الفن
        الفن صورة من الحياة00 ولا يملك إلا أن يكون كذلك!
        وأصحاب المذاهب((الواقعية)) الذين يتصايحون بأن الفن ينبغى أن يكون للواقع، وأنه لا يوجد شئ يسمى((الفن للفن))00  أولئك ما كان لهم أن يتصايحوا! فالفترات ذاتها التى كان يبدوا فيها أن الفن ينشأ من أجل الفن لا من أجل الواقع، كان الفن فيها يعكس صورة((واقعية)) من حياة الناس! فلولا أنهم- لسبب من الأسباب- قد رغبت نفوسهم فى هذا اللون من الفن لما أمكن أن يوجد وأن يروج بين الناس! والرومانتيكية- كمثال- إذا كانت تمثل الهروب من الواقع، والجنوح إلى الخيال المفرط الغريب00 فليس ذلك لأن الفن فيها كان للفن00 وإنما لأن الناس فى تلك الفترة من تاريخهم كانوا يحبون الهروب من الواقع، والجنوح إلى الخيال المفرط الغريب00!
        ومن ثم يكون الفن فى جميع أحواله صورة من الحياة00 حتى ولو كان يمثل الهروب من واقع الحياة!
* * *
        تلك مقدمة لا تعنينا- إلا بقدر- فى هذا الحدث! فمجالها الأصيل هو النقد الفنى([1])! ولكنا نحتاج إليها هنا من حيث تعطينا المفتاح لفهم انحرافات الفنون الجاهلية، التى تنشأ فى مجتمع جاهلى00 ولا تملك إلا أن تنحرف مع انحرافات الجاهلية0 لأنها لا تملك- فى أية حالة- إلا أن تكون صورة من الحياة!
* * *
        أول ما يلفت النظر فى الفنون الغربية أنها فنون وثنية! لا تنشأ إلا فى بيئة وثنية، ولا تنشئ إلا إنسانا وثنيا فى نهاية المطاف!
        وفى هذه الفنون روائع((إنسانية)) بارعة ولاشك00  روائع عميقة وعالية معاً، تلقى أضواء كاشفة على أغوار النفس الإنسانية، وآمالها وآلامها ومسراتها وعذاباتها00 وترتفع بالمشاعر الإنسانية إلى عالم رفيع00

        ومن أجل هذه الروائع- فى داخل الفن الوثنى- ظن الناس أن الفن ينبغى أن يكون وثنيا! وأن الاتجاه الوثنى فى الفنون حلية تتحلى بها هذه الفنون00 لتحسن وتجود!
        والأمر فى هذه الروائع الفنية هو ذات الأمر بالنسبة لكل شئ فى الجاهلية0 لا يمكن أن يكون شرا خالصاً، ولا يمكن أن يكون خلوا من الخير0 لأن النفس البشرية لا تستطيع- بمجموعها- أن تتمحض للشر، ولابد- مهما فسدت- أن تظل فيها قطع من الخير متناثرة هنا وهناك0
        ولكن هذا الخير المتناثر لا يستطيع أن يعفيها من وصمة الجاهلية، ولا يستطيع أن يعفيها كذلك من تبعة الجاهلية00 وما يترتب على الانحراف من ازدياد مستمر يصل إلى البوار0
* * *
        والظاهرة الغريبة فى الفن الغربى أنه- فى تاريخه كله- مشغول إما((بالآلهة)) وإما بصراع الآلهة والإنسان! ولست أدرى الآن- فإنى لم أدرس هذه الظاهرة بعد، وأرجو أن يتنبه لها غيرى ويدرسها- لست أدرى إلى أى حد يمكن أن تكون هذه سمة((بشرية)) فى الإنتاج الفنى البشرى: أن يكون مشغولا إلى هذا الحد بفكرتى الله، والإنسان، وما بين الله والإنسان من صلات([2])0  
        ومن أجل هذه الظاهرة- بصفة خاصة- ظهر الفساد فى الفن الغربى00 لأنه يتتبع انحرافات العقيدة خطوة خطوة00 ويقع فيما تقع فيه العقيدة من انحرافات!
        منذ بدء التاريخ الأوربى، كان الفن اليونانى يمثل- حثى فى((أروع)) إنتاجه- ذلك الصراع الكريه المنفر بين الآلهة وبين الإنسان00 وبين((القدر)) وبين الإنسان0
        كل المسرحيات اليونانية الشهيرة لا تخلو من آثار هذا الصراع00
        الإنسان يريد يثبت ذاته0 وهو لا يرى طريقة لإثبات ذاته إلا أن يصارع القدر ويصارع الآلهة00 وفى كل مرة- تقريباً- يكون الإنسان على حق، والقدر00 أو الآلهة00 هى التى تتحكم فيه لغير شئ سوى شهوة التحكم، بلا منطق واضح ولا مبرر مفهوم!
        وتقع المأساة حين يتحطم البطل- الصالح- على يد القدر، أو على يد الآلهة الجبارة التى لا ترحم، والتى تفتك بالبطل لغير معنى00 سوى عقابه على أن يتحدى الآلهة الجبارة، ويريد أن يصبح إلهاً هو الآخر، متحكما فى مصير نفسه، صانعاً تاريخه بيده00 غير مصيخ للقوى الخارجية التى تخضع بجبروتها الإنسان0
        ويظل فى نهاية المأساة هذا الإحساس: أن الإنسان خير00 ومظلوم0 وأن الآلهة شريرة00 وظالمة0 وأنه لا وسيلة للصلح بين الجبروت الظالم والخير المظلوم!
        وفى ظل هذا التصور الجاهلى نبتت- كما قلنا-((روائع فنية)) تلقى أضواء كاشفة على أغوار النفس البشرية، وترتفع معها أحياناً إلى آفاق عليا00 ولكن الجو المسمم الذى يعطيه ذلك الصراع، يفسد هذه الروعة الفنية، ويلقى عليها ظله الكريه00
        وربما كان مفهوماً- من حيث التحليل النفسى- أن يوجد مثل هذا الانحراف فى طفولة البشرية التى تمثلها الفترة اليونانية00 ففى الطفولة- المنحرفة- يحب الطفل أن يثبت ذاته بأن يرفض اليد((العليا)) التى تواجهه! كأنه يحس فى ظل هذه اليد الموجهة المعنى العجز والضآلة! وأن الشخص ((الكبير)) لا يخضع لأحد00 إلا ذات نفسه00 ومن ثم- لكى يحس أنه كبير- يخرج على توجيه الكبار00 ويتحداهم0 ويحس حين يصل الانحراف أقصاه- أن الكبار يريدون أن يحطموه ويصغروا من شأنه00 وكلما زاد خروجاً عليهم، وزادوا توجيهاً له، زاد هو نفوراً وحقداً على هذا التوجيه00 وود لو يرد على هؤلاء الكبار بتحطيمهم أجمعين! 
هذا انحراف خطر يعرفه علم النفس التحليلى معرفة وثيقة!           
ولقد كان هو ذات الانحراف- أو شبيهه- الذى استولى على النفس اليونانية فى جاهليتها، فأنتجت هذا السيل من الفن-((الرائع)) فى بعض جوانبه- والذى لا يسلم من هذا الظل الكريه الذى يلقيه الصراع البشع الدائر بين الآلهة والإنسان00
        وليست أسطورة بروميثيوس وحدها هى التى تشير إلى هذا الصراع00 ولكنها جملة أساطير، سجلتها المسرحيات اليونانية فى مختلف العصور00
        وهو انحراف00 حتى بالنسبة للطفولة البشرية! فليس كل طفل يشعر بذلك نحو الكبار0 وإنما هو فى صورته السوية يبادلهم الحب0 وقد يتألم أحياناً من توجيهاتهم لأنها تؤذيه فى ذات نفسه- والنفس بطبيعتها تكره النقد وتحب المديح- وقد يحب كذلك أن يثبت ذاته بأن يعتمد على نفسه فيما كان يتلقى فيه العون من قبل من الكبار00 ولكن لا يصل الأمر إلى الحقد والكراهية والرغبة فى التحطيم، وتصور رغبة الآخرين فى تحطيمه، إلا حين يكون فى الأمر انحراف00
وفى الجاهلية اليونانية كان ذلك الانحراف، الذى انعكس فى فنهم واضحاً، لأن الفن صورة من النفس وصورة من الحياة00
* * *
        تلك سمة من سمات الجاهلية اليونانية، فى الحياة والفن00

        وسمة أخرى هى عبادة الجسد00 عبادة وثنية تجعل من الجسم الجميل إلهاً يعبد، وتقدم له القرابين00 ويزعم لها الزاعمون أنها ليست شهوة00 وإنما هى فن! فن يعجب بالنسب والأبعاد؛ بالجمال المجرد، وإن كان يتجسم فى جسد إنسان!
        وفى الجاهليات- من هذا النوع- مزاعم كثيرة00 لا تثبت للتمحيص00
        فواقع الحياة اليونانية- التى زعمت أنها تعبد الجمال جمالا مجرداً من شهوة الجسد- كان هذا الواقع يعج بالمباذل الخلقية التى دمرت فى النهاية حضارة اليونان00 كما أن أساطير((الحب)) والجمال عند الإغريق، حافلة بهذه المباذل التى يغرق فيها البشر والآلهة إلى الأذقان!
        لقد كانت إذن شهوة هذا الجسد، تتستر وراء عبادة الجمال!
* * *
        هذان الانحرافان الجاهليان فى الجاهلية اليونانية القديمة، ألقيا ظلهما طويلا، وطويلا جدا، على الفنون الغربية منذ عصر النهضة إلى العصر الحديث00
        فبعد الفترة المسيحية- القصيرة نسبياً- التى شغل الفن فيها((بالإله)) على الصورة التى قدمتها الكنيسة الغربية، وامتدا فيها ظل الجاهلية اليونانية والرومانية معاً فى تجسيد الإله وعبادته فى صورة وثن حسى ملموس، فى التماثيل العديدة التى قامت لهذا الشأن([3])0 بعد هذه الفترة عادت الهيلينية منذ عصر النهضة تحكم الاتجاهات الفكرية والفنية حكما واضحاً صريحاً00 وترد الناس إلى وثنية اليونان كاملة فى كل شئ00  
        ولقد مرت على أوروبا فترة عاشت فيها بشخصية مزدوجة، مسيحية وهيلينية فى ذات الوقت0 مسيحية فى العقيدة، وهيلينية فى التفكير والفن00 ثم جنحت رويداً رويداً إلى الوثنية الكاملة فى كل شئ00
        وجاء الوقت الذى عبدت فيه أوروبا((الطبيعة)) وهى هاربة من الكنيسة وإلهما الذى تستعبد به الناس!
        هذه الفترة تتوافق- فى تاريخ الفن الأوربى- مع الحركة الرومانتيكية00 إنها مرة أخرى فن مشغول((بالإله)) ولكن على انحراف فى تصور الإله!
        إن الحركة الرومانتيكية لم تكن حركة((إعجاب)) بالطبيعة00 وإنما كانت((عبادة)) للطبيعة00 
        وذلك هو مصدر الانحراف فيها!
        التجاوب مع الطبيعة شعور إنسانى أصيل00 عميق فى أعماق الفطرة0 فقد خلق الإنسان وفى فطرته هذا التجاوب الحى مع الأحياء الآخرين ومع الكون00 كما خلق وفى فطرته هذا السرور الخفى((بالجمال)): أبعاده ومقاييسه، وألوانه وظلاله، وكل صورة من صوره00
        وإذن فلا انحراف فى((الإعجاب)) بالجمال00 بل هو الأمر الطبيعى الذى يعتبر غيابه نقصاً فى الكيان البشرى، وانحرافاً عن الفطرة السليمة0
        ولكن((عبادة)) الجمال- فى أى صورة من صوره- هى انحراف وثنى، لا تلجأ إليه الفطرة السليمة، التى تعبد الله خالق الجمال، وتعبده من خلال الإعجاب بالجمال، ولكنها لا تجعل عبادته فى داخل هذا الوثن الذى اسمه الجمال!
        وفرق بين الاثنين واسع كبير!
        وكل الكلام((الجميل)) المعسول الذى قيل لتبريد هذه الوثنية: أن الطبيعة((محراب)) الله0 أن الجمال((صورة)) الله0 أننا نعبد الله فى خلقه00 إلى آخر هذه الجمل((الرومانتيكية)) البراقة00 كل هذا الكلام لا يستطيع أن يخفى تلك الروح الوثنية الغارقة فى الوثنية، التى تعبد((المحسوس)) فى حقيقة الأمر، لأنها تعجز عن إدراك((الله)) بالروح00 والروح غنية عن المحسوسات!
        وقد كانت الرومانتيكية – بهذا المعنى – حركة وثنية منحرفة .. بصرف النظر عما يراه فيها ((الواقعيون)) من أنها كانت منحرفة لأنها لا تعيش فى ((الواقع)) ولأنها تمثل حركة هروب من الحياة([4])0
* * *
        ومن الرومانتيكية ((المنحرفة))([5]) انتقلت أوربا إلى جاهلية فنية جديدة .. هى ((الواقعية)) المنحرفة!
وكان ذلك – مرة أخرى – يمثل تحولا فى العبادة، وتحولا فى الإله !
        بطلت عبادة الطبيعة .. حين كشفت ((أسرارها)) وسيطر العلم الإنسانى عليها – كما تصورت أوروبا – وبردت حرارتها.. وانتقل الإنسان إلى عبادة جديدة فى ظل الانقلاب الصناعى، والفتنة بالعلم ومخترعاته، والفتنة بقدرة ((الإنسان))0
        وكانت العبادة الجديدة هى عبادة الإنسان !
        لقد آن أن ينفض الإنسان عن نفسه عبادة ((الله))، التى اعتنقها فى فترة جهله وعجزه، وأن يصبح هو الله !
        ومرة أخرى تتبع الفن الغربى الإله الجديد .. فوجه اهتماماه – بدلا من الطبيعة – إلى الإنسان!
        ومرة أخرى نقول إن ((الاهتمام)) بالإنسان ليس فى ذاته انحرفا .. فى الفن أو فى واقع الحياة. فمن الأمور الطبيعية البديهية أن يتم الإنسان بنفسه، وبتصوير حياته وانفعالاته، ومشاكله وصراعاته، وجهاده وكدحه على وجه الأرض00
        ولكن الانحراف هو ((عبادة)) الإنسان0
        وقد كان اهتمام الفن الأوروبى بالإنسان فى هذه الفترة ((تحدياً)) للإله !
        فليس الأمر مقصوراً على إبعاد الله البتة من مجال الفن، وتحرير المشاعر الدينية والأفكار ((المستقيمة)) على الجو الفنى، بل تعداه إلى السخرية العنيفة – المقصودة – بكل شعور دينى، وبكل توجه إلى الله !
        ولم يكن الأمر كذلك مقصوراً على السخرية ((برجال الدين)) المنحرفين.. ففى وسع الفنان أن يسخر ما شاء من ((رجاء الدين)) المنحرف، ليعيد للدين الحقيقى وقاره، ويرسخه – فى صورته الصافية – فى قلوب الناس ووجدانهم0
        ولكن فن هذه الفترة لم يكن يسخر برجل الدين ليرد للدين الصحيح اعتباره وصفاءه وقداسته.. وإنما هو يستتر وراء رجل الدين، ليسخر فى الحقيقة من مفاهيم الدين كلها، ومن ((سذاجة)) الإيمان بالله !
        وانتشر الأدب ((الإلحادى)) فى كل الأرض .. أدب ملئ بالتوقح على الله، والسخرية من عبادة اله .. وسمى هذا ((تحرراً فكرياً)) ليس غير 00 !
        ولكن فى ذات الوقت كان تياران جاهليان آخران يجرفان الفن ((الواقعى)) فى طريق الانحراف0
        التفسير الحيوانى للإنسان 00 والتفسير الجنسى للسلوك0
        التفسير الحيوانى للإنسان ألقى ظله على لون من الفن الواقعى سماه أصحابه الفن ((الطبيعى)) .. يصور الإنسان مجموعة من السفالات ممتدة بغير حد ! فالإنسان سافل بطبعه، دنئ، مخاتل، مخادع، انتهازى لا مبادئ له ولا أخلاق. وإنما هو يلجأ إلى ((التظاهر)) بالأخلاق والمبادئ نفاقاً.. من أجل المجتمع ! [لم يقل أحد من هؤلاء الناس جميعاً لماذا يترضى الإنسان المجتمع((بالتظاهر)) بالأخلاق والمبادئ!! ألم تكن لهذه الظاهرة – على فرض صحتها – دلالة على كيان الإنسان؟!]0
        والتفسير الجنسى للسلوك أنشأ ((فنا)) كاملا قائماً بذاته .. الأدب المكشوف، والصور العارية، والسينما العارية، والقصة العارية، والأغنية المثيرة، والنكتة المصورة العريانة 00 و 00
        وراج هذا ((الفن)) .. أو ((روج)) كما لم يحدث قط فى التاريخ 0
        وكانت وراء ذلك الصهيونية العالمية تدمر كيان ((الأميين)) 0
* * *
        ولكن ((الانحرافات)) لم تقف عند حد 0
        لابد أن يتبع الفن كل انحرافات التصور وانحرافات السلوك .. لأنه – فى كل حالة من حالاته – صورة من الحياة 0
        إن ((الجزئية)) التى وسمت  بطابعها التصور الإنسانى للنفس البشرية، قد ألقت ظلها كذلك على الفنون0
        فمن نظريات فرويد عن العقل الباطن – وأنه هو – لا العقل الواعى – حقيقة الإنسان – نشأت السريالية فى الأدب والفن، ونشأ الفن التجريدى .. وغيره من ((تقاليع)) الفن الحديث .. كلها تقوم على أساس أن العقل الواعى هو الجزء المزور من الإنسان، الذى لا يمثل حقيقته الباطنية العميقة الأصيلة! وإنما يمثلها فقط ذلك العقل الباطن، ((المنكوش)) غير المرتب، الذى يقبع فى أعماق الإنسان !
وهو انحراف ظاهر البطلان 0
فما الذى يمنع – فى المنطق الإنسانى- أن يكون العقل الباطن والواعى معاً هما الإنسان؟!
وتلك حقيقة أولية بسيطة عرفها الإنسان منذ حاول أن يعرف نفسه، قبل أن يتفلسف فرويد، ويأتى بهذا العجب العجاب! فقد عرف الإنسان أن له ((أفكاراً)) منظمة مرتبة، و((مشاعر)) غير منطقية ولا مرتبة بمنطق الذهن .. وأن هذه وتلك معاً تكونان الإنسان!
ومن ((الفردية)) المنحرفة نشأت الفنون التى تحارب ((المجتمع)) وتحاول هدمه وتحطيمه .. وفى مقدمتها الوجودية .. التى تقوم على عبادة ((الفرد)) . وأنه هو وحده الحكم فيما يأتى من الأمر. ليس لأحد – من ((المجتمع)) – أن يحدد مفاهيمه، أو أخلاقه، أو تقاليده، أو عقائده، أو تصرفاته، أو سلوكه .. ولا تنظر هذه الوجودية الحمقاء كيف يصير ذلك ((الفرد)) المقدس ذاته حين ينهار ((المجتمع)) ويصبح مجرد ((أفراد)) .. كل منهم يحكم هواه ، بلا ضابط ، ولا عرف، ولا معيار ثابت للأشياء !
* * *
        ومن التطور الذى ((يخبط خبط عشواء)) والكون الذى وجد (( مصادفة)) والوجود الذى ((ليس له غاية ولا خالق مدبر)) .. نشأ فرع آخر من ((الوجودية))، يمثل ((الضياع))!
        واسأل إن شئت كيف يتمثل ((الوجود)) فى ((الضياع)) !
        اسأل الوجودى ((الكبير)) ألبير كامو .. الذى يصور حيرة الإنسان إزاء الكون .. وشعوره بالضياع والضآلة والقلق والاضطراب . لأنه لا ((حكمة)) وراء وجوده ولا ((تدبير)) 00
* * *
        ثم انحرف الفن انحرافا جذرياً آخر .. وراء ((المعبود)) الجديد !

        لقد بطلت – أو أخذت تبطل – عبادة الإنسان – وتلتها عبادة الآلهة الجديدة .. الحتميات00
        واتجه الفن ، المشغول بالإله المعبود بصورة ظاهرة .. اتجه إلى عبادة الحتميات، يفسر من خلالها الإنسان 0
        لم يعد الإنسان فى ذاته هو موضوع الفن .. فى المذاهب الحديثة التى تسمى المذاهب الاجتماعية وما شابه ذلك من الأسماء([6]) . وإنما صار الإنسان مجرد إطار للألوهية الجديدة. تدرس من خلاله الحتمية الاجتماعية أو الحتمية الاقتصادية أو الحتمية التاريخية 00
        فحياة الإنسان شىء ثانوى فى هذا الفن. والشىء الرئيسى هو (0الطور)) الاجتماعى أو الاقتصادى أو التاريخي، الذى يصوغ هذه الحياة، والناس مجرد أشباح تحركها هذه الحتميات كرهاً عنها لتضعها فى مكانها الحتمى من الصورة، لا إرادة لها فى تصرفاتها ولا اختيار 00
        وصارت هذه الحتمية هى ((القدر)) الجديد الذى يسير حياة الإنسان 0
        ولكنه فى هذه المرة ليس القدر اليونانى القديم، المغيب عن العين، والمغيب عن الإدراك. إنه قدر مدرك، منظور ، يقاس بالنوع والكم، والأطوال والأبعاد 00 ومع ذلك يقوم بين الإنسان وبينه ذات الصراع الذى كان يقوم بين الإنسان وقدر الإغريق القدماء .. مع الفارق..؟ أن الآلهة الحتمية هنا على حق فيما تفعل .. لا تخبط خبط عشواء ! مع فارق آخر أسوأ : أن ((الإنسان)) لم يعد يصارع ليثبت ذاته .. فقد ضاع فى ظل هذه الحتميات – وجود الإنسان ! وإنما يصارع لأنه غلطان!
* * *
        فى ظل هذه السلسلة المتوالية من الانحرافات الجاهلية أنتج الفن الأوربى روائع إنسانية بارعة000!
        ولكنها روائع مشوهة بسبب ذلك الانحراف !
        إن ما فيها من روعة الأداء ["التكنيك"] ومن روعة التصوير لجوانب من النفس البشرية ودقائق الحياة ليأخذ الإنسان.. فيتمنى أن لو كانت سلمت من هذه الانحرافات الجاهلية التى تفسد ما فيها من جمال !
        ولا شك أن قلة منها قد نجت من لعنة الانحراف .. فما يمكن – كما كررنا مراراً من قبل – أن تتحمض النفس البشرية للشر، ولا يكون فيها خير على الإطلاق 00
        هذه  القلة النادرة هى الفن الحقيقى الصافى، الجدير بالوجود فى سجل البشرية الفنى00
        ولكن كثرة من ((الروائع)) قد لوثها الانحراف من هنا ومن هناك . فصارت كالوجه الجميل الذى شوهته آثار ((ماء النار)) ! تحس أنه ((كان)) جميلاً، وترى فيه مواضع التشويه 00
        أما غير الروائع .. وهى من حيث الكم الجزء الأكبر من الفن الغربى المعاصر [ومن كل فن!] فالبضاعة الأصلية فيها ليست الجمال، وإنما الانحراف !
        الأدب الجنسى كله.. الذى يصور الحياة كلها كأنها لحظة جنس طاغية مسعورة.. لا هو فن ولا جمال .. ولا حقيقة ! فليست الحقيقة البشرية هى ذلك السعار !
        والأدب ((المتهوس)) كله .. الذى يصور هلوسة العقل الباطن على أنها حقيقة الإنسان .. لا هو فن ولا جمال ولا حقيقة .. فليست حقيقة الإنسان هلوسة بلا دليل !
وأخيراً جاء اللامعقول !
جاء نتيجة اليأس القاتل من كل ((التجارب)) البشرية المنحرفة عن منهج الله !
لقد جربت تلك البشرية الضالة كل أنواع التجارب بعيداً عن منهج الله .. فأعثرتها !
جربت المادية الطاغية .. وجربت الرأسمالية الطاغية .. وجربت الشيوعية الطاغية .. وجربت الفردية الطاغية .. وجربت الجماعية الطاغية 00
وكل هذه التجارب لم تمنح البشرية الهدوء والطمأنينة واليقين 00
من أجل ذلك كفرت بهذه التجارب كلها التى أنشأها ((العقل)) البشرى 00 وارتدت إلى اللامعقول !
سواء كانت العاطفة الجامحة التى لا يمسكها دليل العقل، أو الهلوسة الباطنية التى لا يحكمها المنظم .. أو .. ؟ كلها انفلات من المعقول إلى اللامعقول 00
وهى جاهلية جديدة .. لأنها لا ((تهتدى)) إلى يقين تفر إليه من القلق والحيرة والاضطراب والشكوك !
وتلك هى صفحة الفن الغربى .. بكل ((روائعه)) المرموقة 00
صفحة من الجاهلية المتصلة من لدن جاهلية اليونان إلى جاهلية القرن العشرين !
وهى – ككل شىء فى هذه الجاهلية – براعات فائقة ولكنها مضيعة .. مضيعة .. مضيعة لأنها لا تعرف سبيل الرشاد !
ولم يكن الفن قادراً – فى ظل الجاهلية الطاغية – أن ينجو بنفسه ، ويسير بعيداً عن الانحراف00
فالفن – فى جميع حالاته – صورة من الحياة !
* * *
فى كل شىء 00 !

        ماذا بقى فى هذا الجاهلية بلا انحراف ؟!

لقد تتبعناها فى كل مجال من مجالاتها .. فى النفس والمجتمع.. فى السياسة والاقتصاد والاجتماع.. فى الأخلاق والفن .. فى التصور والسلوك .. فهل أبقت شيئاً من حياة الإنسان لم يتطرق له الفساد ؟!
شىء واحد يبهر الناس بشدة فى هذه الجاهلية 0
إنه العلم . والتيسيرات الضخمة التى أدخلها العلم على حياة الإنسان. والإمكانات الضخمة التى فتح العلم مجالها أمام الإنسان .. والتنظيمات الهائلة التى أقدر العلم عليها الإنسان000
من أجل ذلك يقبلون على هذه الجاهلية وينهلون من منبابعها .. متصورين – فى وهم جاهلى ضخم – أنه ما دام العلم صاعدا ومتقدما ، فالحياة البشرية كلها لابد أن تكون صاعدة ومتقدمة، وسائرة على صواب !
وهم من أوهام الجاهلية .. له أمثال كثيرة فى التاريخ 00
فكل جاهلية ذات حضارة، كانت تظن أن حضارتها – المنحرفة – هى الخير والبركة والارتفاع الذى ليس وراءه ارتفاع 00
وكانت النتيجة الحتمية واحدة فى النهاية .. انهارت تلك الحضارات .. أو تلك الجاهليات ، بحكم ما فيها من جاهلية وانحراف 00
و ((العلم)) ليس نتاج الجاهلية !
العلم خط بشرى صاعد أبدا لا يتوقف – إلا نادرا – فى خط سير البشرية !
وهو طاقة محايدة .. لا توصف – فى ذاتها – بالخير ولا بالشر . ولكنها تعمل فى خدمة ((السيد)) الذى يسيطر عليها,. و((تتقدم)) بالخير وبالشر سواء !
إن الدافع الأكبر للعلم هو الطبيعة البشرية ذاتها كما خلقها الله محبة للمعرفة، تواقة إلى القوة، متطلعة إلى المزيد من السيطرة على طاقات الكون.
وهو بهذا بعيد عن مكان الخير والشر فى كيان الإنسان .
إنه كامن فى ((عقله)) لا فى ((ضميره))0
والعقل لا يتوقف – إلا نادراً – فى خط سير البشرية !
ولذلك يتقدم العلم ولا يتوقف، فى الهدى وفى الضلال سواء !
إنما الذى يتأثر بالهدى والضلال هو الطريقة التى يستخدم فيها العلم، والمجال الذى يستخدم فيه !
* * *
        يجب الفصل إذن بين العلم وبين الجاهلية 00

        لا العلم من منشآت هذه الجاهلية حتى يحرص عليها من أجله، ولا هو عرضة للتوقف إذا انهارت هذه الجاهلية وحل محلها منهج الله !
        ولقد عرفت البشرية من قبل منهج الله، فكان هو ذاته الذى بعث العلم من شتاته الضائع، وحركه أكبر حركة فى تاريخ العلم يومئذ .. الحركة التى وجهت أوربا – باحتكاكها بالمسلمين فى المغرب والأندلس – إلى المذهب التجريبى، وكل ما نتج عنه بعد ذلك من نتائج باهرة ما تزال فى الازدياد !
* * *
        ليس العلم من نتائج الجاهلية الحديثة .. بل الجاهلية الحديثة هى التى توجهه فى سبيل الشر وفى سبيل التدمير !
        إنما هو نتاج ((بشرى)) ضارب يجذوره فى التاريخ، ظلت تسلمه أمة إلى أمة حتى وقع اليوم فى يد أوربا. ففتحت به فتوحا ضخمة، ولكنها كذلك انحرفت به عن السبيل، فأفسدت الأخلاق وهددت العالم بالتدمير0
        فإذا أخرجنا العلم من حصيلة الجاهلية الحديثة .. فلن يبقى لها إلا الجاهلية العمياء ..
        هنالك – حقا – خير متناثر فى كل الأرض 00
        هنالك تحقيقات مختلفة لكيان الإنسان.. فى السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والفن.. هنالك عدالة جزئية وفضائل جزئية ومكاسب جزئية حصل عليها الإنسان..
        وهى ضخمة فى ظاهرها.. لأن كل شىء فى العصر الحديث يتسم بالضخامة.
        ولكن المقياس الحقيقى لمقدارها ينبغى أن يكون بالقياس إلى الشر المستشرى فى كل الأرض، والظلم الطاغى فى كل مكان 00
        وينبغى ألا ننسى – فى ظل الخير المتناثر – رغم ضخامته – مدى هذا الشر الغائل لكيان الإنسان00
        فلنتذكر 00
        دكتاتورية رأس المالي ودكتاتورية البروليتاريا، وما يفرضانه من المذلة على كيان الإنسان0
        الملكية الطاغية التى تستعبد غير المالكين .. وانتزاع الملكية الطاغى الذى يستعبد غير المالكين!
        الفردية الطاغية التى تدمر المجتمع .. والجماعية الطاغية التى تسحق كيان الفرد 00
        التدهور المستمر فى الأخلاق 00
        الفساد الحادث فى علاقات الجنسين، وما ينشئه فى النفس والمجتمع من شقاء بالغ وقلق واضطراب، فى حياة الرجل والمرأة والأطفال0
        التوجيه الفاسد فى الفن، الذى يعود فينعكس على النفس فيفسدها 00
        الـ .. الـ ..
        لا شىء نجا من هذا الطغيان 00
        والخير المتناثر فى كل الأرض 00 على ضخامته .. جد ضئيل حين يقاس إلى هذا الشر00
        فتات يتساقط من أيدى الطاغوت، ليلهى البشرية ! وليبقى الطاغوت – وحده – مستمتعاً بجميع المنافع .. وبالسلطان !
* * *
على أن هناك  أمراً خطيراً فى شأن الجاهلية الضاربة اليوم فى أعماق الأرض 00

فسواء رضى الناس بالعبودية للطاغوت واستكانوا إليه، أم سخطوا استعداداً لإزالته من على كاهلهم.. فمصير الجاهلية الطاغية ليس متروكاً لاختيار الناس !
هنالك ((حتميات)) فى أقدار الناس .. حتميات حقيقية لأنها من صنع الله 0
ومن هذه الحتميات أن هذه الجاهلية لا تستطيع أن تبقى إلى الأبد مسيطرة على أقدار الناس 00 فإنها – لابد – ستنهار 00
تنهار بحكم ما فيها من شر غالب 00 ((سنة الله فى الذين خلوا من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلاً )) ([7])0
ولكن سنة الله التى فرضت انهيار الجاهلية – بصورة حتمية – لما فيها من شر، لم تفرض أن يعقبها _ آلياً – حكم الخير !
إنما ((الناس)) هم الذين يختارون لأنفسهم ما يحل بهم بعد انهيار الطاغوت .. إما الهدى وإما الخضوع لطاغوت آخر، يتلقف الشاردين فى الجاهلية بعيداً عن منهج الله، فيستعبدهم بالطغيان.. كما انهار طاغوت الرأسمالية – أو كاد – فتلقف منه طاغوت الجماعية ما كان بيده من سلطان!
((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ))([8])0
من أجل ذلك كان لابد للناس أن يفكروا لأنفسهم.. قبل الانهيار! هل يعدون أنفسهم لطاغوت آخر أم يبحثون عن العلاج 00
وما العلاج ؟!

[1] ناقشنا كثيراً من المفاهيم الفنية، المستقيمة والمنحرفة، فى كتاب((منهج الفن الإسلامى)) وسنمر هنا بشئ من هذه القضايا، ولكن مروراً عابراً بما يناسب موضوع هذا الكتاب0
[2] ظاهر فى الفن الهندى أنه مشغول((بفناء)) الإنسان فى الله00 أو فى الوجود الكلى الذى يرمز إلى الله أو يحل فيه الله0 ولكنى لم أتبين هذا الاتجاه بوضوح فى الآداب الأخرى0 وأرجو- كما قلت- أن يأخذ غيرى على عاتقه هذه الدراسة، فهى ظاهرة تستأهل الدراسة حقا، وربما ألقت ضوءًا كاشفاً على تاريخ الفن ودلالاته0 
[3] مما هو جدير بالذكر أنه بعد احتكاك المسيحيين بالمسلمين فى العصور الوسطى قامت فى أوروبا الحركة الشهيرة المعروفة بحركة تحطيم التماثيل، التى كان رائدها ليو الثالث The Iconoclast  فى القرن الثامن، واستمرت مائة وعشرين سنة من تاريخ الكنيسة الأوروبية0 ولكنها لم تستطع أن تتغلب على هذه الرغبة الوثنية فى تصوير((الإله)) فى صورة محسوسة!  
[4] سبق أن بينا فى مقدمة الحديث عن الفن أو الرومانتيكية لم تكن انحرافاً عن ((الواقع)) ! فقد كان الواقع فى تلك الفترة هو ((الهروب)) .. الهروب من الكنيسة ومظالمها، والإقطاع ومظالمه.. وكل الواقع السيئ الذى كانت تعيشه أوروبا، وتعجز – فى ذلك الحين – عن تغييره. فهى إذن واقعية فى تصوير الحالة النفسية للناس فى وقتها. ونضيف هنا أنها كانت واقعية أيضاً فى تصوير ((عبادة الطبيعة)) التى لجأ الناس إليها هروباً من إله الكنيسة. ولكن الانحراف الحقيقى فيها هو هذه الوثنية التى تحول عبادة الله إلى عبادة المحسوس0
[5] منحرفة بالمقاييس التى بيناها فى هذا الفصل، لا بالمقاييس الفنية الأوربية التى لا تدرك ما فى طبيعتها من انحراف!
[6] الأدب ((الملتزم)) مذهب من مذاهب الجاهلية الحديثة! يلتزم بالتفسيرات المادية للحياة البشرية ويسمى ذلك التزاماً (0بالقيم الاجتماعية)) !
[7] سورة الأحزاب [62]
[8] سورة الرعد [11]0

Previous Post Next Post