فكيف تطورت الحريات عبر المراحل الحضارية المختلفة وكيف تعاملت معها المجتمعات الإنسانية؟
الحريات العامة في ظل المجتمعات القديمة
إن الحرية بمدلولها الحديث لم تكن معروفة في الأزمنة القديمة إذ أن مفهومها في ظل الديمقراطيات  اليونانية القديمة التي نشأت قبل الميلاد يختلف اختلافا جذريا عن مفهومها في ظل النسق السياسي والدستوري المعاصر. وقد عمل "بنجامين كونستانت" في كتابه "الحريات القديمة والحديثة" بإبراز هذا الفرق بشكل واضح من خلال تأكيده أن الحرية بالمعنى الحديث هي الاعتراف للفرد بمجال خاص يتمتع فيه بالاستقلال ولا يخضع فيه لغير القانون، في حين أن الحرية بالمعنى القديم عند اليونان، يشير إلى الحق في المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية، وبناء على هذا المفهوم القديم يرى "كونستانت" أن الفرد وهو يتمتع بالمشاركة في السيادة في المسائل العامة، فإنه يكاد يكون عبدا ولا يعرف أي استقلال في أموره الخاصة بينما الفرد كما يتجلى في المفهوم الحديث للحرية يتمتع بالاستقلال في حياته الخاصة في حين لا يكاد يتمتع بأية سيادة في المسائل العامة، وأنه حين يشارك في المسائل العامة، فإنه غالبا ما يكون ذلك بقصد التخلي عنها لنوابه وممثليه.[1]
بيد أنه مع ذلك، فإن الحريات العامة لم تكن منفصلة تماما بعضها عن بعض، حيث لا توجد فواصل زمنية محددة بينها، ولم تنتقل من مرحلة إلى أخرى دفعة واحدة، وإنما قطعت أشواطا ومراحل. فكيف مورست الحرية في المجتمعات القديمة؟ وكيف تم تحديدها؟
أولا: الحرية في شكلها البدائي
ربما من الصعب جدا الحديث بنوع من الدقة عن بداية نشوء المجتمعات الإنسانية، بسبب ندرة وضعف المعلومات المتوفرة في هذا المجال؛ بيد أن غالبية الباحثين يتفقون على اعتبار العصر الحجري الأول، كأول مرحلة من مراحل التجمع البشري. لهذا يمكن أن نتصور بسهولة أن هذه المجتمعات البدائية الماقبل تاريخية لا تمتلك كخاصية مشتركة فيما بينها سوى تحديدها بالبدائية، تحديد يستند على غياب الكتابة في هذه المجتمعات من ناحية، ومن ناحية أخرى سيادة الاقتصاد المسمى بالاكتفائي.[2]
وقد بنى كثير من الباحثين نظرياتهم عن حياة المجتمعات البدائية، باستعانتهم بالدراسات التي قام بها عدد من علماء الاجتماع لحياة القبائل المتوحشة والجماعات البدائية التي ما زال يعيش كثير منها حتى الآن بافتراض أنها تمثل المجتمع البشري الأول لأنها عاشت منعزلة عن العالم المتحضر.
وقد ذهب بعض الباحثين في تصورهم لحياة البشرية الأولى إلى حد القول بوحشية الإنسان الأول وشيوعية الجنس التامة في العلاقة بين الرجل والمرأة وشيوعية ملكية وسائل الإنتاج وبأن الإنسان البدائي كان يعيش حسب ما تمليه عليه غرائزه مشبعا رغباته في جو من الحرية التامة التي تقارب الانفلات من أي قانون[3]
لكن على خلاف الاعتقاد السائد لدى البعض، فإن هذه المجتمعات لم تكن تعيش في حالة فوضى مطلقة دون قيد أو وازع، وإنما كانت تخضع في تصرفاتها وعلاقاتها لنوع من القوانين غير المكتوبة التي ولدتها الأساطير ونقلها الأجداد، ونوع آخر من القوانين الوضعية أو الأعراف الموجودة في قلب العادات التي تحدد أسلوب التصرف تجاه كل ظرف، والتي كانت تتغير طبقا للأوضاع المستجدة، لكن وفي كل موقف كان الخضوع للعادات والتقاليد شبه إجماعي.[4]
والجدير بالإشارة هنا، إلى أن الخضوع الذي يبديه الأفراد إنما كان ينشأ من توافق ضمني بين أفراد الجماعة، بما أنه لم تكن هناك سلطة عليا تقوم بدور الإلزام والإكراه وفرض ما تريد بالقوة، الذين يرون ضرورة الالتزام بتلك العادات والتقاليد، وذلك بمحض إرادتهم وبكل حرية للتعبير عن وجودهم، وعليه يمكن أن نقول أن المجتمع البدائي كان يعرف شكلا من الحرية المنظمة التي سمحت له بالتطور.
وكان لهذه الحرية وجهاها الإيجابي والسلبي: من الناحية الإيجابية كان بمقدور كل فرد المساهمة باتخاذ القرارات المتعلقة بمصير الجماعة والتي كانت تتم عادة بالإجماع. ومن الناحية السلبية لم يكن أحد يمتلك الحق بانتهاك الاستقلال الذاتي الفردي أو العائلي للآخرين. وإذا ما تصور فرد أو عائلة بأن ضغط الجماعة عليه أصبح كبير، فإنه يستطيع تركها والرحيل إلى مكان آخر، فالفوضى غير مقبولة في إطار الجماعة لأنها مميتة.[5]
وبتحليل آخر، كان المجتمع البدائي يسير وفقا لنظام يمكن أن نقول عنه أنه ديمقراطي ولكنه غير خاضع للوعي، أي أنهم يسيرون وفقا لنظام ديمقراطي من حيث لا يدرون وتظهر حقيقة ما نقول في بعض المناسبات، مثل توزيع المهام أثناء الذهاب في رحلة صيد الطرائد الكبرى، حيث يظهر بعض الأفراد يأمرون والبعض الآخر ينفذ. وكان الذين يطيعون يبررون ذلك بمقدرة أو أهلية أولئك الذين يأمرون فالمهمة حيوية وأساسية لحياة الجماعة، لذا فهي تقتضي التعاون الذي لا يمكن أن يتم إلا بالتشاور.
وغالبا ما تنتهي مدة هذه القيادة أو الرئاسة، على الجماعة بانتهاء المهمة التي أنشئت من أجلها. فالسلطة ليست موجودة بصورة دائمة، لا على المستوى الفردي ولا على المستوى الجماعي. وكل ما في الأمر أن بعض الأفراد ممن تتوفر لديهم مقدرة الذكاء، والمعرفة، والتجربة يستطيعون البروز في فترات معينة ليتحملوا مسؤولية القيادة في أمر محدد إلا أن توفر هذه الميزات لدى شخص معين لا يمنحه أبدا سلطة إرغام الآخرين على القيام بعمل لا يريدونه فهو ينصحهم بفائدة التصرف بطريقة معينة أثناء تأديتهم لمهمتهم، لكنه لا يستطيع إجبارهم.[6]
فنحن إذن أمام جماعة موجهة بواسطة زعماء وقادة لا يمتلك أي منهم أي سلطة أي أننا في مواجهة مجموعة كبيرة من المجتمعات البشرية حيث أن الحائزين فيها على ما يسمى في مكان آخر بالسلطة هم في الواقع دون أي سلطة أما السياسي هنا فهو يتحدد كحقل مستقل عن أي عنف أو قهر، عن أي تبعية تراتبية، بكلمة مختصرة فهذا السياسي لا يتمظهر عبر أي علاقة قيادة – خضوع[7]
الحرية في مضمونها الاجتماعي
في واقع الأمر، إن حرية الإنسان لا تأخذ مظهرها الحقيقي إلا استنادا إلى مضمونها الاجتماعي، فالمجتمع هو الذي يمنح الصفة الكيانية للفرد، كمخلوق عاقل يتصف بخصائص معينة تتحدد سلبا أو إيجابا بالمقارنة مع القيم السائدة بين الجماعة. وبدون هذه القيم ليس هناك أي معنى للسلوك الاجتماعي، مهما كانت طبيعته، ولذلك فإن الحرية كمفهوم تتبع أساسا عبر وعي المجتمع لها في مرحلة محددة من مراحل وجوده.[8]
وفي هذا الشأن يقول "جون ستيوارت ميل": "إن النطاق المناسب للحرية الإنسانية هو حرية الضمير بأشمل معانيها وحرية الفكر والشعور، وحرية الرأي والوجدان المطلقة في كل الموضوعات، سواء أكانت عملية، أم تأملية، أم علمية، أم أخلاقية، أم لاهوتية، وأن أي مجتمع لا يكفل لأفراده كل هذه الحريات، لا يمكن أن يكون مجتمعا حرا بمعنى الكلمة أيا كان شكل الحكومة القائمة فيه، والحرية الوحيدة التي تعد جديرة بهذا الاسم إنما هي تلك التي تؤكد بمقتضاها مصلحتنا بالطريقة التي نؤثرها، طالما كنا لا نحاول أن نستلب الآخرين مصالحهم، أو أن نقف حجر عثرة في سبيل حصولهم على تلك المصالح، أو أن نعرقل جهودهم التي يبذلونها ابتغاء تحقيقها.[9] أي أنه يجعل العلاقة بين الفرد والمجتمع علاقة جدلية تحدد مستوى الحرية الذي بلغه هذا المجتمع عبر مسيرة تطوره. وبطريقة مشابهة يرى "مالينوفسكي" بأن الحرية هي تلك الأحوال الاجتماعية التي تتيح للإنسان أن يحدد غاياته بالفكر، وأن يحققها بالفعل وأن ينال حصيلة تحقيقها.[10] أي أن الحرية بالنسبة له هي مفهوم اجتماعي بالدرجة الأولى، وليست شعورا فرديا خاصا، منفصلا عن البيئة التي يعيش فيها هذا الإنسان والأحوال الاجتماعية التي ترتبط بها حياته أشد الارتباط.
أما "هارولد لاسكي" الفيلسوف العمالي البريطاني، فإنه يحدد في كتابه "الحرية في الدولة الحديثة" "الحرية بأنها تلك الأحوال الاجتماعية التي تنعدم فيها القيود التي تكبل قدرة الإنسان على تحقيق سعادته، وفي منظوره لا يمكن للحرية بهذا الشكل أن تتحقق إلا في إطار النظام الاشتراكي الذي يعد الضمانة الحقيقية لها، لأن الاستغلال الاقتصادي يكبح قدرة الإنسان على التحرر ويمنعه من التفتح والتطور بسبب حالة الغبن وبالتالي البؤس الذي يمكن أن يرميه فيها هذا الاستغلال.
بهذا المعنى تصبح الحرية مفهوما حيا مرتبطا بالمجتمع وعلاقة من العلاقات التي يؤسسها هذا المجتمع، وليست شيئا خارجا عنه؛ وكلما تطور المجتمع بعلاقاته الداخلية، كلما تطور بالتالي مفهوم الحرية فيه، وفضلا عن كونها علاقة اجتماعية، فإنها أيضا قيمة فردية ولذا فإن كل فرد ينظر إلى صورة من الحرية تختلف باختلاف هذا الفرد عن  سواه في نفسيته، وتربيته ووضعه الاقتصادي الخ، وهي أخيرا قيمة مثالية عليا، والإنسان يبقى في نضال مستمر لتحقيق القيم والمثل التي يؤمن بها. ومعركة الإنسان في وجوده كانت ولا تزال من أجل تحقيق قيمه ومثله، ولن تنتهي هذه المعركة حتى ينتهي الإنسان من الوجود.[11]

[1] حازم الببلاوي: دور الدولة في الاقتصاد دار الشروق طبعة 1999 ص 172
[2] بيار كلاستر: مجتمع اللادولة، ترجمة محمد حسين دكروب المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ط 3 1991
[3] هاني سليمان الطعيمات م س ص: 40
[4] خضر خضر م س ص: 29
[5] م س ص: 29
[6] م س ص: 30
[7] م س ص: 2
[8] خضر خضر م.س. ص: 27
[9] خضر خضر م.س. ص:27
[10] ن.م. ص:27
[11] م س ص: 28

Previous Post Next Post