خصائص الشّعر الجاهليّ

        الشّعر الجاهليّ هو حجر الأساس في بناء الشّعر العربي كلّه ، وعلى خطوطه سار الشّعر العربيّ بعد ذلك ، وقام هذا الهيكلُ الضخم الذي تركزتْ فيه مجهودات العصور التالية ، وانبسطت فيه مشاعرهم .
        وبعد مرور ما يزيد على ستةَ عشرَ قرناً ، قد يسأل المرء : كيف استطاع راعي الشّياه ، وحادي العيس ، والباحث عن أسباب البقاء - أن يُحوّل الوجود إلى لغة ؟
        وإذا كان لكلّ شعب من شعوب هذا الكوكب طريقتُهُ الخاصةُ في التّعبير عن وجوده في مجالات الفنّ ، فيكون الإنسان العربيّ قد اهتدى إلى مسْلاته السّاحرة عن طريق الأبجدية ، وإذا استطاع علماء الأنثروبولوجيا أن يكتشفوا خصائص الشعوب ، ويدرّجوها كلاّ إلى فصيلته من حيث التعبيرُ عن وجوده وتطوير ذاته فإنهم لن يتعبوا طويلاً ليَكتشفوا أنّ من أعظم الخصائص التي امتاز بها إنساننا العربيّ إيجاده واحدةً من أهمّ المعادلات الكبرى ، وهي لغة الشّعر ، الذي امتاز بخصائص ، نذكر منها :

1- الحسيّة :
        كانت تلك المحاولةُ الإنسانيةُ الخالدةُ - الشّعر - لدى إِنساننا الجاهليّ تدور في فَلَك المحسوس والملموس من عالمه مترامي الأطراف .
        وفي ردّنا على ببّغائية بعض المحققّين من مستشرقين وعرب حول ضيق خيال الإنسان العربي ( ) والتصاقه بالأرض ، مقارنة بما أوجده إنسان الإغريق مثلاً من مخلوقات أسطورية شاركتْ في صُنْع الغيب وصُنع الواقع ، أرى أن المفاضلة بين الشعوب لا تقاس بالمقارنة ، بل بما أبدع كلّ شعب على حِدة ، مع التّأكيد على الطّبيعة الجغرافية التي وُجد هذا الشّعبُ في أحضانها ، والتي كانت العلِّةَ الأولى لميلاد الخصائص البيئية من سلوك فكريّ وسلوك عمليّ لدى كل شعب.
        أجل إنّ الشّعر العربيّ الجاهليّ ، الذي قرأناه ، يدور في فَلَك المحسوس والملموس انطلاقاً من بساطة الحياة الصحراوية الجافّة …
        وإذا ما رجعنا إلى الموضوعات التي عالجها الشّعر الجاهليّ نجدها حسيّة ، فالحديث عن كلّ منها يدور حول النّواحي الحسيّة ، حتى ما كان منها معنوياً نجده قد أصبح مُحَسّاً كأنما تراه بعينيك .
        ولعلّ ذلك راجع إلى الظروف التي كانت تحيط بهم في تلك البيئة ، فقد كانت قاحلة ، فانتشر فيها الفقرُ والبؤسُ . والإنسان في البيئة الفقيرة إنّما يتّجه أوّلاً إلى النواحي الماديّة التي تعود عليه بالنّفع الماديّ ، فهو لا يفكر إلاّ في الفائدة الحسيّة التي تقيم أَوَدَهُ ، وتحفظ حياته أوّلاً . أمّا ما وراء ذلك من المعنويات الأعلى شأناً من ذلك ، فلا تجيء إلاّ بعد الاطمئنان على ما يمكّنه أن يعيش عليه .
        يضاف إلى ذلك أنّ حظّ الجميع من النّاحية الثّقافية كان قليلاً ، والثّقافة إذا ما تهيأت للإنسان بقدرٍ كافٍ ، وسّعت آفاقه ، ومجالَ إدراكه وتفكيرِه ، فحملتْه إلى آفاقٍ أرحبَ ، أعلى من النّاحية الماديّة .
        وكانت علاقاتهم الاجتماعية - في أكثر أحوالها - بسيطة ، وما كانوا يعرفون من ثقافات غيرهم كثيراً ، فلم تُهيّئهم ظروفهم للثقافة الواسعة التي تفتح القلوب على آفاق روحيّة ومعنوية . وقد  لاحظ جورج غورفيتش أن ثمّة تناسباً عكسياً بين المعرفة الحسيّة والثقافة ، فهي تقلّ في المجتمعات المتقدمة ، وتستفحل في المجتمعات الأميّة ( ) . وهذا الأمر طبيعيّ بالنسبة إلى الإنسان الذي يفتقر إلى المجرّدات المعنوية التي ترتبط بالمضمون الثقافي النظري ، وبالنسبة إلى الإنسان الذي يواجه قضايا ماديّةً محددةً ، ولم يتوفر له بَعْدُ وضعٌ حضاريٌ ترِفٌ لكي يميل معه إلى الكليّات المجرّدة .

2- الصّنعة الخفيّة :
        إنّك تقرأ الشّعر الجاهليّ وتعلم أن بعضه حَوْليّ مُحَكّك ، وأنّ نظر الشّاعر قد عادَ إليه المرّة تلوَ المرّةِ لتنقيحه وإحكامه ، ومع ذلك لا تشعرُ بتكلّف صُوره ، ولا بأثر الجهد المبذول فيه .
        وفي أسماء شعرائهم وألقابهم ما يدلّ على البراعة في هذا التنقيح ، فقد لقّبوا امرأ القيس بنَ ربيعةَ التغلبيَّ بالمهلهل ، لأنه أوّل من هلهل ألفاظ الشّعر وأرقّها . ولقّبوا عمروَ بنَ سعدٍ شاعرَ قيس بن ثعلبة بالمرقّش الأكبر لتحسينه شعرَه وتنميقه ، ولقّبوا ابن أخيه ربيعةَ بنَ سفيانَ بالمرقّش الأصغر ، كما لقّبوا الطّفيلَ الغنويّ بالمحبّر لتزيينه شعرَهُ ، ولقّبوا علقمة بالفحل لجوْدة أشعاره ( )…
        فهؤلاء وسواهم شعراءُ اكتسبوا هذه الأسماء ، لأنهم عُرفوا بتنقيحهم شعرَهم وطولِ نظرهم فيه . فقد كانوا يعودون إلى القصيدة بعد أن يقولوها ، أو يكتبوها ، ليشذّبوها ويهذّبوها . وكان زهيرُ بنُ أبي سلمى يُسمّي كبرى قصائده الحوليّات للسبب ذاته .
        ولو نظرنا إلى المعلّقات - على سبيل المثال لا الحصر - لألفينا الشّاعر الجاهليّ يصنع معلقته صناعة محكمة ترفرف في آفاق الجمال الشّعري ، حتى لتكاد العين تغفل عن إدراك أثر هذه الصّنعة ، وينهمر عليها "فيض من الإحساس بجمال الشّعر ، دون تنبّه إلى الوجوه المسبّبة لهذا الإحساس ( ) " .
        وقد خفيتْ وجوهُ هذه الصّنعةِ حتى ليظنّ أنها غير موجودة . ولعلّ أبيات الحارث بن حلّزة تصلح شاهداً على روْعة العمل الفنيّ محكم الصّنع ، خفيّ الصّنعة، فأنت ترى فيه ذلك الاستقصاء الممعنَ لأبعاد الصّورة التي يرسم جوانبها ، وذلك التنبّه الذكيّ للعلاقات بين الناقة والنّعامة ( ) :
غيرَ أنّي أستعينُ على الهَـ       بزَفوفٍ كأنّها هِقْلَةٌ                آنستْ نبأةً وأفزعها القُـ          فترى خلْفَها من الرّجْع والوقْـ    وطِراقا من خَلْفهنّ طِراقٌ          .           ـمّ إذا خَفَّ بالثّويّ النّجاءُ        أُمُّ رِئالٍ دَويّةٌ سَقْفاءُ               ـنّاصُ عَصْراً وقد دنا الإمساءُ    ـعِ منيناً كأنّه إِهباءُ              ساقطاتٌ تُلْوي بها الصّحراء       .
        إنّ فَهْم المعاني المباشرة لهذه الأبيات ليس منتهى قصدنا . ولا بدّ حتى نتذوق هذا الشّعر وما فيه من صُوَرٍ وأخيلة وموسيقا من أن نعيد فيه النظرة تلْوَ النظرة لنستطيع الوقوف على أسرار الجمال والقوّة فيه . وقد بدأ الشّاعر في هذه الأبيات المنتزعة من معلقته يخبرنا أنه يستعين على همّه المقيم الذي تحدّث عنه في أبيات سابقة بركوب ناقته … وهو يريد أن يصف لنا هذه الناقةَ السّريعةَ بأسلوب غير مباشر ، فيشبّهها بالنّعامة . وحتى تكتمل لنا أوصافُ ناقته ، يصوّر النّعامة ، وهي في أقصى حالاتها من السّرعة والاهتمام والانفعال بفكرة الوصول إلى الغرض … فهي أُمٌّ تبتغي صيداً لصغارها، فتسمع نبأة - والنّعام طائر جَفِل - ولا يكفي ذلك - فالصيادون يطاردونها . ويمضي الشّاعر في استقصاء صور المطاردة بما فيها من غبار وايقاع ، ليقول لنا بصورة غير مباشرة ، وبأسلوب فنيّ راقٍ : إن هذه الناقةَ سريعةٌ جداً . فهل قال الشّاعر هذه الأبيات عفْو الخاطر ؟ ومن بديهة حاضرة فحسب؟ أم لعلّه خطّط أولاً كالرسّام الذي يضع الخطوط الأولى للوحته ، ثم يعود لملئها بالألوان والتفصيلات الدقيقة المعبرة عن فكره وشعوره ؟ إنّ البصر النافذ يستطيع أن يلمس أثر الصّنعة في هذه الدّرجة العالية من الإتقان دون أن يفسد ذلك شاعرية الشّاعر ( ) . وأبرز ملامح هذه الصّنعة نلتمسها في هذا الايقاع الموسيقي المنسجم من ايقاع خُفّي ناقة الشّاعر ، وهي منطلقة تعدو ، والمنسجم مع الايقاع النفسي والتناغم الذي نستشعره لوجود النّعامة في مفازتها ، وهي أمّ صغار وذات طول وانحناء … ثم العودة إلى الايقاع الموسيقي ليصوّر به حركة العّدْو واضطراب الأعضاء وارتطامها في أرض الصحراء ، وحركة كلّ جزء من أجزاء اللّوحة : النّعامة تعدو ، والصيّادون وراءها جادّون ، والغبار متطاير .
3- الواقعيّة :
        ونقصد بالواقعيّة تعلُّق القصيدة الجاهلية بالواقع والحياة الجاهلية والبيئة الصحراوية وانبثاقها عنها ، وتصوير حالها تصويراً أصيلاً ، وهذا لا يعني أن شعرهم خالٍ من الخيال ، ينقل نقلاً حرفياً مشاهدات الحياة والطبيعة ، وإلاّ لغدا الشّاعر جغرافياً ومؤرخاً . بل إنه خيال قويّ ، ولكنه محدود بإطار الواقع . فحواسّ الشّاعر تستقبل ما يُرى ، وما يُسمع ، وما يُلمس ، وما يُتذوّق ، وما يُشمّ، ويَختزن هذه المرئياتِ والمسموعات، والملموسات، والمشمومات، وتتفاعل في داخله تفاعلاً خاصاً مع ما يحبّ وما يكره ومع هاجسه الوجودي، ويمنحنا شعراً نكاد من صدقِ صُوَره، وأصالة واقعيّته أن نظنّ أنّ الشّاعر كأنما يحمل آلة تصوير، وأنه يصور لنا بأمانة. غير أنّ واقع الحال غير ذلك . فالشعر الجاهليّ قد بلغ في فنيّته شأواً من الكمال والنضج . وهو قد صوّر لا ما هو كائن ، بل ما يمكن أن يكون . وتوارى ما يُسمى بالصدق الفنيّ الذي يجعل القارئ أو السّامع يكاد يَرى الأشياء ماثلة أمامه كما أراد لها الشّاعر .
        وكان الجاحظ يعجب إِعجاباً شديداً بوصف عنترة لبعض الرّياض ، وتصويره للذباب وحركة جناحيه حين يسقط ، إذ يقول ( ) :

جادتْ عليه كلّ عيْن ثرّةٍ                فترى الذّبابَ بها يغنّي وحده     غَرِداً يحكّ ذراعه  بذراعــه  .                       فتركْنَ كُلّ حديقةٍ كالدّرهم            هَزِجاً كفعل الشّارب المترنّم    فِعْلَ المكبّ على الزّنادِ الأجذمِ  .
        إن الشّاعر في هذه الصورة الرائعة لا يجنح خيالاً ، بل يلتزم بالواقع 000 ولكن أيّ واقع ؟ إنّه قد "صوّر خَلْوة الذّباب بالرّوضة ، وأسمَعَنا طنينه فيها ، وأبى إلاّ أن يفيض عليه من جمال نفسه هو ، فجعله غناءً ، ولم يجعله أيّ غناء ، ولكنه غناء سكرانَ يترنّح ، ثم صوّر حركة هذا الذّباب تصويراً لا يخرج عن الطبيعة أقلّ خروج ، وهي حركة يعرفها من راقب الهوام في حركاتها حول المياه في الرّياض ، فخرج الوصف أميناً واقعياً يتّصل بالحقيقة ، ثم إنّ هذه الصورة في الواقع تعبير جليل عن ذلك القدر من الانفعال والطّرب يأخذ بنفس مَنْ خلا في مثل هذه الرّوضة وبقلبه من الشّاعرية الفيّاضة بعض ما أودعه الله بقلب عنترة ( ) .
        وقد يتساءل المرء : ولكنّ صورة الذّباب ليست الصورة المحبّبة على أيّة حال 000 فكيف تأتّى لعنترة - وهو الشّاعر المجيد - أن يرسم لنا هذه اللوحةَ البريّةَ ، التي أراد بها أن يشبّه ثغر المحبوبة ، الذي وصفه بقوله :
إذْ تستبيكَ بذي غُروبٍ واضحٍ   وكأنّ فارةَ تاجر بقسيمةٍ          .               عذْبٍ مُقَبَّلُهُ لذيذِ المطعمِ      سبقتْ عوارضها إليكَ من الفم  .
        وهنا لا بدّ أن نشير إلى أن العربيّ الجاهليّ لم يكن يأنف من هامة من هوام الأرض ، ولا من حيوان من حيوانها ، ولا ما يتّصل بهذا الحيوان . وكانت صلته بالطبيعة من حوله صلة تكاد تكون عضويّة من شدّة التحامه بها ، وكأنه هو امتداد لهذه الطبيعة في قسوتها إذا قسا ، وفي رقّتها إذا رقّ .
        وقد يكون مناسباً أن يعود المرء إلى درس الحيوان في الشّعر الجاهليّ ليستشعر تلك العاطفة الحميمة التي تربطه به أو إلى ذلك الاحترام الذي يشعر به نحوه ( ) ، حتى لو كان صيداً أشرع في نحره سهماً قاتلاً . ومن الأمثلة على ما نقول أنّ امرأ القيس عندما وقف في ديار محبوبته المهجورة ، ورأى ما يدلّ على أن المكان قد أصبح مسكناً لحيوان الصّحراء لم يأنف من أن يشبّه بعر الظّباء بحبّ الفلفل :
ترى بَعَرَ الآرام في عَرَصاتها    .          وقيعانها كأنّه حَبُّ فُلْفُلِ         .
       
4- المثاليّة :
        ونقصد بها ذلك الطلب الدّؤوب لصور الكمال الأمثل في كلّ موصوف ومتحدَّث عنه . فالشّاعر الجاهليّ عندما يتحدّث عن الجيبة يتخيّر لها أكمل الصّفاتِ وأشرفَها ، ولم تكن حوّاءُ بين يديه إلاّ مَلَكاً كريماً في محراب الشّعر ، ولم يتناولها في ريشته السّاحرة الشّاعرة كما هي قطّ . المرأة لديه ملاذ ، وبداية رحلة ، وحضن دافئ ، وتمثال مرمريّ مقدّس ، ومستودع ذكريات . لم يصوّر لنا الجاهليون امرأة شرسة نكدة ، ولم يوصلوها إلى جناح الشّعر مثقلة بوظائفها العضوية - إلاّ في حالات الهجاء القليلة . وفي الغالب الأعم كانت مولّداً شعرياً لشاعرنا الفارس النبيل : ترحالها يلهمه ، ونظرتها تنطقه ، وهي بعيدة جداً عن تكوين الإنسان البيولوجي . فهل قرأنا لشاعر جاهليّ دون أن نحتفظ بهذه الصورة . إن المرأة ، وهي نائمة تنشر المسك والزعفران ، وكافة أنواع الطّيب، ودائماً ساحرة وفتّانة ، وكأن الشّاعر ألْبَسها غلالة مسحورة ، لا يريد أن يراها إلاّ من خلالها . وكان خياله الرسّامُ يمدّه بالكثير من الصّور الخلاّبة المتدفقة بالسحر ، والجمال ، والصّفاء ، والطّهر . فالرّسوم الطبيعية المنتزعة من البيئة الجاهلية ، والتي رَصَفَ بها جسدَ حوّاءَ وجوارحَها ، كانت كلّها شهيّة الطّعم ، لذيذة المذاق ، محبّبة إلى النفس : لوناً ، وشكلاً ، وشذى .
        عنق المرأة كجيد الغزال ، وشفتاها كأوراق الورد ، وعيناها كعيني البقرة الوحشية . بسمتها تغريك باستجداء اللذة ، وحديثها يوحي إليك بطعم فمها العسليّ ، وأسنانها كأوراق الأقحوان ، وشَعْرها جدول من جداول الليل يتيه المشط فيه ، ونهداها جامدان متماسكان دائماً . وبطنها قطعة من نسيج فضيّ أملس ، وهي دقيقة الخصر أبداً ، حتى لكأنّها قطعتان التحمتا بعنق دقيق . وكان يخشى الشّاعر عليها من أن تتقصّف أثناء السّير . ولرقّتها لا تكاد قدماها تلامس الأرض ، بل تكاد ترقص كالجمال . ويرقّ امرؤ القيس فيدّعي أنّ النّملة الصّغيرة لو سارتْ على بشرتها لآذتها أو جرحتها . وأخشنُ ما عليها أن تستر به هذا الجمالَ وهذه الرقّةَ المفرطةَ الخزُّ .
        أمّا السّوار والدّملج والقرْط فقد بثّها الشّاعر الرّوح ونفخ فيها فإذا هي تتحسّس مواضع الجمال من هذا الجسد المثير . وإذا اعتصر الشّاعر ثوباً لامس جسمها قطَرَ منه المسْكُ والكافورُ والطّيبُ . والأثر الأوحد الذي تفرزه جوارح المرأة هو دمعها ، ولم يبخلِ الشّاعر على هذا الأثر فأكسبه الكثير من الرّونق .
        والمرأة لا تبرح ذهن الشّاعر الجاهليّ ، ولا تفارق خياله . ونحن نحسّ الآن أنّ الجاهليّ كان ينظر إلى هذا المخلوق السّاحر - المرأة - نظرة فيها الكثير من التقديس ، والتّألية ، والعطاء ، والخير . فهو إذا فَرَدَ ذكريات الأمس يدخل حتّى إلى ذاكرته من خلال حوّاء ، وآثار أقدامها ، وصورة هودجها ، ووسوسة حلْيها ، ومن وراء نظراتها الذّابلة الهادئة . وكأن التجربة الشّعرية الجاهلية مرتبطة بالتكوين الأنثويّ الذي يذكرّ شاعرنا الجاهليّ بسرّ مغلق من أسرار التّوالد والبقاء . وعنصر الأنوثة كان لديه ، أو في غمرة شاعريته الفيّاضة الأنبوب الذي يتدفق منه جدول الشّعر . وتركيزنا على هذه الخاصّة جاء من الالتحام الوثيق الذي كان بين القصيدة وحوّاء . فدريد بن الصمّة يرثي أخاه متوجّعاً متفجّعاً ، ولكنّه يصل إلى أحزانه من خلال "أمّ معبد" . وزهير بن أبي سلمى ينشر حِكَمَهُ التي حملتْ مثالية المجتمع الجاهليّ ، ويطرق باب الحكمة في معلقته بيد "أم أوفى" . وقيس بن الخطيم يسرد تاريخ حرب بين الأوس والخزرج - وهي الحرب المعروفة بيوم حاطب - وقبل وصوله إلى صليل السّيوف ، وقراع الكتائب ، والجيش الذي رآه موجاً آتياً متراكباً ، وقبل الفخر في ذاته التي تُقْدم طائعة على الحرب والسّلم ، والحياة والموت جميعاً ، قبل كلّ ذلك يتقدّم من بين يدي الحبيبة التي عرفها صغيرة غرّاً ذات ذوائبَ ، إلى أن نَمَتْ ورآها تحجّ وتنشر الفتنة في البيت الحرام . وليس هذا فحسب ، بل هي من الرّقة والرهافة والوضاءة بحيث لو بدا نصف وجهها فقط تبدّتْ لقيس كنصف الشمس . ونصفها الثاني تغشّتْه سحابة .
        وإذا ما وصف الشّاعر ناقته فإنه يسلك - في ذلك الوصف - مسلك التركيز على الإشارات الدّقيقة المشحونة بالإيحاء النفسي للخروج بصورة ناقة سريعة وافرة النّشاط تبذل من جهدها ما يبهر الشّاعر .
        وقد أشرنا في أثناء حديثنا عن ناقة كعب ( ) ، كيف يحاول الشّاعر أن يلملم لنا صورة ماديّة متكاملة للناقة ، وهي صورة لا توجد في ناقة واحدة في وقت واحد ، ولكن عناصرها تقع في الحياة متفرّقة ، والشاعر الجاهليّ عموماً يركّب من أحسن هذه العناصر صورة واقعيّة في أصولها مثاليّة في نهايتها ( ) .
        وعندما يصف الجاهليّ جواده فإنه ينحت له من الخَلْق والخُلُق ما هو جدير بمثل أعلى ، قادر على طلب الوحوش ، فلا يستطيع أشدّها عَدْواً أن يفلت منه لقدرته على الإحاطة بها ، فكأنّه قيد لها ( ) .
        ويعمد امرؤ القيس - وهو يصف عناصر جسد فرسه الرئيسة - إلى مقارنة تشبيهية منتزعة من حيوانات أخرى تفوقه في بعض حركاتها وأوصافها. ففيه من الظبي خاصرته ، ومن النّعامة ساقها ، أمّا عَدْوه فيشبه الذئب في إرخائه ، ووليد الثعلب في تقريبه . "وإذا ما نظرت إلى مؤخرته رأيته عظيم الأضلاع ، يسدّ ما بين ساقيه بذنب مستقيم . ولعلّ تخصيصه لمدى تدلّي الذّنب بلفظة "فويق" وهي تصغير "فوق" يدلّ على عناية هذا الفارس بالدقائق والجزئيات والمحاكاة بين الواقع الشّعري والواقع الحسّي ( ) " .
        ويستمر الشّاعر في عرض صوره ، كأنها شريط سينمائي تمرّ الصورة تلو الصورة ، فتؤثر في المتلقّي ، إنه يشبّه انملاس ظهر جواده واكتنازه بالحجر الذي تسحق العروس عليه الطّيب ، أو الحجر الذي يكسر عليه الحنظل . ثم يعود للحديث عن سرعة عدْوه فيقول : "إنه يدرك مقدمة الطّرائد الهاربة ويقيّدها، فما تطعن طريدة حتى يصبغ نحره بدمائها ، فيظهر شعره الملطخ بدماء الهاديات ، كأنه شعر مسرّح أشيب ، صبغ بعصارة الحنّاء ( ) " :

له أيْطلا ظبي وساقا نعامة        ضليعٌ إذا استدبرتَهُ سدّ فَرْجه     كأن على المَتْنين منه إذا انتحى    كأن دماءَ الهادياتِ بنحره          .              وإرخاءُ سَرْحانٍ وتقريبُ تتْفُلِ     بضافٍ فُوَيْقَ الأرض ليس  بأعزلِ مَداكَ عروسٍ أوْ صلايَةَ حنظلِ    عُصارةُ حِنّاءٍ بشيْبٍ مُرَجّلِ ( )    .
        وإذا ما افتخر الجاهليّ فإنه ينتقي لنفسه ولقومه من الشّيم العربية ما يكاد يجعلهم فوق العالمين ، على نحو ما يطالعنا هذا في قول عمرو بن كلثوم ( ) :
لنا الدُّنيا ومَنْ أضحى عليها  ملأنا البَرَّ حتى ضاقَ عنّا          .         ونبطش حين نبطش قادرينا  وظهر البحر نملؤه سفينا           .    
        فيخيّل للقارئ أن بني تغلب كانوا إمبراطورية عظمى في ذلك الزمن.
ولا ننكر أن قبيلة تغلب كانت قوة مفزعة في العراق ، قويّة الشكيمة ، يرهبها أعداؤها حتى قيل : "لو أبطأ الإسلام قليلاً لأكلتْ بنو تغلبَ النّاس ( ) " .
لكن أن تكون الدّنيا كلّها ، بما فيها امبراطوريتا فارس والروم ، مِلكاً لبني تغلبَ، إحدى القبائل فأمر فيه نظر .
        ولعلّ السبب في ذلك نفسيّ ، إذ يرفض العربيّ أن يكون فردياً ، "فهو يرفض أن يتحدث عن نفسه كفرد متميّز ، ولكنّه يوحّد فَرْدَه بالذات الإنسانية الكليّة ، كما يتصوّرها نموذجياً ، فتعامل العربيّ فكرياً مع النموذج والمثُل ، وهي التي تجعله ، عندما يصبح شاعراً ، يعبّر عن الفارس من خلال طراز واحد من السلوك والصّفات ، وعن المرأة من خلال طراز واحد كذلك من الجمال والأخلاق والتّصرفات ، وهو الطّراز المقيّم على أنه النموذج الأعلى( )". فالجاهليّ لم يكن يصوّر ما يرى، بل كان يصوّر الجمال المطلق والمثل الأعلى.

5- الصّورة الفنيّة :
        عُني النقّاد المحدثون بالصورة الفنية وأثرها في الإبداع الفني ، وأفردوا لها الكتب والبحوث ، فدرسوا طرق تشكيلها ، وأنواعَها ، ووظائفها .
        والصورة وسيلة راقية يستعين بها الشّاعر في إظهار معانيه ، وتجسيد عواطفه ، وتقريب أفكاره ، فبفضلها تشخّص المعاني المجرّدة ، وتصبّ في صورة مرئيّة محسوسة ، وبذلك تكتسب قوة ونصوعاً ( ) ، وهي "الشكل الفنيّ الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشّاعر في سياق بيانيّ خالص ليعبّرعن جانب من جوانب التجربة الشّعرية الكافية في القصيدة مستخدماً طاقات اللغة وإمكاناتها في الدّلالة ، والتركيب ، والايقاع ، والمجاز ، والترادف ، والتضاد ، والمقابلة ، والتجانس ، وغيرها من وسائل التعبير الفنيّ ( ) " .
        والتصوير هو "التعبير بالصورة المحسّة المتخيلة عن المعنى الذّهنيّ والحالة النفسية ، وعن الحادث المحسوس ، والمشهد المنظور ، وعن النّموذج الإنسانيّ ، والطبيعة البشرية ، ثمّ يرتقي بالصورة التي يرسمها ، فيمنحها الحياة الشّاخصة أو الحركة المتجددة . فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة ، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد ، وإذا النموذج الإنساني شاخص حيّ ، وإذا الطّبيعة البشرية مجسمة مرئية ، فأمّا الحوادث والمشاهد 000 فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة ، وفيها الحركة ، فإذا أضاف إليها المواد فقد استوتْ لها كلّ عناصر التخييل ( ) " .
        والصورة الشّعرية ذات دلالة نفسية ، وهي "كلّ تعبير عن تجربة حسية تنقل خلال السمع أو البصر ، أو غيرهما من الحواسّ إلى الذهن ، فتنطبع فيه ، أي إنّ هذه الحواس كلها ، أو بعضها تدرك عناصر التجربة الخارجية ، فينقلها الذهن إلى الشعور ، ثم يعيد إحياءها ، أو استرجاعها بعد غياب المنبّه الحسّي بطريقة من شأنها أن تثير الإحساس الأصيل في صدق وحيوية ( ) " . فالذهن محتاج في كثير من اعتمالاته إلى الحواسّ لترجمة تلك الاعتمالات ، فتكون الحواسّ أهم وسائل الذهن في الاستقبال والبثّ ( ) .
        ويعد التصوير أهم ركن في الشّعر ، بل لعله الشّعر كله ، ففيه الجمال والبهاء ( ) ، ولا بدّ أن يثير فينا إحساساتٍ جماليةً ، وانفعالات وجدانية تعبر عن التجربة بصورة حيّة ونابضة بالأحاسيس ، قادرة على نقل الحالة النفسية التي اعترت الشّاعر ، وسيطرت عليه لحظة إبداعه الفني ، بحيث يوحي للقارئ "أنه يناجي نفسه ، لا أنه يقرأ قطعة لشاعر ( ) " .
        فهل استوتْ للشاعر الجاهليّ كلّ عناصر التخييل ؟ وهل استطاع أن يبعث الحركة في الجوامد ويمنحها الحياة الشّاخصة ؟ وهل استطاع أن يجسّم لنا مشاهد الطبيعة ؟ وهل استطاع أن ينقل ما يعتمل بنفسه وخاطره نقلاً دقيقاً إلى غيره بحيث يتأكد أن غيره أصبح على دراية بتجاربه ، وكأنه يرى ويسمع ويحس كما رأى الشّاعر وسمع وأحس ؟
        لقد أجاب أستاذنا محمد النويهي عن كثير من الأسئلة التي أثرناها وانتهى إلى "أنهم - الجاهليين - يحاولون في شعرهم أن يجعلونا نبصر الشيء الموصوف وذلك بواسطة هذه الأدوات - الأدوات البيانية - فامرؤ القيس يبدأ وصفه للعاصفة الممطرة في معلقته بقوله :
أصاح ترى برقاً أريك وميضه        .                     كلمع اليدين في حبيّ مكلّل     .
        يستغلّ التشبيه ، ويصرّح بغرضه الفنيّ بجلاء لا جلاء بعده 000 فهو يخاطب كلّ منْ يسمع شعره قائلاً : أنت (ترى) هذا البرق ، الذي سأتحدث عنه، وأصفه لك ، ثم لا يكتفي بهذا الفعل (ترى) بل يضيف إليك (أريك) زيادة في تأكيد غرضه ، كأنّه يريد أن يقول : أنت تراه رؤية سطحيّة ، أو عادية لكنّي سأريك إياه رؤية أعمق وأدق ، ثم يمضي في إعطاء تشبيهات حسيّة متوالية ، يحاول بها أن يجعل سامعه (يرى) ما يصف هذه الرّؤيةَ العميقةَ الدقيقة الوافية( )
        وقال علقمة في وصف إبريق الخمر ( ) :
كأن إبريقهم ظبيٌ على شَرَفٍ    أبيض أبرزهُ للضحّ راقبُهُ        .               مُفَدَّمٌ بسَبا الكَتّانِ مَفْدومُ         مقلّدٌ قُضُبَ الرّيحانِ مفْغومُ     .
        إنّها صورة مزدوجة ، فتشبيه الشّاعر لم يترك كلاّ من المنظرين قائماً بمفرده ، بل هو قد طبع أحدهما على الآخر ، حتى ذاب أحدهما في الآخر ، وتكونت منهما صورة موحّدة عجيبة ، لا تدري أيّهما الظبي ، وأيهما الإبريق…
        فالذي فعله هذا التشبيه هو أنه خلع على الإبريق صفات الرّشاقة والخفة والظرف التي نقرنها بالظبي ، لكن هذه الصفات لم تبقَ مجرد أوصافٍ حسيّة لأحجام ونسب ومواقف مادية ، بل لفتتك فجأة إلى ما في جسم الإبريق جيّد الصناعة من صفات حسيّة يراها الفنان الأصيل ويقتنع بوجودها اقتناع الآخرين بالصفات المادية التي تلمس وتحسّ ( ) .
        ويرسم علقمة لوحةَ فنيةً للظّليم من خلال تشبيه ناقته به ، إذ قدّم لنا تلك اللوحةَ من خلال مشاهد وصورٍ متتابعة يكمل بعضها بعضاً ، مبرزاً اللون والحركة .
        المشهد الأول : مشهد حياتي وادع :
        الظليم في دعة من العيش ، في مرعى ناءٍ خصيب ، يرتعي شجر الحنظل ، ويقطف نبات القنّب ، آمنا غير فزع 000 الظليم مستمتع بمرعاه ، والشاعر مستمتع بمنظر ذلك الظليم ( ) :
كأنها خاضبٌ زعْرٌ قوادمُهُ   يظل في الحنظل الخُطبانِ ينقُفُه         .           أجنى له باللّوى شَرْيٌ وتنّومُ وما استطفّ من التنّومِ مخذومُ     .
        المشهد الثاني : مشهد نفسي :
        هاجت في نفسه ذكرى بيضاته ، فالرّذاذ والريّح يوحيان بقرب وقوع المطر ، والمحافظة على بيضه من الفساد تستدعي احتضانها بجسده ، فيهبّ مذعوراً :
حتى تذكرّ بيضاتٍ وهيّجه        .                  يوْمُ رذاذٍ عليه الريحُ مغيومُ     .
        المشهد الثالث : مشهد دفاعي :
        يسرع عائداً إلى أدحيّه بخطى متلاحقة ، وجري سريع ، ثم يشتد في سرعته ، التي يكاد لفرطها يختلّ مقلته بأظافر رجليه :
فلا تزيّده في مَشيه نَفِقٌ       يكاد منسمُهُ يختلّ مقلتَهُ          .                   ولا الزّفيفُ دَوَيْنَ الشَدّ مسؤومُ كأنّه حاذرٌ للنّخس مشهوم      .
        المشهد الرابع : مشهد عاطفي :
        وصول الظليم إلى أدحيّه "منزله" قُبَيْل غروب الشمس ، ويصّور الشّاعر بالصوت واللون والحركة ذلك المشهد :
حتى تلافى وقرْنُ الشمس مرتفعٌ   فطاف طوفين بالأدحيّ يقفُرُهُ يأوي إلى حسكلٍ زعْرٍ حواصلُهُ يوحي إليها بإنقاضٍ ونقنقةٍ  صَعلٌ كأنّ جناحيْه وجؤجوه  تحفّه هقْلَةٌ سطعاءٌ خاضعةٌ       .                أدحيَّ عِرْسيْن فيه البَيضُ مركومُ كأنه حاذرٌ للنّخس مشهومُ  كأنهنّ إذا برّكْنَ جُرْثومُ       كما تراطنُ في أفدانها الرّومُ   بيتٌ أطافتْ به خرقاءُ مهجومُ تجيبه بزمارٍ فيه ترنيمُ           .
        هذه المشاهد الأربعة ، كلّ مشهد فيها يمثل حالة ، تشترك كلُّها في رسم لوحة شاخصة واحدة ، فحالة الاطمئنان تتبعها حالة فزع ، ثمّ حالة ردّ فعل ، انتهاء بتلك الحالة الوجدانية التي تفيض بالإحساس والشعور ، فهو يصور الحالات الانفعالية الظاهرةَ والباطنةَ أدقّ تصوير ، باختصار وسرعة دون أن يُخلّ ذلك بالتّصوير ، أو طريقة العَرْض 000 انه حقاً مشهد تمثيلي رائع متكامل .
        لقد أبدع الشّاعر الجاهليّ لوحاتٍ شعريةً لا تدعُ للذّوق الجماليّ سبيلاً إلى إغفالها ، أو الإضراب عنها ، أوْدعها انجذابه إلى كلّ رائع وجميل ، وضمّنها إعجابه بكل سامٍ وجليل . إنها لوحات فنية تجمع دقة الملاحظة إلى بلاغة القول ، وشفافية الوجدان إلى نصاعة البيان ( ) .
        وصفوة القول : إنّ الشّاعر الجاهليّ قد صور كل ما وقع تحت حسه ، أو جال في نفسه ، عندما أراد أن يعبّر عنه ، ويقربه إلى أذهان الآخرين ، ويمتعهم ويؤثر فيهم بما جال في خواطره . وامتاز الأسلوب التصويري الجاهليّ بخصائص ( ) :
1- إن قارئ الشّعر الجاهليّ في نماذجه المختلفة ، يلاحظ غلبة الأسلوب التصويري على موضوعات بعينها ، تتردد في قصائده على اختلاف أغراضها، هي : الوقوف على الأطلال ، ووصف جَمال المرأة التي يتغزل فيها الشّاعر ، ووصف الحيوان ، والطير في قصص الصيد المعروفة ، ووصف السّحاب والمطر وما يحدثه من خصب ويجدده من حياة في الأرض الموات - إلى غير ذلك من الموضوعات النمطية التي لا تخلو منها قصيدة في الشّعر القديم .
2- إنّ صور هذا الشّعر على كثرتها وتنوعها ، تتردّد فيها - أو قُلْ تتكرر - عناصر لغوية وموضوعية وروحية واحدة ، وكأنها كانت لدى شعراء الجاهلية جميعاً بمثابة "الشعائر المقدسة" التي وُكل إليهم تلاوتها .
3- إن أطراف هذه الصور وعناصرها المتقابلة ، تتداخل في الموضوعات المختلفة ، فيما بينها تداخلاً شديداً ؛ فقد درج الشعراء الجاهليون على أن ينقلوا صفات الأشياء بعضها إلى بعض مُحْدثين فيها ما يعرف في النقد الحديث بـِ "تراسل الحواس" ، وذلك بما أحدثوه فيها من تحوير وتحريف ، وما خلقوه بين أطرافها المتنافرة من علاقات : فهم يجمعون بين المرأة والبدر والبقرة الوحشيّة والغزالة والمهاة والظبية والرئم والنخلة 000 كما يجمعون بين الأطلال والوشم والسّحاب والكتابة والصّحائف ؛ وبين الثّور والسّيف ، والثّوب المخطط ، وبين الخيل والأسود والسّهام وقرون البقر والرّماح وشوك النخل ؛ إلى غير ذلك من الصور التي تتداخل وتتبادل فيها الكائنات المختلفة من حيوان ونبات صفاتها وخصائصها المتباينة .

6- التّشخيص :
        وهو ظاهرة فنية ، ذات شأوٍ رفيع في الشّعر الجاهليّ ، اتخذها الشعراء وسيلة تعبيرية مرنة ، يرسمون بها لوحاتهم الفنية ، ويضمّنونها الأحاسيس والقيم الجمالية التي عنها يصدرون .
        والتشخيص أرقى مستويات التصوير في الشّعر الجاهليّ ، وعن طريقه تكفّ المادة عن أن تكون جامدة ، وتكف الحيوانات عن أن تكون بكماء ، وتكف المعاني عن أن تكون ذهنية مجردة خيالية . وإنما تغدو كلها ملأى بالحياة ، مترعة بالحركة ، وتكتسب خصائص البشر ، فإذا بها تحسّ ، وتنفعل ، وتفكر، وتقف مواقف معيّنة ( ) .
        لقد ركّز الشّاعر الجاهليّ عدسته الفنية على الطبيعة ، فالتقط صوراً مختلفة لحيوانها ، من ناقة ، وثور ، وحمار ، وبقرة وحشيّة ، وظليم . وأدرك الشّاعر الجاهليّ أن رسالته ليست مخصوصة بالفكر وحده ، وإنما هي رسالة مزدوجة : في الفكر والفن معاً ، فأراد أن يُدخل المتعة الفنية إلى قلوب مستمعيه، فقدم لهم - ولنا - نماذج عُليا في الفن ، خلع عليها من أحاسيسه ، وعواطفه ، ومشاعره الإنسانية ، ما أبهر مستمعيه وقُرّاءه ، مما جعل تلك اللوحات الفنية خالدةً ، استطاعت أن تثبت ديمومتها أمام العصور ، فتنبعث مع كل زمان بحقيقة جديدة .
        ولعل من أبرز الأمثلة التي تصور ما ذهبنا إليه قول المثقب العبدي في ناقته ( ) :
إذا ما قُمتُ أرحلها بليلٍ      تقول ، إذا درأتُ لها وضيني! أكُلَّ الدّهرِ حَلٌّ وارتحالٌ ؟!         .               تأوّهُ آهةَ الرّجل الحزينِ    أهذا دينُهُ أبداً وديني ؟!       أما يبقي عليّ وما يقيني ؟!     .
وأوّل ما يلفتُ النظر في هذه الأبيات لجوء الشّاعر إلى إضفاء المشاعر الإنسانية على ناقته ، وذلك في تأوَهها . ولا شكّ في أن "تأوّه آهَةً" كلمتان فيهما عمق انفعاليّ ينسجم مع حالة الشّاعر .
إن حديث الشّاعر مع الناقة لا يرد كثيراً في الشّعر الجاهليّ ، لأن عناية معظم الشعراء كانت منصبة على الناحية الجسدية للناقة . وليس هناك غرابة إذا ما خطر ببال الدارس أن يكون "الرّجل الحزين" هو الشّاعر نفسه ، فهو يتأوه في رحلته مع الحياة ، كما أنّ الناقة تتأوّه في رحلتها أيضاً .
والشاعر يتعب ناقته ، ويجهدها لأنه قلق متعب ، فزجّها في مسالك صعبةٍ 000 ووجد في ناقته خليلاً وأليفاً ، يستريح على أنفاسه ، فتقاسمه شطراً من العذاب والعتاب ، وبذلك يدخل الشّاعر في تلاحم عضوي مع ناقته ، بصورة لم نعهدها في شعرنا العربي إلاّ قليلاً ، ويكون المثقب العبدي "قد هدم جدار العجمة العالي بينه وبين ناقته ، وقدمها لنا - من غير زيف أو مكر - صديقاً حميماً ، ثقّله الحزن والمكروه ، وشقّ عليه الصديق ، فحار في أمره وأمر سواه، يصبر على باطله       ، ويدفع حزنه بالعتاب والشكوى بين يديه ، فلمستِ القلوب منّا جميعاً ، ولاذت بالصّدور ( ) " .
ولعلّ هذا ما دفع طه حسين إلى إظهار إعجابه بهذه الأبيات قائلاً : إنّ هذه الأبيات خليقة بأعظم الإعجاب ، وهي من أروع ما قال الناس ، لا في اللغة العربية وحدها ، بل في غيرها من اللغات أيضاً ( ) " .
ومن الجدير بالذكر أن حديث الناقة مع الشّاعر لم يكن أمراً مألوفاً عند بعض النقاد القدماء ، ولذلك وقفوا من هذه القضيّة موقفاً سلبياً ، فقد قال ابن طباطبا : "فمن الخطابات المغلقة والإشارات البعيدة قول المثقب في وصف ناقته 000 فهذه الحكاية كلها عن ناقته من المجاز المباعد للحقيقة ، وإنما أراد الشّاعر أن الناقة لو تكلمت لأعربت عن شكواها بمثل هذا القول ( ) .
إن النظرة الأولى للنصّ تنفي أن يكون هذا الرّأي صائباً ، لأن الناقد علق على هذه الأبيات دون أن يربطها بالسّياق العام للقصيدة . ولو عاين القصيدة معاينة كاملة ، وانتبه إلى الناحية النفسية لما ذهب إلى مثل هذا الرّأي، "فنحن أمام درجة من درجات تفاعل الذات الشاعرة مع موضوعها ، فالشاعر لا يسقط مشاعره على ناقته ، ويخلع عليها حزنه العميق من قدره فحسب ، بل نحن أمام ذات تحاول أن تعي نفسها من خلال تأملها لموضوعها ( ) " .
إن تفاعل الشّاعر مع موضوعه هو السبب الرئيس الذي جعله يستنطق الناقة ، فهو يتوحّد مع ناقته في لحظات المشقة والكلال والتعب والشكوى من الزمن "أكلّ الدهر حلّ وارتحال" ، فكأن الشّاعر والناقة التي يتوحد معها يقفان من الزمن موقف المتذمر ، فالزمن يشكل لهما همّا ، لأنه لا يمنحهما الراحة والطمأنينة ، بل هو ذلك القضاء المقدر عليهما ، وبذلك يتساوى الشّاعر مع ناقته بالإحساس أن الحياة فضاء متناهٍ ، وأن الإنسان عليه أن يدور في فلك هذا الفضاء حتى النهاية .    
ولا يقلّ ما قاله سُبَيْع بن الخطيم التّيميّ في ناقته عمّا قاله المثقب ، فقد ترك وصفها والحديث عنها عمّا عليها من رحْل أو متاع ، ليصوّر لنا أحاسيسه تجاه أحاسيسها ، وكأن بينهما مناجاةً حزينةً ، فهي تحنّ وتمعن في الحنين ، وكأن صدرها مزامير لا تفتأ تزمر ، وتصوّت ، فيشفق عليها تارة ، ويزجرها تارة أخرى ، فتستعيض عن الحنين الاجترار والصّريف بأنيابها ، لأنها لم تستطع أن تكلمه ، ثم تنهال عبراتُها ، فيقع في روع الشّاعر أنها ضائقة بزجره إيّاها ( ) .
ويظهر فنّ التشخيص - بشكل جليّ - في لوحة الحصان ، الذي شكا إلى عنترة ضراوة الحرب ( ) :
ما زلت أرميهم بغُرة نحره   فازورّ من وقع القنا بلَبانه        لو كان يدري: ما المحاورة اشتكى        .                       ولبانه حتى تسربل بالدّمِ    وشكا إليّ بعبرة وتحمحمِ    ولكان لو عَلِمَ الكلامَ مُكلّمي     .
 فالصورة يبدو فيها عنترةُ يدفع حصانه ، ليخترق صفوف الأعداء ، الذين كانت رماحهم تنهال على الحصان حتى تمزّق جسدُهُ ، واكتسى سِربالاً من الدّم ، فالتفت بوجهه إلى عنترة ، وكأنما يستعطفه أن ينظر إليه ، وشكا إليه بعبرة انحدرت على جبينه ، وزفرات مكتومة من صدره .
لقد أضفى عنترة على حصانه مشاعر إنسانيةً ، فهو يتألم مثلما يتألم الإنسان ، ويشكو مثلما يشكو الإنسان ، ويستعطف مثلما يستعطف الإنسان ، لعلّ ذلك الفارس ، ذا القلب الكبير ، يرقّ له ، فيتراجع إلى الوراء ليخفّف انهيال الرّماح عليه . فدهش لعظمة هذا الحصان الذي خرج من عجمته الحيوانية إلى مخلوق إنساني يمارس كلّ الأفعال التي تسمح له بارتقاء المدارج التي تفصل بين الحيوان والإنسان ويقف على تخوم النطق الإنساني فيشرح معاناته ويشكو حاله المتأزم من غير كلام .
وهذه القوة الفنية في التصوير امتاز بها الشّعر الجاهليّ ، ويستطيع القارئ العزيز أن يجد نظائر كثيرة لهذه الأمثلة التي ضربناها في باب الوصف، وبخاصة وصف الحيوان . وهذا ما يشجعنا على أن ننتهي إلى القول : إنّ الشّاعر الجاهليّ كان فناناً موهوباً ، استطاع أن يقدّم لمجتمعه فكراً وفناً ، أبدع فيه صوراً حيّة ، تتحرك ، وتتحدث ، فاكتسبتْ تلك الرّوائعُ الفنيةُ الديمومةَ والخلودَ . وكانت تلك النماذجُ خليقةً بأن تجذب الإنسان للاستمتاع الجماليّ بذلك الحيوان ، تقرُّ العينُ برؤيته البهيّة ، وطلعته الغراء ، وتهدأ النفس لتصرفاته وسلوكه ، يقول ابن جُزيّ الكلبي : "وإذا نظرت في شأن الفرس ، وجدتَ له من قوة الإدراك ، وحدّة القلب ، وذكاء الذّهن ، وصحة المِيَز ، وعزة النفس ، وكرم الطبع ، ما يقصّر عنه كثير من جنس العقلاء ، ويعجز عنه كثير من الناطقين الألبّاء … ( ) .

 مواضيع ذات صلة 


خصائص الشّعر الجاهليّ
مميزات ايجابيات خصائص الشعر الجاهلي
خصائص الشعر الجاهلي للصف الحادي عشر
الخصائص المعنوية واللفظية للشعر الجاهلي
سمات الشعر الجاهلي
من خصائص الشعر الجاهلي اعتماده على وحدة البيت
اهم الشعراء في العصر الجاهلي
خصائص الشعر الاموي
خصائص العصر الاسلامي



Previous Post Next Post