، وتقديمهم له الحماية ، بعد مقتل أبيه، فقال ( ) :
       منعت الليث من أكل ابن حجر           وكاد الليث يودي  بابن حجـر
       منعـت فأنت ذو مـن ونعمى           علي ابن الضباب بحيث تدري
       سأشكرك الذي  دافعـت عني            وما يجزيك عني  غير شكري
       فما جار بأوثـق منـك  عهدا           فنصرك للطريـد أعـز نصر

       وأغرى فريق من قبيلة طيء بشر بن أبي خازم بهجاء أحد زعمائهم ، أوس بن حارثة ، بدافع الحسد والتنافس ، ويستجيب لهم بشر ويهجوه … فغضب أوس لذلك ، ونذر لئن ظفر به ليحرقنه ، فلم يبال بشر بذلك ، بل أمعن في هجاء أوس … ويجد أوس وقومه في طلب بشر ، ويظفرون به يوم ظهر الدهناء … وكاد أوس يحرق بشرا لولا تدخل أمه … فعفا عنه ( ) ، ويغمر حلم أوس وعفوه نفس الشاعر ويمدح أوسا بقصائد يمحو فيها ما كان قدهجاه به ، ومما قاله ( ) :
       وإني لراج منك يا  أوس  نعمــة      وإني لأخرى منك يا أوس راهب
       فهل ينفعني اليوم إن قلـت  إننـي      سأشكر إن أنعمت والشكر واجب
       وإني قد أهجرت بالقـول  ظالمـا وإني منه يا بن سعـدى لتـائب
       وإني إلى  أوس ليقـبل  عـذرتي ويعفو عني ما حـييت لراغـب
       فقل كالذي قال ابن يعقوب  يوسف لإخوته والحكم فـي ذاك راسب
       فإنـي سأمحو بالـذي أنـا  قائل به صادقا ما قلت إذ أنـا  كاذب

وقد يضطر الشاعر الفارس إلى مدح أعدائه ، ففي يوم فلج أسر عرفجة بن بجير العجلي خالد بن سلمة النهشلي ، وما لبث أن من عليه ، ولم يخف خالد إعجابه بما شاهد من كرم أعدائه واحترامهم للأسير ، فقال ( ) :
       وجدنا الرفـد رفـد بـني لجـيم إذا مـا قلـت الأرفـاد زادا
       هم ضـربوا القبـاب  ببطن فلج  وذادوا عن محارمهم  ذيـادا
       وهـم منـوا علـي وأطلقونـي         وقد طاوعت في الجنب القيادا
       أليسوا خير مـن ركب المطـايا         وأعظمهم إذا اجتمعوا رمـادا
       أليسو هم عمـاد الحـي بكـرا         إذا نزلـت  مجـللة  شـدادا
       ألا أبلـغ بنـي ذهـل رسـولا          فلا شتمـا أردت ولا فسـادا
       وهم ضربوا الكتائب يوم كسرى         أمان الناس إذ  كرهوا الجلادا

2- التوسط في إطلاق سراح الأسرى :
       ان الباعث الذي دفع علقمة الفحل إلى الوقوف أمام باب الملك الغساني هو دافع نبيل ، ولا شك، فقد أسر الحارث بن أبي شمر الغساني رجالا من تميم ،من ضمنهم شأس بن عبدة ، فرحل علقمة سعيا في خلاص أخيه ،وفكاكه من أسره ،هو وأسرى قومه ، ونحن نكبر عاطفة الأخوة هذه ، كما نكبرهذا المدح الذي أطلق لسانه في سبيل أسرى قومه … وقد سما في مدحه عن التزلف، والرياء ، والتذلل ، فهو صدى لما يتجاوب في نفسه من احاسيس ، بل ويعبر تعبيرا صادقا عن أخلاق الفارس عند علقمة الذي يشيد بعدوه، الذي يثبت شجاعة في الميدان … وها هو ذا ينيخ ناقته أمام قصر الملك ، ويدخل قصره ، ويصيح بأعلى صوته ( ) :
       فو الله لولا فارس الجـون منهـم لآبـوا خزايـا والإيـاب حبـيب
       تقدمـه حتـى تغيـب  حجولـه وأنت لبيض الدارعيـن ضـروب
       مظاهر سربالي  حديـد عليهمـا  عقيـلا سيـوف مخـذم ورسوب
       فقاتلتـهم حتـى اتقـوك بكبشهم              وقد حان من شمس  النهار غروب
       تجـود بنفـس لا يجـاد بمثـلها فأنـت بهـا عنـد  اللقاء خصيب
تخشخش أبـدان الحـديد عليهـم       كما خشخشت يبس الحصاد جنوب
وقاتل من غسان أهل حفـاظهـا  وهنب وقـاس جالـدت وشبيـب
كأن رجال الأوس تحـت لبانـه         وما جمعـت جـل معـا وعتيب
رغا فوقهم سقب السماء  فداحض بشـكتـه لـم يستـلب وسليـب
كأنهـم صابـت  عليهم  سحابة         صواعقـها لطيـرهـن  دبـيب
فلـم تنـج إلا شطبـة  بلجامها         وإلا طمـر كـالقنـاة نجــيب
وإلا كمـي ذو حفـاظ كـأنـه   بما  ابتل من حد  الظبات خضيب
وأنـت أزلـت الخنزوانة عنهم          بضرب لـه فـوق الشؤون دبيب
وأنت الذي آثـاره فـي  عدوه          مـن  البؤس والنعمى لهن ندوب

3- حب العطاء :
       وعلى الرغم مما لمسناه من شدة تعلق الشاعر بقبيلته ،نجد طائفة من شعراء الجاهلية ، يخرجون أحيانا عن نطاق الجاذبية القبلية ، فيقفون جانبا من شعرهم على أغراض تنافي ما ذكرنا ، وكانت العرب لا تتكسب بالشعر ، وكان الغالب على طباعهم الأنفة من السؤال ،وقلة التعرض به لما في أيدي الناس ، فلما نشأ النابغة مدح الملوك ،وقبل الصلة على الشعر ، وخضع للنعمان بن المنذر ، وكسب مالا جسيما ، حتى قيل : إن أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة . فلما جاء الأعشى جعل الشعر متجرا يتجر فيه نحو البلدان ( ) .
       ونحن لا نشك أن هذه الظاهرة ليست قديمة في الشعر العربي ، وإنما عرفت في أواخر العصر الجاهلي ، وهي تمثل مرحلة من حياة الشعر العربي ، وانتقاله من طور الهواية إلى طور الاحتراف .
       ونماذج المدح في العصر الجاهلي ، كان ينطلق معظمها من قيم الفروسية وتصوير البطولات الحربية ،ومن ذلك ما مدح به النابغة الذبياني الحارث بن أبي شمر الغساني ، وفيه يقول ( )  :
       وثقت له بالنصر إذ قيل قد غزت  كتائب من غسـان غيـر أشائب
       بنو عمه دنيا وعمرو بن  عامـر أولئك قوم بأسهم  غيـر كـاذب
       إذا ما غزوا بالجيش حلق  فوقهم        عصائب طير تهتـدي  بعصائب
       يصاحبنهم حتى يغرن مـغارهم          من الضاريات بالـدماء الدوارب
       تراهن خلف القوم خزرا عيونها          جلوس الشيوخ في ثياب  المرانب
       جوانـح قـد أيقـن أن  قبيـله         إذا ما التقى الجيشان أول غالـب
       لهن عليهم  عادة قـد عرفنهـا          إذا عرض الخطي فـوق الكواثب
       ولا عيب فيهم  غير أن سيوفهم          بهن فلول مـن قـراع الكتائـب

وانطلق نموذج المدح عند حسان بن ثابت من القيم الأخلاقية ،والمثل النبيلة  التي رآها تتحقق في ممدوحيه . وقصيدته اللامية التي مدح بها أولاد جفنة وثيقة تؤكد ما ذهبنا إليه ، وفيهم يقول ( ) :
       لـله در عصـابـة  نـادمـتهـم      يوما بجلـق فـي الـزمان الأول
       يمشون في الحلل المضاعف نسجها      مشي الجمال  إلـى  الجمال البزل
       الضاربون الكبش يبـرق   بيضـه      ضربا يطيح له  بنـان المعصـم
       والخالطون فقيرهــم   بغنيهــم      والمنعمون  على الضعيف المرمل
       أولاد جفنة حـول قبـر  أبيــهم       قبـر ابـن مارية الكريم المفضل
       يغشـون حتـى مـا تهر   كلابهم      لا يسألـون عـن السـواد المقبل
       يسقـون مـن ورد البريص عليهم      بردى يصفق بالرحيـق الـسلسل
       يسقون درياق ا لرحيق ولم  تكـن      تـدعى ولائـدهم لنقـف الحنظل
       بيـض الوجـوه كريمـة أحسابهم      شـم الأنـوف من الطراز الأول  



مواضيع مشابهة 


المدح في الشعر العربي القديم

قصائد شعر المدح عند العرب في الجاهلية

شعر الفخر في العصر الجاهلي

شعر الفخر بالنفس

اشهر ابيات الشعر الجاهلي

شعر الفخر والحماسة

الشعر الجاهلي في الحب

شعر الفخر بالنفس للمتنبي

اجمل ابيات الشعر الجاهلي في الحكمة

شعر الشجاعة والاقدام



Previous Post Next Post