الغزل والرثاء:


ائتلاف الغزل والرثاء:
       اتّجهت جهود النقاد القدماء إلى الفَصْل بين غرضي الغزل والرّثاء، لاعتقادهم بأنّ تجربة الغزل غير تجربة الرثاء، رغم اعترافهم بسوداوية تجربة الحبّ وتشاؤميتها عند الشعراء الغزلين، ممّا دفع ابن رشيق إلى القول( ):
وليس من عادة الشعراء أن يقدموا قبل الرثاء نسيبا، كما يصنعون ذلك في المدح والهجاء ... وقال ابن الكلبي( ): لا أعلم مرثية أوّلها نسيب الاّ قصيدة دريد بن الصمّة:
أرثّ جديدُ الحبل من أم معبد          بعـاقبة وأخلفــتْ كـلّ موعـد
       ونحن نعترض على ما ذهب إليه هذان الناقدان لأسباب، أهمها:
1- إنّ عدم علم ابن الكلبي بوجود نسيب في نماذج الرثاء، ما عدا قصيدة دريد هذه، لا ينهض دليلا على عدم وجود النسيب في نماذج آخر. وهناك اثنتا عشرةَ قصيدة في الرّثاء قد بدأتْ بالنسيب ( )، مما يدل على أن استقراء ابن الكلبي كان ناقصا.
2- إنّ ما انتهى إليه ابن رشيق يدلّ على أنه لم يستطع أن يدرك العلاقة الخفيّة بين الغزل والرثاء. ولو كان الأمر كذلك- وما هو كذلك- لأصبح من العسير أن يلتمس إنسانٌ تفسيراً لوجود النسيب في نماذج الرّثاء، ولأصبحت مقدمة القصيدة منَبتّةً عن موضوعها.
العلاقة بين الغزل والرثاء:
       الغزل في الشعر العربي لغة الوجدان والعواطف، تلك اللّغة التي يعبّر بها شاعر الغزل عن مكنون مشاعره، وأحاسيسه الدفينة، وهو يصف مفاتن المرأة، سواء أكانت تلك المفاتن حسيّة أم معنويّة.
       والغزل من الأغراض الشعرية التي تمتاز بأنها مجموعة من التجارب الذاتيّة الخاصّة التي تعبر عن نظرات اجتماعية في المرأة والحياة، وبذلك يتبوّأ الغزل مكانة مرموقة بين أغراض الشّعر الأخرى.
إنّ المطالع الغزلية في الشعر العربي، وقصائد الغزل الكثيرة تطّرد فيها رنّة حزينة باكية، تبدو في بعض الأحيان مظهراً سوداويا، يصوّر بعض تشاؤميّة الشاعر في نظرته  إلى المرأة والجمال. وينهض العامل النفسي والاجتماعي بدور كبير في خلْق مفهوم الألم في المقدمّة الغزليّة. فالوقوف على الأطلال، والبكاء عليها، والتحسّر على الذكريات الماضية... هي رموز لتجربة الألم التي يجد الشّاعر فيها راحة نفسيّة يطمئن إليها في التعبير عن بعض مشاعره الحسيّة.
       أما الرّثاء فيشترك مع شعر الغزل في التعبير عن معنى الألم والأسى. سواء أكان ذلك بكاء على عزيز، أم ندبا على حبيبة. والرّثاء في رسمه لصوره الباكية الحزينة، ينتزع تشبيهاتة وأخيلته من واقع الأحداث المرتبطة بصاحب المرثاة، فلا غرابة إذا ما تفاعل الرّثاء بواقع الحياة، وعبّر عن بعض هموم الشاعر ومشاعره عن طريق الحزن واللوعة والتحسّر والبكاء.
       إنّ رثاء الحبيب لحبيبه، أو الزوج لزوجه، أو الأخ لأخيه...لا يختلف كثيراً في مظهره الحزين عن شعر الغزل الباكي، والذي يرثي به الشاعر تجربته وخيبة أمله.
عود إلى مقدمة دريد :
       لم نأتِ بهذا الاستطراد عبثا، وإنّما أتينا به لنوضّح للقارئ الكريم عدم وجود تناقض بين ذكر المرأة ونموذج الرّثاء. فالحالة النفسية عند دريد وهو يتحدث عن زوجه التي فارقها- حزينة بائسة، كيف لا وقد انفصل عن زوجه التي قضى معها زمنا طويلاَ، فدريد يصرخ من أعماق قلبه بأنه قد خسر تلك الزوجة. والخسارة كانت المحور الرّئيس الذي تدور عليه القصيدة. ثم ينتقل الشاعر ليتحدث عن الخسائر الأخرى التي مُني بها في حياته، فماذا خسر؟
خسارة الرأي:
       انتقل دريد لشرح الظروف العامة التي فقد فيها أخاه، وكان دريد وأخوه وصحبه قد أغاروا على غطفان، وأصابوا منها إبلاً كثيرة، ثم رجعوا، فلمّا كانوا ببعض الطريق، نزل أخوه عبد الله ليريح وليستريح، ويقسّم الإبل بين أصحابه، فنهاهم دريد عن ذلك، وطلب إليهم علانية ألاّ ينزلوا، فلم يطيعوه، فأذعن لهواهم، وهو يعلم أنهم على ضلالة... وسرعان ما لحقتْ بهم جموع غطفان، يتقدّمها الأشرافُ الذين يلبسون الدروع الفارسية... وقال بصوتِ خزين : إنّ قومه- وأخوه واحد منهم- لم يتبيّنوا فضل مشورته إلاّ بعد فوات الأوان :
أعاذلَ إنّ الرزءَ في مثل   خالـد  ولا رزء فيما أهلك المرء عن يدِ
وقلتُ لعرّاضِ وأصحاب عارض   ورهطِ بني السّوداء والقومُ شُهّدي
علانيـةً: ظُنّـوا بألفيْ مدجـّج           سراتهمُ  فـي الفـارسيّ المسرّدِ
أمرتهم أمري بمنعـرج اللّـوى           فلم يستبينوا الرّشد الاّ ضحى الغدِ
فلما عصوْني كنتُ منهم وقد أرى   وما أنا الاّ من غزية إنْ غوتْ       وإن تعقبِ الأيامُ والدّهر تعلموا        .             غَوايتهـم وأنّني غير مهتدِ        غويْتُ وإنْ ترشُدْ غزيّةُ أرشُدِ.            بني قاربٍ أنّا غضابٌ بمعبد        .
خسارة الأخ :
       ثم انتقل إلى المحور الثالث في القصيدة، تأبين أخيه الذي خرّ صريعاً في تلك الموقعة، ونراه ينطلق في تأبينه من قيم الفروسية التي كان يتحلّى بها أخوه، فقد كان جريئاَ مقداماً، لا يخطئ الرّماية، كريماً حين الجدب، يألف احتمال الشّدائد، صبوراً عليها، قائداً في المعارك، ربيئة جيشه، ينظر للقوم لئلا يداهمهم العدو، يتوقّى فيما يتصرّف به كي لا تناله أحاديث السوء فيما بعد:
وإن يَكُ عبد الله خلّى مكانـه      ولا بَرَماً إذا الرّياح تناوحـتْ      رئيـسُ حروب لا يزال ربيئةً      صبورٌ على رزء المصائبِ حافظٌ صَبا ما صَبا حتّى علا الشّيْبُ رأسَهُ        فما كان وقـافاً ولاطـائش اليـدِ  برطبِ العضاهِ والضّريع المعضّدِ  مشيحاً على محقوقف الصّلْب مُلْبدِ  من اليوم أدبـار الأحاديثِ في غدِ  فلمّـا علاه قال للباطلِ  ابْـعُــدِ
            
            
            
            
       وممّا خفّف وقع المأساة على دريد أن علاقته بأخيه كانت علاقة حميمة، فقد كان يودّ أخاه، ويجلّه، ولا يضنّ عليه بمال. وانّ دريداً بذل أقصى ما يستطيع في الدفاع عن أخيه، ولم يتركه دون أنْ يدافع عنه دفاع الأبطال:
وَهَوَّنَ وَجْدي أنّني لم أقُلْ له       فطاعنتُ عنه الخيلَ حتّى تبدّدتْ طعانَ امرئ آسى أخاه بنفسه        .        كذبْتَ ولم أبخَلْ بما ملكتْ يدي    وحتى علاني حالكُ اللّون أسودُ    وأعلم أنّ المرء غير مخلّد         .
       ويتعزّى بالحكمة ليخفف من وقع الفجيعة على نفسه، وأنّه لن يخلّدَ بعده، بل سيموت في يومه، أوغده، وليس أحد بقادر على الإفلاتِ من الموت:
وهوّن وَجْدي أَنّما هو فارطُ.                         .        أمامـي وأنّي واردُ اليومِ أوغدِ       .

ويُنهي قصيدته بالحديث عن قوته وشدّة بأسه، وفرسه القوي، كي يكون لتهديده غطفان أَثر في نفوسهم:
وغارةِ بَيْنَ اليومِ واللّيلِ فلتةٍ        تداركتُها ركضاً بسيدٍ عمّـردِ
       هذه القصيدة متكاملة البناء، مترابطة الأعضاء، يؤدي كلُّ منها إلى الذي يتلوه، ويشاركه في الوظيفة الكلية للقصيدة ذات الدفع الواحد والمغزى الواحد. انتقل الشاعر فيها من الحديث عن مفارقة زوجه، وخسارته لها، إلى الحديث عن خسارة الرأي، ومن ثَمَّ تحدث عمّن فَقَدَ، معدّداً صفاته التي من أجلها كانت الخسارة عظيمة،ثم انتقل إلى الحديث عن علاقته بأخيه، وكيف دافع عنه، ثم تعزّى بالحكمة ليخفف من وقع المأساة على قلبه، وأنهى قصيدته بتمجيد القوة، ليكون لتهديده غطفان وقع على نفوسهم.
تحامل المحدثين على القصيدة القديمة:
       إنّ القول بضعف هندسة القصيدة العربية القديمة، وخلوّها خلواً تاماً من الوحدة العضوية أضحى في حاجة إلى تعديل وتصحيح. ومن العجيب" أنّ أصحاب هذه الأحكام أنفسهم، لا يدركون معنى الوحدة جيداً( ) ".
وليس بصحيح ما قاله نزار قباني: "إنّ القصيدة العربية ليس لها مخطط، والشاعر العربي هو صيّاد مصادفات من الطراز الأول، فهو ينتقل من وصف سيفه إلى ثغر حبيبته، ويقفز من سرج حصانه إلى حضن الخليفة بخفة بهلوان، وما دامت القافية مواتية والمنبر مريحاً، فكل موضوع هو موضوعه، وكل ميدان هو فارسه( )". ويقول أيضاَ: "إنّ القصيدة التقليدية كما ورثناها بأغراضها المعروفة، وأبياتها الملتصقة صفيّاً كقطع الفسيفساء، هي إلى الزخرف والنقش أقرب منها إلى العمل الأدبي المتماسك الملتحم كقطعة النسيج، كما أن أسلوب بنائها يشبه بناء القلاع في القرون الوسطى ... القصيدة التقليدية لون من (الريبورتاج) السّريع يجمع فية الشاعر كل ما يخطر بباله من شؤون الحب والحياة والموت والسّياسة والحكمة الأخلاق والدّين ... القصيدة التقليدية مجموعة أحجار ملونة مرميّة على بساط تستطيع أن تزحزح أي حجر منها إلى أية جهة تريد، ومع ذلك تبقى الأحجار أحجاراً والقصيدة قصيدة ( ).     
       وإذا كان نزارٌ قد هاجم القصيدة القديمة عامةَ، فإن شوقي ضيف قد شنّ حرباَ عنيفة على القصيدة الجاهلية تحديداً، فرآها( ) "تجمع طائفة من الموضوعات والعواطف لا تظهر بينها صلةٌ ولا رابطة واضحة، وكأنها مجموعة من الخواطر يجمع بينها الوزن والقافية، وتلك هي روابطها ،أما بعد ذلك فهي مفككة لأنّ صاحبها لا يطيل المكث عند عاطفة بعينها ،أو عند موضوع بعينه ... ما أشبه القصيدة عندهم (الجاهليين) بفضائهم الواسع الذي يضمّ أشياء متباعدة لا تتلاصق، فهذا الفضاء الرّحبُ الطليق المترامي من حولهم في غير حدود هو الذي أملى عليهم صورة قصيدتهم فتوالت الموضوعات فيها جنباً إلى جنب بدون نسق ولا نظام ولا محاولة لتوجيه فكري .....".
       ومن الغريب حقاً أن يكون في المعاصرين من يخلط في هذه القضية، ويحاول أن ينكر حتى وجود وحدة الموضوع في الشعر العربي القديم، يقول محمد مندور : "والناظر في الشعر العربي القديم لا يلْبث أن يلاحظ أنّ وحدة القصيدة العربية لم تكن تتمثل إلاّ في اتحاد الوزن والقافية. وأما الغرض فقلّما نراه موحداً في القصيدة العربية القديمة... وهكذا تكونت القصيدة العربية ذات الأغراض المتباينة المتتابعة، وأصبحت هذه الظاهرةُ تقليداً شعرياَ ثابتاً عند العرب".
       وأما وحدة الموضوع في الشعر العربي القديم فهي واضحة في شعرنا الذي عرفها منذ عهد مبكر عند أمثال الصعاليك( ) ، والهذليين في الجاهلية والإسلام( )  وعند غيرهم من أصحاب المراثي التي يطول الحديث عنها لو أردنا الاستقصاء.



الغزل والرثاء في الشعر الجاهلي
انواع الاغراض الشعرية
الاغراض الشعرية في العصر الجاهلي
اغراض الشعر الجاهلي مع امثلة
الاغراض الشعرية
أغراض الشعر الجاهلي
الاغراض الشعرية في العصر العباسي
تعريف أغراض الشعر
الاغراض الشعرية في العصر الحديث



Previous Post Next Post