ماهي حقوق العباد
بيان أنواع حقوق العباد وأقسامها، وموقع الملكية منها :
تُقسَّم الحقوق باعتبارات شتَّى، وبالنظر إلى أمور وضوابط مختلفة يطول المقام بذكرها، وهي مبحوثة مستوفىً الكلام عليها في الدراسات الحديثة، وأشهر تقسيمات الحقِّ عند الفقهاء تقسيمه بالنظر إلى صاحبه، وهو بهذا الاعتبار ثلاثة أقسامٍ : حقٌّ خالصٌ لله تعالى، وحقٌّ خالصٌ للعبد، وحقٌّ مشترك بين الله تعالى وبين عباده (64) .
ومعيار التفرقة بين هذه الحقوق الثلاثة :
أنَّ حق الله تعالى : هو ما يتعلَّق به النفع العام للعباد من غير اختصاصٍ بأحدٍ، ويُنْسَبُ إلى الله تعالى لِعِظَمِ خطره، وشموليَّة  نفعه، وليس المراد أنَّ الله تعالى يختصُّ به وحده من بين سائر الحقوق، أو أنَّ الله تعالى ينتفع به، فحقوق الله وحقوق العباد أحكام له سبحانه، وهو متعالٍ عن النفع والضَّرر، ويُسَمَّى : الحقَّ العام (65) .
وقِيْلَ : هو ما قُصِدَ به قصداً أوليَّاً التقرُّب إلى الله تعالى وتعظيمه وإقامة دينه، أو قُصِدَ به حماية المجتمع، بأن ترتَّبت عليه مصلحة عامَّةٌ له من غير اختصاصٍ بأحدٍ ؛ فالأوَّل : كالعبادات الواجبة من الصلاة والصوم، والثاني : كالكفِّ عن المحرَّمات، مثل الزِّنا وشرب الخمر، ومن ذلك أيضاً صيانة المرافق العامة التي هي حقُّ لله تعالى كالمساجد والوقف على جهات البرِّ (66) .
وأمَّا حقُّ العبد : فهو ما ترتَّب عليه مصلحة خاصَّة لفردٍ أو أفرادٍ ؛ كحقِّ كلِّ أحدٍ في داره وماله (67) .
وأمَّا الحقُّ المشترك : فهو ما اجتمع فيه الحقان ؛ حقُّ الله تعالى، وحقُّ العبد، وقد يكون حقُّ الله تعالى هو الغالب، كما في حقِّ الحياة، وقد يكون حقًُّ العبد هو الغالب، كما في القصاص (68) .
وأهمُّ أثر يترتَّب على هذا التقسيم : هو أنَّ حقَّ الله تعالى لا يورث، ولا يجوز إسقاطه لا بصلحٍ ولا بغيره ؛ كالحدود والزكوات ونحوها، وأمَّا حقوق الآدميين فهي التي تورث، وتقبل الإسقاط بالصلح، وأخذ العِوَضِ عليها، وأمَّا الحقُّ المشترك ؛ فما رُجِّحَ فيه حقُّ الله تعالى لم يورث، ولم يَجُزِ العفو عنه ولا إسقاطه ؛ كحدِّ القذف، عند من يُغَلِّب حقَّ الله فيه، وما رُجِّحَ فيه حقُّ العبد جاز إرثه، وجاز لصاحبه العفو عنه وإسقاطه ؛ كالقصاص (69) .
قال القرافي – رحمه الله - : (( ونعني بحق العبد المحض أنَّه لو أسقطه لسقط، وإلاَّ فما من حقٍّ للعبد إلاَّ وفيه حقٌّ لله تعالى، وهو أمره بإيصال ذلك الحقِّ إلى مستحقِّه، فيوجد حقُّ الله تعالى دون حقِّ العبد، ولا يوجد حقُّ العبد إلاَّ وفيه حقٌّ لله تعالى، وإنَّما يُعرف ذلك بصحَّة الإسقاط، فكلُّ ما للعبد إسقاطه فهو الذي نعني به حقَّ العبد )) (70) .
كما تُقسَّم الحقوق باعتبار المالية من عدمها إلى قسمين :
الأول : الحقوق المالية ؛ وهي ما تعلَّقت بالمال، أو كان المقصود منها المال ؛ كالزكوات، والكفارات، والحقوق المتعلِّقة بالبيع ونحو ذلك .
الثاني : حقوق الأبدان، أو الحقوق الشخصية ؛ وهي ما ليس بمال ولا المقصود منه المال ؛ كحقِّ الولاية، والحضانة ونحو ذلك (71) .
والذي يهمُّنا هنا من أقسام الحقوق هو حقوق العباد ؛ لأنَّها تتعلَّق بالملكية التي نبحث فيها ؛ وهي تُقسَّم باعتبارات مختلفة على النحو التالي :
الاعتبار الأول : تُقسَّم باعتبار محلِّ الحقِّ إلى قسمين :
الأول : الحقُّ غير المُتَقَرِّر ( المُجَرَّد ) : وهو عبارة عن مُكْنَةٍ يُثْبِتُهَا الشرع للإنسان لمباشرة تصرُّفٍ من التصرُّفات في أمرٍ من الأمور ؛ كحقِّ الشُّفعة، والحقِّ المُجَرَّد ؛ كحقِّ التعاقد بالعقود المشروعة .
الثاني : الحقُّ المُتَقَرِّر ( المُتَعَلِّق بالمال ) : وهو الحقُّ الذي يقوم بمحلٍّ معيَّنٍ يُدْرِكُهُ الحِسُّ، ويثبت لصاحبه سلطة على هذا المحلِّ، تُمَكِّنُهُ من مباشرة التصرُّفات الشرعية ؛ كحقِّ الملك للعين أو المنفعة (72) .
الاعتبار الثاني : تُقسَّم باعتبار المالية وعدمها إلى قسمين :
القسم الأول : الحقوق المالية ؛ وهي ما يتعلَّق بالمال ؛ كحقِّ ملكية الأعيان، أو الديون، أو المنافع، وهي ثلاثة أنواع :
النوع الأول : الحقُّ الشخصي ( حقُّ الالتزام ) ؛ وهو حقٌّ يُقرِّه الشرع على آخر ؛ كحقِّ كلٍّ من المتبائعين على الآخر ؛ فإنَّ أحدهما يستحقُّ على الآخر أداء الثمن، والآخر يستحقُّ تسليم المبيع .
النوع الثاني : الحقُّ المعنوي ؛ وهو الحقُّ الذي يرد على أشياء معنوية، لا تُدرك بالحواسِّ، وإنَّما تُدْرك بالعقل والفكر ؛ كالأفكار العلمية، والمخترعات والابتكارات .
النوع الثالث : الحقُّ العيني ؛ وهو أن يكون لشخصٍ ما مصلحة اختصاصيَّة، تُخَوِّل له سلطة مباشرة على عين مالية معيَّنة ؛ كحقِّ الملكية، والارتفاق المقرَّر لشخصٍ على عقار معيَّنٍ ؛ كحقِّ المرور، أو الشرب أو المسيل .
القسم الثاني : الحقوق غير المالية ؛ وهي الحقوق التي لا تتعلَّق بالمال ؛ كحقِّ الولاية، والحضانة (73) .
وقسَّم الحافظُ زين الدين عبد الرحمن بن رجب الحنبليُّ (ت : 795هـ) – رحمه الله – حقوق العباد المتعلِّقة بالأموال إلى خمسة أنواع :
الأول : حقُّ الملك ؛ كحقِّ السيِّد في مال المُكَاتَبِ .
الثاني : حقُّ التَّمَلُّك ؛ كحقِّ الأب في مال ولده، وحقِّ العاقد للعقد إذا وجب له، وحقِّ الشَّفيع في الشُّفعة .
الثالث : حقُّ الانتفاع، ويدخل فيه صورٌ منها : وضع الجار خشبةً على جدار جاره للحاجة، إذا لم يُضِرَّ به، وإجراء الماء في أرض الغير إذا اضطُّرَّ إليه .
الرابع : حقُّ الاختصاص ؛ وهو ما يختصُّ مُستحقُّه بالانتفاع به، ولا يملك أحدٌ مزاحمته فيه، وهو غير قابل للشمول والمعاوضات ؛ كمرافق الأسواق المُتَّسِعَة التي يجوز فيها البيع والشراء، فالسابق إليها أحقُّ بها، ومنها الجلوس في المساجد ونحوها لعبادة أو أمر مباح، فيكون الجالس فيها أحقُّ بمجلسه إلى أن يقوم منه باختياره، قاطعاً للجلوس .
الخامس : حقُّ التَّعَلُّق لاستيفاء الحقِّ، وله صور منها : تعلُّق حقِّ المرتهن بالرهن حتَّى يستوفي دينه، وتعلُّق حقِّ الجناية بالجاني حتَّى يستوفي المجني عليه حقَّه، وتعلُّق حقِّ الغرماء بالتركة ونحوها، حتَّى يُوفَّوا حقوقهم (74) .


الاعتبار الثالث : تُقَسَّم باعتبار الإرث وعدمه إلى قسمين :
الأول : حقوق تورث ؛ وهي الحقوق المالية، أو التابعة للمال ؛ كالمال المملوك، والدية الواجبة بالقتل الخطأ، ونحو ذلك، ويُلحَقُ بها الحقوق المُتَّصِلَة بالمال ؛ كحقِّ الشُّفعة، وحقِّ حبس المبيع حتَّى استيفاء الثمن .
لأنَّ هذه الحقوق أموال، والأموال تورث ؛ لما ثبت عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنَّ النبيَّ e قال : (( مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ )) (75) .
الثاني : حقوق لا تورث ؛ وهي الحقوق الشخصية الخالصة التي ليست بمالٍ، ولا هي تابعة للمال، وليست أثراً من آثار العقد ؛ كالوظائف، والوكالة .
لأنَّ هذه الحقوق تثبت لمعنىً في صاحبها ؛ وهو مقدرته وكفايته وعدالته، والناس يختلفون في المواهب والقدرات، فمن ثمَّ لم يَجُز انتقال مثل هذه الحقوق بطريق الإرث (76) .
طبيعة الملكية ( الحقوق ) الفكرية :
بعد هذا التقسيم والإيضاح المختصر لأقسام الحقوق والتركيز على تقسيم حقوق العباد، فإنَّه يتَّضِحُ أنَّ الملكية الفكرية : حقوقٌ معنويَّةٌ مُقَرَّرَةٌ، وليست حقوقاً مُجَرَّدةً، وقد ظهرت هذه الحقوق في هذه العصور المتأخِّرة نظراً لتطور الحياة المدنية والاقتصادية والثقافية الحديثة، وأقرَّتها القوانين العصرية والنظم الحديثة، واعتبرتها سلطات قانونية مُقرَّرة لأشخاصٍ على أشياء معنويَّة غير ماديَّة، صنَّفها بعض القانونيين على أنَّها نوعٌ مستقلٌّ من أنواع الحقوق المالية ؛ لما تتصف به من خصائص، تميِّزها عن الحقوق العينية والشخصية ؛ لكون محلِّها غير ماديٍّ .
وصنَّفها البعض الآخر على أنَّها من الحقوق العينية ؛ لأنَّ الشيء الذي تنصبُّ عليه السلطة في الحقِّ العيني عندهم أعمُّ من أن يكون ماديَّاً أو معنويَّاً، وجُلُّ هؤلاء على أنَّ طبيعة هذه الحقوق حقوق ملكية، أو نوع خاصٌّ من الملكية، يطلقون عليه الملكية الأدبية والفنية والصناعية، أو الملكية الذهنية، أو الملكية المعنوية، أو الملكية الفكرية، أو حقوق الابتكار، على ما سبق بيانه (77) .
وأيَّاً ما كان الاختلاف في طبيعة هذه الحقوق، وتكييفها إلى حقوق ملكية أو لا، فإنَّ الحقوق الفكرية تُعَدُّ أموالاً في نظر أغلب القوانين والنُّظم البشرية المعاصرة، تضع لها من الضمانات والأنظمة ما يحميها، ويثبتها ويجعلها مختصَّة بأصحابها (78).
أمَّا في الفقه الإسلامي، فإنَّ دائرة المال والملك أوسع وأشمل منها في نظر القانون الوضعي ؛ فالشريعة لا تشترط أن يكون محلُّ الملك شيئاً ماديَّاً معيَّناً بالذَّات، إنَّما هو كلُّ ما يدخل في معنى المال من أعيان ومنافع، مما له قيمة بين الناس، ويُباح الانتفاع به شرعاً، وتجري فيه المعاوضة، على ما سبق بيانه في تعريف المال الراجح عند جمهور أهل العلم (79) .
وعلى ذلك : فمحلُّ الحقوق المعنوية داخل في مسمَّى المال شرعاً ؛ لأنَّ لها قيمةً معتبرة عند الناس، ويباح الانتفاع بها شرعاً بحسب طبيعتها، فإذا قام الاختصاص بها لشخصٍ ما، تكون حقيقة الملك قد وُجِدَتْ (80) .
والاستئثار المقصود في الملك في الفقه الإسلامي ليس معناه احتواء الشيءِ من قِبَلِ المالك، إنَّما معناه : أن يختصَّ به صاحبه دون غيره، فلا يعترضه في التصرُّف فيه أحدٌ، والتصرُّف يكون في الأشياء بحسب طبيعتها ؛ لذلك يختلف مدى التصرُّف في أنواع الملك في الإسلام من نوع لآخر، كما أنَّ الشريعة الإسلامية
لا تشترط التأبيد لتحقيق معنى الملك، بل إنَّ طبيعة ملك المنفعة – مثلاً – تقتضي أن يكون مؤقتاً ؛ كما في ملك منفعة العين المستأجرة، فإذا كان لا بُدَّ أن يتأقَّت الحقًّ المعنوي بمدَّةٍ معيَّنة، بحجَّة أنَّ صاحب الحقِّ المعنوي قد استفاد من جهد غيره، فهو ليس جهداً خالصاً له، كما أنَّ جهده ضروري لرُقِيِّ البشرية وتقدُّمها، ومقتضى ذلك ألاَّ يكون حقُّه مؤبَّداً، فإنَّ هذا التأقيت لا يخرجه عن دائرة الملك في الشريعة (81) .
والخلاصة في طبيعة الحقوق الفكرية : أنَّها حقوق معنويَّةٌ مالية، تُنَظَّمُ باعتبارها نوعاً من أنواع الملك في الإسلام ؛ للاعتبارات التالية :
الأول : أنَّها حقوق، والأصل في الحقوق أنَّها أموالٌ، سواء أكانت أعياناً أم منافع أم حقوقاً مُجَرَّدةً (82) ؛ لأنَّ مناط المال ليس مقصوراً على الأعيان، بل يشمل المنافع ؛ وهي أمور معنوية، والحقوق ؛ وهي مجرَّد روابط واعتبارات شرعية يجري فيها الاختصاص والملك، والحقوق الفكرية جارية على هذا الأصل؛ لأنَّها حقوق ذات صلةٍ بأصلها الذي نشأت عنه، وعلاقة صاحبها بها علاقة مباشرة وظاهرة،  مما يقتضي اختصاص صاحبها بها، ومنع غيره من العدوان عليها، وتتحقَّق فيها المنفعة المشروعة، وذلك كلُّه علامة الملك، والملك مالٌ ؛ لأنَّ كلَّ ما يجري فيه الملك ويختصُّ به صاحبه فهو مالٌ، سواء أكان عيناً أم منفعة أم حقَّاً مُجَرَّدَاً (83) .
الثاني : أنَّ الحقوق الفكرية لها قيمتها الكبيرة في عُرف الناس، ويُباح الانتفاع بها، وقد قام اختصاص صاحبها الحاجز بها، والصفة المالية – كما سبق في تعريف المال في اصطلاح الفقهاء - تثبت للأشياء بتحقُّق عنصرين ؛ الأول : المنفعة المشروعة ( أو القيمة )، والثاني : العرف البشري الذي يستند إلى المصلحة المرسلة التي تدلُّ على القيمة المالية لهذا الشيءِ أو ذاك (84) .

Previous Post Next Post