مقوّمات حقوق الإنسان

       لا يمكن أن يكون لحقوق الإنسان فاعلية دون أن تتقرر بشأنها مقوّمات تجعلها محل احترام واعتبار من مختلف الأطراف المعنية على اختلاف مصادرها المعتمدة في إقرار هذا الحقوق، وذلك على  اختلاف توجهاتها وقيمها، ومن هذه المقوّمات مقوّمين أساسيين لا قيمة للنصوص المنظمة لحقوق الإنسان دونهما.

·                  استيعاب الأساس الفلسفي الذي يؤصّل هذه الحقوق، ويقرر مكانته بين مختلف فروع القانون: حيث لا يمكن فهم فكرة حقوق الإنسان    – كما هي مدوّنة حاليا بمواثيق دولية – إذا لم تكن هناك معرفة بالحقوق الطبيعية، حيث تعتبر حقوق الإنسان الوريث الحديث للحقوق الطبيعية التقليدية، وعليها تقوم.
       ترجع فكرة القانون الطبيعي في أصله إلى تراث الفكر الفلسفي اليوناني والمسيحي في صورتها الأكثر وضوحا، وإن كانت جذورها تمتد إلى أبعد من ذلك.
إن القانون الطبيعي يعتبره شيشرون – وهو أحد الفلاسفة الذين أشاروا للقانون الطبيعي – القانون الصحيح الذي هو العقل السليم المنسجم مع الطبيعة، والذي لا يتغير ولا يزول، ويأمر الناس بواجباتهم، وهو قانون ثابت عند جميع الأمم وفي جميع الأحقاب، وإن من يتمرّد على هذا القانون فهو خارج على نفسه؛ وذلك لأنه بفعله هذا يتنكّر لطبيعة الإنسان.
وإذا كان القانون الطبيعي قد وثّق علاقته بالدين في أكثر مراحله، إلا أن هذه العلاقة أخذت بالتراجع التدريجي، وقد عرّف غروتيوس – وهو الفيلسوف الذي قطع آخر حلقة بين القانون والدين – هذا القانون بأنه مجموعة القواعد التي يكتشفها العقل الصحيح ويمليها على الإنسان.
ومن الواضح أن مفهوم القانون الطبيعي من وجهة نظر فقهاء من أزمنة مختلفة لا يخرج عن كونه مجموعة من المبادئ  أو المثل العليا التي يهتدي إليها العقل والفطرة، والتي تعتبر مثلا أعلى للعدالة.
وبما أن القانون الطبيعي مفهوم حي، فإن فكرته بقيت رغم ما طرأ عليها من تغيّر في الصبغة، فبعد أن كانت ذات صبغة فلسفية أصبحت دينية وسياسية، ثم أصبحت اقتصادية ثم رسمية وقانونية على يد الثورة الفرنسية.
وهكذا أصبحت فكرة الحقوق الطبيعية تأخذ بعدا أوسع من ذي قبل؛ وذلك من أجل تتناغم أفكارها المتطورة مع ما تعانيه شعوب كثيرة من الظلم والطغيان وتسلّط الحكام، الأمر الذي جعل منها مصدر إلهام للقيام بالثورة على الظلم والطغيان.[1]
وبذلك فإن إدراك البعد الفلسفي العام لأساس تكوّن هذه الحقوق يعد مقوّما لفهمها وإدراك آلية تفعيلها على أرض الواقع، وذلك مع مراعاة خصوصية المصدر لكل أمة من الناس في تقرير مثل هذه الحقوق، حيث يتأتى الالتقاء بين المصادر الرئيسة في كثير من المبادئ التي تقررها مثل هذه المصادر، ولكن إدراك هذا البعد لا يحقق القوامة للقاعدة القانونية التي تنظم حقوق الإنسان مالم تتسم بالعمومية والإلزامية.
ثم إن لحقوق الإنسان مكانة هامة بين مختلف فروع القانون، يعد فهمها مقوّما من شأنه أن يعكس تأثيرا وفاعلية لمختلف الوثائق التي تنظمه، حيث له صلات بالعديد منهــا، فالعديد من أحكامه تمت في ظل القانون الدستوري، وفي إطار ذلك الجزء المتصل بأنواع الحقوق والتقسيمات المختلفة لها، كما يحتل القانون الدولي لحقوق الإنسان مكانة هامة في القانون الدولي الخاص، وعلى الخصوص في الدراسات الخاصة بمركز الأجانب.
كذلك هناك دراسات لحقوق الإنسان لها صلة وثيقة بالدراسات المتعلقة بأنواع الحقوق المختلفة التي يعطيها القانون للأفراد وللهيئات في الدولة. وقد استفاد القانون الجنائي من القانون الدولي لحقوق الإنسان كذلك استفادة كبيرة، حيث يوجد قدر كبير من التداخل بين نطاق دراسة كل منها، خاصة الحماية التي يسبغها القانون الجنائي على الحقوق الهامة للأفراد كحق الحياة وحق سلامة الجسد، وحرية التعبير والعقيدة، وغير ذلك من الحقوق، هذا بالإضافة إلى قواعد اشتمل عليها قانون الإجراءات الجنائية، والتي من خلالها يتأصل ضمان حقوق المتهمين في الدفاع، وعدم تعريضهم للضغط والتعذيب لحملهم على الاعتراف.
وتوجد علاقة أيضا بين القانون الدولي لحقوق الإنسان وسائر فروع القوانين الدولية الحديثة، خاصة القانون الدولي للتنمية والقانون الدولي الاقتصادي والاجتماعي، إذ أن هذه القوانين لا تخاطب الدول فحسب، بل تتصل مباشرة بالأفراد، حيث أنهم يساهمون بقدر كبير في إنشاء قواعدها، كما أن هذه القواعد تعدل بشكل مباشر وبعمق مراكزهم القانونية.

·                  عمومية وإلزامية القاعدة القانونية التي تنظمه: لا شك أن مقوّمات حقوق الإنسان – وفق ما أراه – يراد بها ما تعد دونه عديمة القيمة والنفع، وأشبه بالقيم المجردة الغنية بالتنظير، وفي ذات الوقت البعيدة عن التفعيل، وذلك على نحو يكفل لها تعزيز الاحترام بين المجتمعات الإنسانية، فليس من الأهمية وجود إعلان عالمي لحقوق الإنسان دون قوانين تتضمنها اتفاقيات ومعاهدات من شأنها أن تحفظ لهذا الإعلان وجوده وقوته وتأثيره حتى لا يكون حبرا على ورق، وليس ذلك يتقرر ويحترم مالم  تصب نصوص هذا الإعلان في مواد قانونية عامة وملزمة ومجردة يقع من ينتهكها تحت المسؤولية القانونية التي ترتب العقوبة، وهو ما تعاني من عدم فعاليته وثائق حقوق الإنسان المبرمة بين الدول.
       يقرر بارنجتون مور بجامعة هارفر بأنه من المستحيل الحصول على الموافقة بين الأشخاص المطلعين والمفكرين ذوي الاقتناعات السياسية المتناقضة بشدّة حول ما ينبغي عمله لتحسين الأحوال الإنسانية.[2]، لا سيمـا في ظل ضعف في الاحترام للخصوصية المصدرية لمختلـف هـذه الاقتناعـات.
إن نشأة حقوق الإنسان بمصادرها ومقوّماتها ترتبط ببداية تشكّل حياة الإنسان في المجتمعات المتمدنة، كما أن خصوصية النشأة لهذه المنظومة ما زالت ممتدة حتى بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ثم إن هناك خطوط عريضة يمكن أن تكون محلا لالتقاء الكثير من القيم المشتركة في تنظيم حقوق الإنسان، ولكن ذلك يحتاج إلى حسن في النوايا بين مختلف الأطراف يقوم على احترام الخصوصيات التي يتمتع بها كل مجتمع، وذلك على نحو يكفل تحقيق الفعالية والتأثير للنصوص التي تنظم حقوق الإنسان بقدر لا ينتهك من سيادة دولة ما إلا برضاها، وبقدر يراعي خصوصيتها ضمن إطارها الضيّق والموسّع.




[1] الصافي – صفاء الدين محمد عبد الحكيم، حق الإنسان في التنمية الاقتصادية وحمايته دوليا، مرجع سبق ذكره، ص 32.
[2] دافيد بز فورسايث، حقوق الإنسان والسياسة الدولية، مرجع سبق ذكره، ص 229.

Previous Post Next Post