المقصود بمسؤولية المصرف المدنية
 الافلاس المصرفي

مسؤولية البنك التجاري عن أعماله المصرفية في الفقه والنظام

مسؤولية البنكي

مسؤولية البنك عن الوفاء

القانون البنكي


يقصد بالمسؤولية المدنية " المسؤولية التي تقوم حين يخل الفرد بما التزم به قبل الغير قانوناً أو اتفاقاً, والجزاء فيها تعويض الضرر الناشئ عن هذا الاخلال "(1), والمسؤولية المدنية أما أن تكون عقدية ويقصد بها " جزاء عدم قيام المتعاقد بتنفيذ التزامه أو تأخره في هذا التنفيذ وهي تؤدي إلى تعويض الدائن عما أصابه من ضرر بسبب عدم تنفيذ العقد "(2)، و أما أن تكون تقصيرية ويقصد بها " التزام الشخص بتعويض الضرر الناشئ عن فعله الشخصي أو عن فعل من هم تحت رعايته أو رقابته من الاشخاص أو الاتباع أو تحت سيطرته الفعلية من الحيوان أو البناء أو الاشياء غير الحية الأخرى في الحدود التي يرسمها القانون "(3) .
ولبيان معنى مسؤولية المصرف المدنية لا بدّ من تحديد أركانها, وقد ظهرت نظريات عدة بينت ذلك، إذ يذهب اصحاب النظرية الشخصية إلى عدم قيام مسؤولية أي  شخص إذا لم يرتكب خطأ, فهذه النظرية تبحث عن مسلك المسؤول أكثر مما تبحث في الضرر الذي اصاب غيره فأصحابها يشترطون وجود خطأ سواء أكان واجب الإثبات أم كان مما يفرضه القانون، وعليه فإن المصرف لا تقوم مسؤوليته إذا لم يرتكب خطأ يؤدي إلى ذلك، ويبرر اصحاب هذه النظرية رأيهم بالقول انه لا يجوز اعاقة التقدم التكنولوجي وتعطيله بإلقاء المسؤولية بشكل نظامي على عاتق الاشخاص الذين يقوم نشاطهم الانتاجي على المجازفة وتحمل المخاطر التي هي ثمن التطور(4) .
        في حين يذهب اصحاب النظرية الموضوعية إلى اشتراط الضرر لقيام مسؤولية المصرف المدنية ودون الحاجة إلى إثبات خطأ المصرف استناداً إلى فكرة مخاطر المهنة التي مفادها أن كل شخص يباشر نشاطاً خطراً يجب عليه أن يتحمل تبعة نشاطه هذا إن سبب ضرراً لغيره، ويبرر اصحاب هذه النظرية رأيهم بأن الضرر الذي يصيب شخص معين يجب ان يتحمله محدث الضرر وان لم يكن هناك خطأ، لأنه هو الذي اوجده وهو الذي يستفيد من النشاط الذي سببه، و يرون أن النظرية الشخصية غير صالحة في ظل التطور الحالي للصناعة و الإقتصاد وازدياد مخاطر الآلات(5)، غير أنه يترتب على الأخذ بنظرية مخاطر المهنة بشكل مطلق مساوئ متعددة على أكثر من صعيد في الوسط التجاري، إذ إنّ الأخذ بهذه النظرية من شأنه أن يجعل الشخص مسؤولاً عن الاضرار المترتبة على أي نشاط يقوم به الأمر الذي يثنيه عن القيام بأي نشاط نافع، فضلاً عن ذلك إن العدالة تفرض إيجاد نوع من التوازن بين ما يغنمه الشخص من الشيء وبين ما يترتب عليه من مخاطر وذلك على أساس التوازن المعقول وليس المصطنع(6) .
      ويذهب جانب ثالث من الفقه إلى أن المسؤولية المدنية للمصارف تخضع للقواعد العامة ولكن ظروف ممارسة المهنة أدخل المصارف في دائرة ما يسمى بالمسؤولية المهنية أي مسؤولية المحترفين, وهذا الوصف يشدد عليه في التزاماته وفي معيار مساءلته إذ يتطلب منه عناية تفوق عناية الشخص المعتاد نظراً لأهمية الدور الإقتصادي الذي تضطلع به المصارف(7)، و استناداً إلى الرأي المتقدم فإن المصرف يكون مسؤولاً إذا ارتكب خطئاً مهنياً سبب ضرراً للغير، ويتم تحديد الخطأ المهني من خلال تحديد مفهوم التزامات المصرف والعناية التي يبذلها في ذلك وهي عناية تختلف تبعاً لنوع النشاط المهني ودرجة الاختصاص والخبرة أي إنها لا تُحدد في نطاق التزامات العقد فقط وإنما تمتد لتشمل ما تقتضيه العادات المهنية ايضاً(8).
      واهمية هذه النظرية تتمثل بأن المصارف التي تعلم أنها ليست مسؤولة سوى عن الاخطاء التي ترتكبها تقدم بصورة أقوى على زيادة نشاطها واستثماراتها(9)، فضلاً عن أن تطوير معيار الخطأ المصرفي وجعله خطئاً مهنياً يدفع المصارف إلى الاحتياط وبذل عناية أكبر سواء أكان ذلك في ممارسة حقوقها أم في تنفيذ التزاماتها مما ينعكس ايجاباً على مصالح اطراف النشاط المصرفي كافة وعلى الإقتصاد بشكل عام(10) .
      وقد أخذ القضاء العراقي في العديد من قراراته بمسؤولية المصرف المهنية، إذ ذهب في أحد قراراته إلى القول بأنه " لا يطلب من المصرف للتحقيق عن صحة توقيع عميله على الشيك أن يكون لديه خبير بالمخطوطات للقيام بالمضاهاة بل يكفي ان يكون لدى المصرف موظف مختص للقيام بالتحقيق من صحة التوقيع، له خبرة بالموضوع فالعناية المطلوبة من المصرف في هذا المجال هي بين ما هو مطلوب من خبير في المخطوطات وما يتوقع من الرجل العادي ويجب التحقق عن طريق الخبراء عما إذا كان المصرف قد بذل العناية اللازمة للتحقق عن صحة التوقيع على الشيك وفق المعيار المذكور أم لا "(11) .
       والجدير بالذكر إن المصرف يكون مسؤولاً مدنياً متى خرج عن مقتضيات الحرص والواجب المفروض عليه في العمل المصرفي، و يُمكن أن يُسأل مسؤولية إدارية متى خالف أحكام قانون المصارف ويكون مسؤولاً جزائياً متى ارتكب فعل مجرم قانوناً(12) .
       ففي إطار المسؤولية الإدارية يحق للبنك المركزي العراقي في حالة قيام المصرف أو أي مسؤول فيه أو أي شخص آخر بخرق أحكام قانون المصارف أو أي أمر صادر من البنك المركزي أو إذا قام بإدارة عمليات مصرفية غير سليمة و أمينة(13)، بفرض عقوبة واحدة أو أكثر من العقوبات الإدارية استناداً للمادة (56/الفقرة الثانية) من قانون المصارف التي تتمـثل بما يأتي :-
أ– إرسال تحذير خطي للمصرف .
ب– إعطاء أوامر للمصرف .
ج – يطلب أن يقــــــــدم المصرف برنامجاً لما ينوي اتخاذه من اجراءات أو وصفاً مفصلاً لما اتخذه من إجراءات لإزالة المخالفة وتصحيح الوضع .
د– يطلب قيام المصرف بوقف بعض عملياته أو يمنعه من توزيع ارباحه .
هـ- يفرض أي قيود على منح الائتمانات يراها مناسبة . 
و– يطلب مــــــن المصـرف أن يـــــــودع ويحتــــــــفظ بأرصـــــــــدة لدى البنك المركزي العراقي بدون فائدة لفترة يعتبرها البنك ملائمة . 
ز– يطلــــــب من رئيس مجلـــــس الإدارة أن يدعـو إلى انعقاد المجلس لمراجعة ودراسة المخالفات المنســــوبة إلى المصرف و اتخـــاذ الاجراءات الضرورية لإزالتها وفي هذه الحالة يحضر واحد أو أكـــثر من ممثلي البنك المركزي العراقي لاجتماع مجلس الإدارة .
ح– يطلب إلى المــــصرف أن يوقـــــف مؤقتاً أو نهائياً عمل أي مدير مفوض أو مدير فرع معين , تبعاً لخطورة المخالفة .
ط – يطلب أن يقوم المصرف بتنحية رئيس مجلس إدارته أو أي عضو من أعضاء المجلس . 
ي – يحل مجلس إدارة المصرف ويُعين وصياً عليه . 
ك – يفرض غرامة إدارية على المصرف .
     و فضلاً عن العقوبات المتقدمة يجوز للبنك المركزي العراقي أن يفرض عقوبة إدارية على المصرف تصل إلى 5 مليون دينار يومياً إلى أن تتوقف المخالفة أو يتحقق الامتـثال بشرط ألا  تتجاوز 5% من مجموع رأس المال المدفوع في الحالات التالية :-
أ– إذا قـدم المصرف عمـداً إلى البنك المركزي بيانات أو احصاءات أو معلومات ناقصة أو كاذبة .
ب– إذا لم يزود البــــنك المركزي العراقي بمعلومات عن عميل أو بعض مخاطر عملاء معينين أو أية معلومات أخرى يطلبها البنك المركزي العراقي(14) .
     والجدير بالإشارة أن قيام مسؤولية المصرف المدنية أو الإدارية لا تحول دون مساءلته جزائياً إذ يــــــمكن مساءلة المـــصرف جزائياً متى ارتكب فعل مجرم قانوناً(15), كما لو قام بافشاء معلومات سرية لا يجوز للمصرف افشاؤها(16)، أو قام باستعمال محررات مزورة مع علمه بتزويرها(17) .
المطلب الثاني
طبيعة مسؤولية المصرف المدنية
تختلف طبيعة مسؤولية المصرف المدنية تجاه العميل المفلس في حالة رفض فتح الاعتماد عنه في حالة فتح الاعتماد كما تختلف عنهما في حالة الغاء الاعتماد سواء كان محدد المدة أم غير محدد المدة وكما يأتي :




أولاً : طبيعة مسؤولية المصرف المدنية في حالة رفض فتح الاعتماد :
اختلف الفقه في تحديد طبيعة مسؤولية المصرف المدنية في حالة رفض فتح الاعتماد فيما إذا كانت مسؤولية عقدية أو تقصيرية بحسب رأيهم في حق المصرف برفض فتح الاعتماد من عدمه.
إذ يذهب بعض الفقه إلى عدم جواز رفض فتح الاعتماد من قبل المصرف ويعللون ذلك بأن المصرف مرفق عام يلتزم بتقديم الخدمات المصرفية للجمهور كافة و أن هناك حقاً في الائتمان يتمتع به الجمهور على قدم المساواة في مواجهته، و أن العروض المقدمة من قبل المصارف تجعلها في حالة ايجاب دائم فإن اقترن بقبول من قبل الجمهور فلا يحق لها رفض ذلك(18)، فضلاً عن أن القانون العراقي يعاقب كل شخص يرتكب فعلاً من شأنه التأثير على السلعة أو الخدمات أو الاموال فيزيد من اسعارها أو ينقص من عرضها أو يؤدي إلى تجميعها أو حجبها عن الجمهور على وجه يتعارض وسياسة الدولة الإقتصادية(19)، وعليه ووفقاً لهذا الرأي متى ما قدم طلب فتح الاعتماد فيعتبر قبولاً للإيجاب الصادر من المصرف و إن رفض الاخير فتح الاعتماد يؤدي إلى قيام مسؤوليته العقدية متى توفرت أركانها .
في حين يذهب جانب آخر من الفقه إلى اعطاء الخيار للمصرف في رفض فتح الاعتماد من عدمه استناداً إلى مبدأ حرية التجارة ومبدأ سلطان الارادة وحتى لا تكون الاعتمادات الممنوحة من قبل المصارف مصدراً لإغراق المؤسسات التجارية بالديون و من ثم جرها إلى الإفلاس إذ يجب البحث دوماً عن المنفعة العملية للجمهور والمصرف معاً من وراء فتح الاعتمادات المصرفية، و أن القول بكون المصارف في حالة ايجاب دائم هو قول مردود لأن العرض المقدم إلى الجمهور يتضمن تحفظاً ضمنياً يجعله بعيداً عن الايجاب البات ويكون مجرد دعوة الى التعاقد، فضلاً عن أن من يحق له الغاء الاعتماد في أي وقت يشاء إن كان لمدة غير معينة، يحق له من باب اولى رفض ابرامه اصلاً ما دام المصرف يعتبر مسؤولاً عن الضرر الذي يلحق غيره بسبب الاعتماد الممنوح من قبله ومن ثم لا بدّ من ترك الخيار له في قبول أو رفض فتح الاعتماد(20)، بشرط أن يكون رفضه قائماً على اسباب معقولة كعدم جدارة العميل أو عدم ملائته المالية أما إذا كان المصرف متعسفاً في استعمال حقه كرفضه فتح الاعتماد بسبب الانتماء الديني أو السياسي او تَأخر في الإجابة على طلب العميل بفتح الاعتماد أو اعلن رفضه على الملأ بشكل الحق ضرراً بنشاط العميل وبسمعته التجارية, ففي هذه الحالة يحق لطالب فتح الاعتماد ولدائنيه مطالبة المصرف بالتعويض عما اصابهم مـــــن ضرر جراء رفــــض المصرف فـــــــتح الاعتــــماد وفــــقاً لقـــواعد المسؤولية التقصيرية، لأن المصرف لا يمارس نشاطه بهدف تحقيق مصالحه فقط و إنما يجب عليه ايجاد نوع من التوازن بين مصالحه من جهة ومصالح عميله ودائنيه من جهة أخرى، فإن تجاهل المصرف أو اهمل التوازن المطلوب بين مصالحه ومصالح عميله ودائنيه عند اتخاذ قراراته قامت مسؤوليته المدنية(21) .
       والجدير بالذكر أنه كما يحق للمصرف رفض فتح الاعتماد يحق له رفض تجديده أو زيادة الحد الاقصى لمبلغ الاعتماد أو زيادة مدة الاعتماد إذا ما طلب صاحب الاعتماد ذلك قبل انتهاء الاعتماد السابق المفتوح من قبل المصرف استناداً إلى الحجج التي ذكرها الفقه في حالة رفض فتح الاعتماد ابتداءً بشرط أن يكون رفضه مقيداً بعدم التعسف في استعمال حقه ايضاً(22) .
وبناءً على ما تقدم يمكن القول إن قيام المصرف برفض فتح الاعتماد لعميله من دون سبب معقول كخطئه في تقدير جدارة العميل أو قدرته المالية فأدى ذلك الرفض إلى توقف العميل عن دفع ديونه المستحقة ومن ثم شهر إفلاسه، يؤدي إلى قيام مسؤولية المصرف التقصيرية تجاه عميله ودائنيه وكذلك الحال في حالة رفض تجديد الاعتماد أو زيادة مبلغ الاعتماد أو مدته من دون سبب معقول .
ثانياً : طبيعة مسؤولية المصرف المدنية في حالة فتح الاعتماد :
لما كان المصرف حراً في فتح الاعتماد لعميله أو رفض فتحه، فإن قيام المصرف بفتح اعتماد لعميل غير جدير بهدف تحسين سمعته التجارية تجاه غيره مما يدفع بعض الاشخاص إلى التعاقد مع هذا العميل استناداً إلى الوضع الزائف الذي منحه إياه الاعتماد المفتوح من قبل المصرف، يؤدي إلى التساؤل حول حق الغير في مساءلة المصرف وطبيعة مسؤوليته في حالة إفلاس عميلهم رغم منحه الاعتماد ؟
تقضي القواعد العامة بأن كل تعدٍ يصيب الغير بضرر يستوجب التعويض(23)، لذا يمكن القول بأن اقدام المصرف على فتح الاعتماد لعميل غير جدير يستوجب قيام مسؤوليته إذا ما تضرر الغير من جراء ذلك، إلا أن الرأي الفقهي يذهب إلى ضرورة التمييز بين حالتين، الأولى حالة قيام المصرف بفتح اعتماد لعميله وهو يعلم أنه سيُستخدم في الايقاع بالغير أو في تجارة مشبوهة أو يَعلم بأن مصير عميله هو الإفلاس بسبب توقف الاخير عن الدفع أثر ضائقة مالية مستحكمة آلمت به أو أنه شخص غير جدير بالائتمان ولكنه قصد بمنحه الاعتماد تحسين نظرة الجمهور إليه بحيث يظن فيه الثقة والامانة، أما الحالة الثانية فتتمثل بفتح المصرف اعتماداً لعميله اعتقاداً منه بإمكانية اصلاح المشروع أو أن العميل شخص جدير بمنح الاعتماد بعد قيام المصرف بالتحري والاستعلام عن وضعه في الوسط التجاري، و استناداً إلى هذا الرأي يحق للغير في الحالة الأولى مطالبة المصرف بالتعويض وفقاً لأحكام المسؤولية التقصيرية إذا ما توفرت أركانها، أمــــا في الحالة الثانية فلا يحق لهم مطالبة المصرف بالتعويض، لأن الاخير لا يمكن أن ينسب إليه خطأ أو اهمال لحظة فتح الاعتماد ما دام قد بذل العناية المطلوبة منه قبل اقدامه على اتخاذ مثل هكذا قرار(24) .
والجدير بالذكر أن القول بخلاف الرأي الفقهي أعلاه يؤدي إلى خلق انعكاسات سلبية على المشروعات التجارية، فهذه المشروعات لا تستطيع مواجهة ازماتها المالية من دون مدّها بالسيولة النقدية اللازمة من قبل المصارف بشرط أن يكون نشاطها قابلاً للحياة مستقبلاً، وأن رفض تمويل العميل من جانب المصارف خوفاً من قيام مسؤوليته قد يؤدي الى شهر إفلاس الأول علاوة على الاثر السيء الذي تتعرض له البيئة التجارية ككل نتيجة لذلك(25) .

ثالثاً : طبيعة مسؤولية المصرف المدنية في حالة الغاء الاعتماد :
إن عقد فتح الاعتماد يقوم على الاعتبار الشخصي، فالمصرف لا يمنح الاعتماد المطلوب لعميله إلا لثقته بهذا العميل، فضلاً عن أن العميل لا يطلب من المصرف فتح الاعتماد إلا لثقته بأن المصرف سيضع تحت تصرفه المبلغ المطلوب و استناداً إلى الثقة المتبادلة بين طرفي العقد (المصرف والعميل المستفيد) يجب لكليهما تنفيذ التزاماتهما بالطريقة المحددة في العقد(26)، ولكن في حال اخلال أحد الطرفين بالتزاماته يثار التساؤل حول مدى امكانية الغاء الاعتماد من قبل المصرف والاجراءات التي ينبغي على المصرف اتباعها قبل الغاء الاعتماد الممنوح من قبله وطبيعة مسؤوليته المدنية في حال الغائه للاعتماد ؟
إن الاجابة على هذا التساؤل تقتضي التمييز بين الغاء الاعتماد محدد المدة والاعتماد غير محدد المدة وكما يأتي :-
1- الغاء الاعتماد محدد المدة :
إن الغاء المصرف لعقد فتح الاعتماد محدد المدة بإرادته المنفردة يعدُّ خطأ عقدياً يستوجب قيام مسؤوليته العقدية تجاه عميله استناداً إلى مبدأ القوة الملزمة للعقد وإن وجد شرط يخول المصرف حق الالغاء لأن مثل هذا الشرط يجعل وجود العقد متوقفاً على محض ارادة الملتزم مما يجعل هذا الشرط باطلاً وفقاً للقواعد العامة و لا يمكن العمل به في تنظيم العلاقة العقدية بين المصرف وعميله(27) .
      غير أنه يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار أن المصرف لا يقوم بفتح الاعتماد لعميله إلا لثقته بهذا العميل فإن طرأت ظروف خطيرة كان من شأنها تغيير نظرة المصرف لهذه الثقة فلا يمكن القول بعدم جواز قيام المصرف بوضع نهاية لعقد فتح الاعتماد رغم عدم حلول آجله(28)، بسبب اختلال الأسس التي بنى عليها قراره بشأن جدارة العميل سواء من الناحية المتعلقة بشخصه أم المتعلقة بمركزه المالي كما لو توقف عن سداد ديونه المستحقة وكان يعاني من اضطراب شديد مفضٍ إلى شهر إفلاسه قطعاً(29)، أو إذا كشف المصرف تلاعب العميل أو انحرافه في استخدام الاعتماد، ويدعم سلامة موقف المصرف إن استمراره في فتح الاعتماد يعدُّ خطئاً يؤدي إلى قيام مسؤوليته التقصيرية تجاه دائني العميل إذا ما تحققت أركانها(30)، ولكن يشترط في هذه الحالة أن يكون قرار الغاء الاعتماد قائماً على اسباب معقولة و إلا فإن المصرف يعدُّ متخلفاً عن تنفيذ عقد يجعله بالنسبة للعميل مسؤولاً مسؤولية عقدية استناداً إلى العقد المبرم بينهما ومسؤولاً مسؤولية تقصيرية تجاه دائني العميل بوصفه متخلفاً عن احترام الواجب العام المفروض على المتعاقد اتباعه(31) .
       والجدير بالإشارة أن قانون التجارة العراقي نص على امكانية الغاء الاعتماد من قبل المصرف إذا اخل المستفيد بواجب الثقة معه أو صدر خطأ جسيم منه من دون تمييز بين الاعتماد محدد المدة وغير محدد المدة(32)، كما جعل عقد فتح الاعتماد منقضٍ في حالة وفاة المستفيد أو فقده الاهلية أو الحكم عليه بالإفلاس أو بانتهاء شخصيته إذا كان شخصاً معنوياً دون ان يترك الخيار للمصرف في الابقاء على الاعتماد من عدمه(33)، بخلاف المشرع المصري الذي ذهب إلى جواز قيام المصرف بالغاء الاعتماد المفتوح لمدة محددة في حالة وفاة المستفيد أو الحجر عليه أو توقفه عن الدفع ولو لم يصدر حكم بشهر إفلاسه أو صدور خطأ جسيم منه في استعمال الاعتماد(24)، أما المشرع الفرنسي فقد ذهب إلى جواز قيام المصرف بانهاء الاعتماد سواء كان محدد المدة أم غير محدد المدة في حال انهيار مشروع العميل بصورة نهائية أو ارتكابه لخطأ جسيم، إذ نصت المادة (60/الفقرة الثانية) من قانون البنوك على انه  " لا يلزم هذا الاخطار سواء كان الاعتماد محدد المدة أو غير محدد المدة، إذا كان الانهاء بسبـب ظهـور الانهيار النهائي لمشروع العميل أو بسبب خطأه الجسيم " .
ومما ينبغي ملاحظته هنا، أن قيام المصرف بالغاء الاعتماد محدد المدة بسبب صدور خطأ جسيم أو الاخلال بالثقة من جانب العميل يجعله غير ملتزماً بإخطار عميله بالالغاء ولو اتفق الاطراف على ذلك، لأن العلة من الغاء الاعتماد في هذا الصدد تتمثل بتجنيب المصرف فاتح الاعتماد المزيد من المخاطر والاضرار التي قد يتعرض لها في حال ابقائه على هذا الاعتماد(35)، ويدعم هذا الرأي عدم وجود نص سواء في قانون التجارة العراقي أم المصري يقضي بالزام المصرف بإخطار عميله في حال قيامه بالغاء الاعتماد محدد المدة بخلاف المشرع الفرنسي الذي نص صراحة في المادة (60/الفقرة الثانية) من قانون البنوك على عدم التزام المصرف بالإخطار وان اتفق على ذلك في حال انهيار مشروع العميل أو ارتكابه خطئاً جسيماً وسواء كان الاعتماد محدد المدة أم غير محدد المدة .
2- الغاء الاعتماد غير محدد المدة :
إن عقد فتح الاعتماد يعدُّ من العقود المستمرة التي يتتابع تنفيذها والمقرر بالنسبة لهذه العقود ان لكلّ طرف الحق في انهائها بإرادته المنفردة متى كانت غير محددة المدة وذلك عن طريق اتخاذ قرار من قبل المصرف يقضي بالغاء الاعتماد أو عن طريق قيام العميل بعدم استخدام الاعتماد الممنوح له، أي إنّ الغاء الاعتماد في الحالة الأولى يكون عن طريق اتخاذ موقف ايجابي يتمثل باتخاذ قرار عدم الاستمرار في الاعتماد الممنوح أما في الحالة الثانية فيكون الغاء الاعتماد عــن طريق اتخاذ موقف سلبي يتمثل بعدم استخدام الاعتماد(36) .
        وفي هذا الاطار يثار تساؤل حول تحديد مسؤولية المصرف في حالة الغاء الاعتماد غير محدد المدة من دون اخطار عميله واعطائه مهلة مناسبة قبل قيامه بالالغاء ؟
انقسم الفقه في الاجابة على هذا التساؤل إلى جانبين، الأول يذهب إلى اطلاق حق المصرف في الغاء الاعتماد إن كان غير محدد المدة من دون الحاجة إلى اخطار العميل وامهاله فترة معينة، ويبرر أصحاب هذا الاتجاه رأيهم بأن المصرف طالما لم يقترن التزامه بمدة محددة فيحق له الغاء الاعتماد في أي وقت يشاء ولا مبرر لاستلزام الاخطار أو المهلة و لاسيما أن كنا بصدد مشروع متوقف عن الدفع، و أن العميل لدى تسلمه الاخطار قد يعمد إلى سحب صكوك بمبالغ كبيرة بـما يضر بالمصرف, فضلاً عن أن اشتراط الاخطار في بعض العقود المستمرة كعقد الايجار لا يعدُّ تطبيقاً لمبدأ عام، و من ثم لا يمكن مساءلة المصرف وفقاً لهذا الرأي في حال اتخاذه قراراً بالغاء الاعتماد غير محدد المدة(37) .
أما الجانب الثاني من الفقه فيذهب إلى وجوب التمييز بين حالتين، أما الأولى فتتعلق بحدوث أمر يهز ثقة المصرف بالعميل سواء كان هذا الأمر متعلقاً بظروف العميل الشخصية أم المادية كما لو حُكم عليه في جريمة احتيال أو اصدار صك بدون رصيد ففي هذه الحالة يحق للمصرف الغاء الاعتماد تطبيقاً لمبدأ قيام عقد فتح الاعتماد على الاعتبار الشخصي ومن دون الحاجة لإخطار العميل بقرار الالغاء، في حين تتعلق الحالة الثانية بالغاء المصرف لعقد فتح الاعتماد بإرادته المنفردة طالما لم يتفق على تحديد مدة معينة له خارج اطار الاعتبار الشخصي, ففي هذه الحالة لابدّ من قيام المصرف بإخطار عميله بقرار الالغاء(38) .
و الزام المصرف بإخطار عميله بقرار الغاء عقد فتح الاعتماد غير محدد المدة في الحالة الثانية أعلاه يستند إلى مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود ومن أجل تمكين العميل من الايفاء بالتزاماته تجاه الغير وعدم تعريضه لمواقف مالية صعبة تجاههم و من ثم التأثير على مركزه المالي وسمعته التجارية هذا من جهة, ومن جهة أخرى لا بدّ من افساح المجال للعميل من أجل البحث عن مصادر تمويل ثانية تعوضه عن مصادر التمويل الملغاة(39)، ووفقاً لهذا الرأي فإن مسؤولية المصرف لاتقوم في الحالة الأولى وإن اُلغي الاعتماد من دون اخطار العميل بذلك لكون الأخير قد أخل بالثقة الممنوحة له من قبل المصرف، أما في الحالة الثانية فتقوم مسؤولية المصرف العقدية تجاه العميل المستفيد ومسؤوليته التقصيرية تجاه دائني العميل إذا اُلغي الاعتماد من دون سبب معقول و من دون اخطار العميل بالإلغاء ما دام العميل لم يرتكب عملاً يؤدي إلى الاخلال بالاعتبار الشخصي القائم عليه عقد فتح الاعتماد .

Previous Post Next Post